لم يكن قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا مفاجئا فحسب، بل جاء ليعكس حجم التخبط الذي يعرفه ترامب على العديد من المستويات خاصة بعد إدانة مجلس الشيوخ بالإجماع لحليفه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي.

هذا الانسحاب يأتي في ظرفية استثنائية تمر منها منطقة الشرق الأوسط .. ظرفية تتسم بالتعقيد والحساسية، إذا اعتبرنا أن هذه المنطقة وبسبب عوامل جيوسياسية واستقطاب إقليمي حاد بين إيران والسعودية، وبسبب الحضور الوازن لتركيا كقوة إقليمية صاعدة، وبسبب التوترات التي يعيشها لبنان والعراق واليمن والبحرين وسوريا بشكل خاص، وبسبب الاحتقان المتزايد بين حزب الله وإسرائيل، بالإضافة إلى التحولات العميقة التي تعرفها دول الخليج خاصة بعد إقدام الدول الأربعة على فرض الحصار على قطر .. كل هذه العوامل وغيرها جعلت المنطقة فوق صفيح ساخن.

لقد ظل ترامب يفاوض بقوة للحصول على نصيبه من كعكة سوريا، وكان في ذلك يستعمل التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، كما يستعمل ورقة الحضور الإيراني القوي على الأراضي السورية – في تناغم مع إسرائيل – كما وظف استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي كوسائل ضغط لتحقيق أهدافه التي لا تزيغ عن المنافع الاقتصادية التي يمكن أن تساعد الاقتصاد الأمريكي وتحدَّ من الازمة الاجتماعية المتفاقمة ببلاد العم سام.

هذا الانسحاب يُبيِّن بما لا يدع مجالا للشك أن مصلحة أمريكا فوق كل الاعتبارات مهما علا شأنها. وأن شعارات “الديمقراطية” و “حقوق الإنسان” و”محاربة الإرهاب” و”انتهاك القانون الدولي الإنساني” .. كلها يافطات تُرفع فقط لتعزيز مكانة أمريكا وتقوية جانبها في مفاوضات تقسيم الغنائم.
هو إذن موقف يعكس بقوة شعار ترامب “أمريكا أولا” وليست له في نظري أي علاقة بتوجيه ضربة لإيران على عكس ما ذهب له بعض المحللين السياسيين لأن الإقدام على مثل هكذا تخطيط يحتاج إلى عدة عوامل وعلى رأسها عامل الزمن الذي يخون ترامب، كما يحتاج إلى تحالف دولي كبير ومؤثر وهو ما ليس متوفرا أمام الإدارة الأمريكية في ظل غضب الحلفاء من السياسة الأمريكية، كما يحتاج كذلك إلى جبهة داخلية قوية، وهو ما يفتقده الرئيس الأمريكي، حيث الولايات المتحدة الأمريكية أكثر انقساما، والصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أوجه، والملفات الاستراتيجية غبر محسومة في ظل تلكؤ الإدارة الأمريكية في مباشرتها نظرا للصراع المؤسسي بين أجنحة الدولة وسلطاتها وخاصة ما يتعرض له من ضغط الكونغرس والإعلام، بالإضافة إلى أن الخلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي تطفو على السطح وتنضاف إليها خلافات ترامب مع العديد من كوادر حزبه.

انسحاب أمريكا من سوريا والمرتكز على براجماتية ترامب لا يخفي ضعف أمريكا وعدم قدرتها على المضي قدما في كل جبهات الصراع التي فتحتها داخليا وخارجيا.. فهي منقسمة على ذاتها، وتسير في عزلة دولية بعد قرارات الانسحاب المتتالية .. من اليونسكو أواخر سنة 2017 وانسحاب و م أ من اتفاقية باريس للمناخ في يونيو 2017 ، وانسحابها كذلك من الاتفاق النووي مع إيران في ماي 2018 وما خلفه من تداعيات على المصالح الاقتصادية الأوربية، بالإضافة إلى إعلان ترامب في أكتوبر 2018 احتمال الانسحاب من اتفاقية حظر الأسلحة النووية  المبرمة مع روسيا سنة 1987.. بالإضافة إلى العلاقات التي ازدادت توترا مع روسيا والدول الأوربية دون إغفال توتر العلاقات الاقتصادية مع التنين الصيني بسبب إجراءات الحمائية الجمركية المبالغ فيها، دون أن نغفل التوترات مع المكسيك وفنزويلا …

وفي سياق هذا القرار الفجائي لا يمكن القفز على تصاعد التأثير التركي بالمنطقة وبداية تشكل دولة كبرى بالمنطقة قد تتحول في القريب إلى رقم لا يستهان به في المعادلة الجيوستراتيجية نظرا لموقعها الجغرافي بين ثلاث قارات وقوتها العسكرية والاقتصادية وزخمها السياسي خاصة بعد تعديل نظام الحكم وإفشال الإنقلاب وما يتمتع به رئيسها رجب طيب أردوغان من سمعة وقيمة دولية…

وعلى هذا الأساس فسياسة تركيا هي الأكثر نجاعة في الساحة السورية، فقد تمكنت الدولة التركية من فرض حضورها في رقعة سوريا وتحوَّلت إلى لاعب أساسي، بل وفرضت على جميع المتدخلين مراعاة مصالحها. بعد أن كان دورها ضعيفا مترددا متأرجحا بين وفائها لحلفائها بالناتو وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وبين توجسها من التقارب الهجين والغريب بين أمريكا والأكراد بالمنطقة – من خلال دعم قوات سوريا الديمقراطية – مما يشكل خطر على أمنها الاستراتيجي، وبعد التوتر الكبير الذي عرفته العلاقات التركية الروسية عقب إسقاط قوات الدفاع الجوية التركية المقاتلة الروسية سوخوي 24 نهاية سنة 2015.
ورغم تكالب أطراف عدَّة على تركيا لإضعافها ومنعها من مواصلة حضورها الوازن على الساحة الدولية، إلا أن كل مناورات أمريكا ومؤامرات الدول الغربية والعربية قد تحطمت على صخرة الواقع التركي.. وظهر أردوغان بمظهر الزعيم الذي يحظى بثقة شعبه بشكل ديمقراطي.

أما التحدي الأكبر لتركيا فهو إدارة الاختلاف الكبير في الرؤى والتصورات حيال سوريا مع إيران وروسيا، وتفادي أي انزلاق قد يعصف بالمنطقة ككل، دون إغفال موقف السعودية والإمارات اللتان سترفضان أي حضور لتركيا على جغرافية سوريا.

إيران هي الرابح الأكبر من انسحاب القوات الأمريكية من سوريا لأنها ستبسط سيطرتها ميدانيا وتكون الحدود البرية بين إيران وسوريا بالتالي آمنة، كما أن ذلك سيحقق مقولة الهلال الشيعي ويرسمها على الأرض. وحينما نتحدث عن الهيمنة على الأرض فذلك يعني جني الثمار اقتصاديا، وهو ما كانت تسعى إيران إليه دوما، خاصة وأنها تحمل خطاب التصدي لعدو الأمة الكيان الصهيوني.

أما الخاسرون من قرار ترامب بالانسحاب من سوريا فهم كُثر من ضمنهم فرنسا وألمانيا وبريطانيا وأكراد سوريا وغيرهم لكن قلق إسرائيل والسعودية بالغ..  فالعربية السعودية تتجرع مرارة هذا الانسحاب بألم كبير خاصة وأنه يصبُّ بالدرجة الأولى في مصلحة إيران ومن يدور في فلك تحالفها الذي يتسع ويتقوى بالمنطقة. كما أنه يأتي مباشرة بعد الضربات الموجعة التي تلقتها المملكة السعودية من مجلس الشيوخ الأمريكي بسبب اغتيال الشهيد جمال خاشقجي والحرب في اليمن. أما بالنسبة لإسرائيل فإن القرار سيُبدِّد كل ما يعتبره الاحتلال “منجزات” تحققت خلال السنين الأخيرة من خلال تدخلها المباشر في الأراضي السورية عبر ضربات جوية لإعاقة رغبة إيران في التواجد عسكريا في سوريا وإحباط عمليات نقل السلاح إلى الجنوب اللبناني من طرف حزب الله.

لكن .. هناك حقيقة مُرَّة نتجرعها بألم هي أن كل الحروب والصراعات التي تدور رحاها في المنطقة العربية دائما ما تجد الغرب هو الرابح والمبادر والمؤثر، في حين تظل الدول والشعوب العربية هي الضحية.. وأن نهاية كل صراع بالمنطقة لا يتم إلا عبر السيطرة على الثروات التي تزخر بها، وأن كل التنازلات التي يجب تقديمها لحلحلة أي صِدام أو نزع فتيل أي توتر كيفما كان لا بد أن يكون على حساب الدول العربية.