رغم كل الجدل الذي صارت تثيره جميع الحركات الاجتماعية والشعبية التي عرفها المغرب منذ سنة 2011 إلى الآن، ورغم تباين الآراء والمواقف منها ما بين مؤيدين ومعارضين ومتحفظين، فإن هناك حقيقة واحدة ثابتة يجمع عليها الكل، وهي أن هذه الحراكات صارت تتجاوز بكثير كل التنظيمات الحزبية الرسمية، بل وحتى الهيئات النقابية والحقوقية وجمعيات المجتمع المدني.

هذا المعطى، وإن بدا للوهلة الأولى بديهيا، فإنه يحمل في طياته دلالات عميقة وإشارات بالغة الأهمية والخطورة لكل المعنيين بمستقبل هذا الوطن. فطابع العفوية الذي صارت تكتسيه معظم الأشكال الاحتجاجية بالمغرب، خلال السنين الأخيرة، دليل قاطع على اتساع الهوة ما بين الشارع والتنظيمات السياسية والنقابية في البلاد، وافتقاد الحياة السياسية لامتدادات شعبية حقيقية، وضعف قدرة الأحزاب والنقابات والجمعيات على تأطير ما صار يعج به الشارع المغربي من طاقات ومطالب ومظالم.

ولهذا، فقد صارت السلطة الحقيقية في البلاد، مع كل حراك، تجد نفسها في مواجهات مباشرة مع مواطنين غاضبين، في غياب كلي للوسطاء الذين من شأنهم التخفيف من وطأة المواجهات وتيسير الوصول إلى حلول مرضية ومقنعة، كما هو معمول به في الدول الديمقراطية. بل والأدهى من ذلك، فحتى الموظفين الذين تكلفهم السلطة الحاكمة، أو الإدارة، بلعب دور الوسيط والمفاوض يبدون غير مؤهلين بتاتا للاضطلاع بهذا الدور الحساس والشائك، بسبب نوعية التكوين الذي تلقونه وطبيعة الأعمال والمهام التي تمرسوا عليها، وهذا إشكال آخر.

لقد ظلت السلطة الحاكمة، خلال عقود مضت، تراهن على صمت واستكانة هذه القوى من أجل فعل كل ما تشاء بالمجالات السياسية والحقوقية والمدنية من خلال بلقنتها وتدجينها وتلجيمها، وبالتالي إضعافها

وحينما تعمد السلطة إلى استعمال التنظيمات الحزبية والجمعوية الرسمية كأذرع سياسية ومدنية في مواجهة الحراكات الشعبية، فإنها تزكي قناعات الشارع بأن هذه التنظيمات صارت تشكل طرفا، ولو غير مباشر، في الصراع، ولا يمكنها والحال هذا أن تلعب دور الحكم أو الوسيط.

وكما هو معلوم، فغالبا ما تكون المطالب التي ترفعها مختلف الحركات الاحتجاجية الشعبية بسيطة وعادلة ومشروعة، إلا أن ضعف قنوات التواصل ما بين الفئات المتضررة والمظلومة والسلطة الحاكمة، وضعف قدرة هذه الأخيرة على الإنصات لنبض الشارع، يجعل هذه المطالب تتخذ أشكالا نضالية ضخمة وعنيفة أحيانا.  كما تبدو السلطة وكأنها غير متهيئة للتعامل مع هذا النوع من الحراكات الأفقية.

هناك، إذن، قوى حية على هامش الحياة السياسية المغربية المعطوبة والمتكلسة، تبحث لنفسها عن قنوات غير رسمية لإسماع صوتها وإبلاغ مطالبها ومظالمها لمن يعنيهم الأمر، ولم يعد ممكنا الاستخفاف بها مطلقا.

لقد ظلت السلطة الحاكمة، خلال عقود مضت، تراهن على صمت واستكانة هذه القوى من أجل فعل كل ما تشاء بالمجالات السياسية والحقوقية والمدنية من خلال بلقنتها وتدجينها وتلجيمها، وبالتالي إضعافها، وذلك كله بهدف جعل التنظيمات المكونة لهذ الحقول فاقدة للسند الشعبي؛ إلا أنها لم تكن تعلم، أو تجاهلت، أن في ذلك كله نوع من اللعب بالنار، خاصة وأنه قد صار اليوم لهذا الهامش صوت صداح، مزعج ومؤثر، قد يعتبر من باب المقامرة بمستقبل الوطن الاستهانة ما هو بصدد التعبير عنه وإنتاجه. كما أن هذا الهامش، في الآن نفسه، أصبح يتمطط تدريجيا ليشمل فئات شعبية عريضة ومتشعبة يوحدها اليأس والإحباط والحكرة وانسداد الآفاق في وجهها إلى جانب الإيمان بأن الحقوق تنتزع ولا تعطى.

 من جهة أخرى، تبدو السلطة الحاكمة بالمغرب، في كل مناسبة، مكتفية باستعمال الحلول السهلة والمسكنات الظرفية لإطفاء شرارات الغضب بالمناطق التي تشهد حراكات شعبية، لأنها ربما تعتقد أن انحصار هذه الحراكات من الناحية الجغرافية في مدن أو قرى محددة، وفئوية بعض المطالب التي تعبر عنها يجعلها في مأمن، وبالتالي في غنى عن توظيف طاقات وإمكانات كبرى وحلول حقيقية لمعالجة دوافع هذه الحراكات الاحتجاجية. إلا أن هذه المقاربة تبدو قاصرة وتنم عن ضعف بصيرة لدى من يتحكمون في زمام أمور هذا الوطن، لأن توحد كل قوى الهامش بالمغرب في حراك واحد سيكون مزلزلا لا محالة، وسيحدد حتما مغرب ما قبل وما بعد هذا الحراك.

إن كل الحراكات الاجتماعية التي عرفها ولازال يعرفها المغرب تنم عن فشل ذريع للمقاربة التنموية بالبلاد خلال العقدين الأخيرين، سواء من خلال ما سمي بسياسات المشاريع الكبرى، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أو عبر السياسات “الحكومية” المفتقدة للبعد الاجتماعي والمرتكزة على أسس ليبرالية-رأسمالية متوحشة، والتي لا تزيد الفوارق الطبقية ما بين مختلف الفئات الاجتماعية إلا اتساعا، إذ تزيد الغني غنى بينما تعمد إلى تفقير الفقير.

ويمكن فهم هذه الحراكات الاجتماعية أيضا على أنها مؤشر واضح على جمود وصورية المشهد السياسي المغربي في شكله الحالي، والذي صار عاجزا كليا عن استيعاب كل الأفكار والمبادرات والطاقات والانشغالات الشعبية والجماهيرية. كما أنها تعيد طرح تساؤل إشكالية الأطر داخل الإدارة المغربية ومدى تأهيلها لمعالجة التحديات الاجتماعية الكبرى التي سيجابهها المغرب في القادم من العقود.

إن الاقتصار على “الفزاعات” والحلول النسبية والظرفية في مواجهة هذه المؤشرات الخطيرة قد يكون إنذارا بكارثة اجتماعية، لا قدر الله، على المديين القريب والمتوسط. فليس من مصلحة الوطن في شيء أن يستمر هذا الاحتقان القائم حاليا ما بين السلطة وقوى الهامش، والذي إن لم تتم معالجته بالوسائل الديمقراطية، المرتكزة أساسا على العدالة الاجتماعية، قد يتحول إلى عداء، ثم إلى مواجهات مفتوحة بين الطرقين.