الوزير لغة من الوزر وتعني الحمل والمساعدة. في لسان العرب لابن منظور”آزره عل الأمر بمعنى أعانه وقواه”. والوزير ذكره القرآن بمعنى المساعد المآزر والمشارك في الأمر، “وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون”( سورة القصص،الآية 34 ). “واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري”. (طه آيات 29_30 _ 31_ 32). أما في الحوليات السياسة المغربية التقليدية فهو قائد كبير منفذ لأوامر السلطان أو مستشار في أحسان الأحوال، ويبدو أن دراية الرجل بالأمور السياسية أو الحربية أو المالية هي الشروط التي يجب أن تتوفر فيه وما دون ذلك من نسب أو عصبية أو عقيدة فلا قيمة له، حيث يتحدث التاريخ عن وزراء في غير الملة كانت لهم حظوة كبيرة. هو إذا رجل يتجاوز خبرة قيادة وتسيير القبيلة إلى التخصص في قيادة رجال وتدبير أمور المخزن. فنقول وزير المال أو أمين الأمناء أو “مول الشكارة”، ووزير البحر ومعناه غالبا وزير الخارجية، ووزير الحرب أو العلاف، ووزير المشور.. وغيرهم غير كثير. وتشترط فيه الوجاهة في قبيلته أو جهته أو مدينته، وكذلك مال يذود عن الجاه الذي بدوره يقوي ثروته، في دائرة غالبا ما تنتهي بموت السلطان أو نكبة أو دسيسة.

هذا في الزمن الذي مضى. أما الوزير في الدولة العصرية فهو عنصر في الحكومة. ودون الدخول في التدقيقات الفقهية والقانونية، فهو يشارك في الجلسات والاجتماعات الوزارية، ويسهر على تدبير قطاعه بالتسيير والتدبير والمراقبة. كما يمكن أن يعد مشاريع مراسيم وقوانين، وسن مسطرات وكتابة مذكرات وفق التواصل العمودي. كل ذلك في إطار السلطة التنفيذية التي تراقبها السلطة التشريعية.

الذي يهمنا في هذه العجالة هو الإدراكات اليومية للناس لهذا الرجل أو المرأة. ما هو وضعه السوسيولوجي؟ وما وظيفته في المجتمع؟ ما هو نفعه وما فائدته؟ وماذا يمكن أن يقوم به؟ وأين وكيف؟ وما مدى سلطته؟ وإلى أين يصل طول يده؟ وما حجم ثروته؟ وما هو العلم أو الكفاءة التي أهلته لذلك؟ إلى غير ذلك من التساؤلات.

في قصيدة ملحونية شعبية مغربية مشهورة تغنيها فرقة ناس الغيوان الرائدة تحت عنوان جميل: “النحلة شامة”. وهو حوار بديع بيانا ومجازا ومعاني بين الشاعر والنحلة حول أمور الحياة والناس، وحول صفات النحلة ودورها في الوجود، النحلة التي تبز الذهب والفضة كما تذكر القصيدة ترمز إلى كل مبدع، والشاعر خاصة.

 في هذه التحفة يوجد اختصار لبيب لخاصيات الوزير وصفاته ودوره في المجتمع. تقول القصيدة في بيت مركزي: “ما عندي وزير طماع يداري أهل المال”. الوزير إذا بحكم وضعه مرتبط بالطمع وجمع المال، ربما لإنفاقه على الأتباع وشبكة أهل المصالح المتضاربة. لأن الوزير، كما القائد وكل ذي جاه، لا يمكن أن يكون بخيلا، ولما كان الكرم مكلفا وجب جمع المال، ومن ثمة صفة الطمع. الصفة الثانية المداراة والمصانعة، إذ عنده تلتقي أطماع أخرى وتتصارع في إطار سلوك المنافسة وما يجره من حسد وحقد وتضارب الآراء والمواقف والقرارات، على الوزير أن يدبر أمرها بالنفاق والمجاملة والمرونة اللازمة حتى تتصالح التناقضات، ويقبل الحد الأدنى من الصراع. لكن قبل ذلك كله لابد من الولاء الأعمى لأهل النعم، ولا بد من التملق والزلفى والتقرب من أهل القوة، وهو ما لا يتقنه كل ذي مجد قديم يمنع صاحبه من النزول درجات في بيع ماء الوجه، وكثير أهل “السعادة” من أهل الخضوع “أما أهل الترفع والشمم لا يحصل لهم غرض الجاه فيقتصرون في التكسب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة” بتعبير ابن خلدون.

صفة أخرى تضيفها القصيدة للوزير وهي كونه مبلغ الخبر للسلطان، الوزير هو الوسيط بين الحاكم والمحكوم، هو الفصاحة التي لهارون والتي يحتاجها موسى كي يصدقه الناس ويكتسب الأتباع. لكن بحكم الصفات السابقة من طمع ومداهنة وتدبير لحاجات قوى الضغط تضيع صفة التبليغ في الطريق، وتحفر الهوة بين السلطان الطبيب والشعب المريض، “السلطان طبيب والراعي مضرور والوزير ليس يبلغ لخبار”.

الوزير وإن كان بعيدا جدا فالمطلوب أن يكون قريبا ولو بمساعديه المحليين ” الوزراء الصغار” في فيلاتهم وحدائقهم ومكاتبهم وسياراتهم. هؤلاء هم من يمثل السلطة وهم من يراهم الناس من خلف زجاج دوما، والاتصال بهم يكاد يكون مستحيلا أو مؤلما أو بواسطة.

هذه بعض الإدراكات الموثقة والمكتوبة والحاملة لبعض صفات المعرفة النخبوية، فكيف تتدبر الشفهية الأمر؟ وما الوزير في الاستعمال المعرفي اليومي في الأسواق والمقاهي والحارات؟

أول ما لفت انتباهي في كلام الناس عن الوزير وصف المسافة بينه وبينهم بالبون الشديد: “أنت فين وأنا فين”، ومن ثمة عدم القدرة على تكهن ما يقع في مجرة الحكومة وكواليسها. “هل يأكل الوزير كيلو لحم يوميا؟” سأل أحدهم. وآخر تخيله يفطر بعصير خرفان، وثالث يستفسر عن أثاثه وأكسسوارات الحمام والمرحاض .. ومن هنا صعوبة الجواب، لأنه حسب الناس سيدخل ضمن التخمين فحسب. والبعد ليس في المسافة فحسب، بل في الحظ والحظوة والسلطة والمجد والجاه: “الوزير بيبان السماء والأرض ليه مفتوحة”. أن تختار(بتاء مرفوعة) وزيرا في حكومة أربعين شخصا بين ثلاثين مليونا من الناس يعني أن نجمتك هي المسؤولة وأن السماء راضية عنك. وبعد النجوم وأبواب السماء تعطى مفاتيح رزق الأرض من شقق وفيلات وضيعات وأسهم وأرصدة وقدرة على تمرير الملفات حقا وباطلا، وجعلها لا تقف في الممرات المظلمة للبنايات الرطبة والحزينة. 

الوزير المساعد المآزر إذا ليس له وجود في إدراك الناس: “قاضي حاجته هو واحبابو”، حتى إذا ما ساعد فهو يساعد الذي يقدر على رد الجميل ورد المنفعة بأختها أو أفضل. نحن في منطق الربح والخسارة وتنمية الرساميل المالية والرمزية، وليس في مؤازرة السلطان الحكم والدولة الرعاية. وهذا ما يفسر الحملات الانتخابية المحمومة والترحال السياسي.

موضوع آخر يتداوله الناس وهو الحديث عن تفاوت الوزراء في المراتب والأهمية، فالحس العام مدرك بالتجربة والحدس الأهمية القصوى لوزير الأمن العام والدين والشكارة والخارجية، “هادو هما الوزرا والآخرين غير تابعين”. بمعنى أن المسافة البعيدة تتضاعف عند مستوى حظوة بعض الوزراء لدى الدولة إلى حدود العجز عن الوصف والتصور. 

الوظائف الدستورية للوزير لا تهم الناس، أن يشارك في الاجتماعات أو أن يقترح قوانين أو ينفذ قرارات البرلمان أمور معقدة، وتبقى وظيفة المراقبة وحدها أساسية عندهم” جالس ف الرباط ماشايف والو” ” خصو يهبط الارض ويساعد الناس”، الوزير وإن كان بعيدا جدا فالمطلوب أن يكون قريبا ولو بمساعديه المحليين ” الوزراء الصغار” في فيلاتهم وحدائقهم ومكاتبهم وسياراتهم. هؤلاء هم من يمثل السلطة وهم من يراهم الناس من خلف زجاج دوما، والاتصال بهم يكاد يكون مستحيلا أو مؤلما أو بواسطة.

أمر آخر يذكره الناس كثيرا بصدد الوزراء وهو قسمهم المقدس أمام الملك، والذي تعتبر خيانته مروقا وسبب اللعنات التي تصيبهم هم وذريتهم. ما دام الوزير بعيد فلا يمكن أن يراه أحد، وما دام هو المراقب فلا يمكن أن يراقبه أحد. هذا المخلوق الخرافي، وغيره من المدراء وأهل المكاتب، لا يقدر على تأديبهم سوى المنتقم العظيم. 

ثلاثة أمور يتمثل بها الناس في الحياة اليومية الوزير؛ بعد المسافة والبون الشاسع بين حياتهم البئيسة، والبسيطة في أحسن النعوت، والحياة المترفة والسرية المتخيلة للموظف الكبير؛  والزلفى والولاء؛ واليد الطولى. جمع فصامي للخنوع والتذلل لمن فوق، والكبرياء والترفع  تجاه من تحت، ومنها هذه الأمور تتفرع الخصائص التي تصب كلها في الطفيلية واللاعضوية .

ورغم كل “التحامل” على دور الوزراء في المجتمع” كن ما كاينينش احسن” فالناس يلتمسون لهم الأعذار في الثروة والجاه ” باش غادي يوكل الناس، ويدير الخير إلا بغا؟”.

  وقد ويذكر بعض الوزراء باحترام كبير أحيانا، خاصة من قدم إصلاحا بارزا في مجال حيوي واضح المنافع مثل التعليم أو الصحة أو التشغيل، أو من استطاع منهم الاستقالة.