نعناع انجيلا ميركل
في السياسة ، الرموز ابلغ من الخطابات ، وهذا معروف في علم السياسة ،بحيث كل حركة تقوم بها الشخصية السياسية هي عبارة عن تعابير ورسائل توجه في اتجاه ما او لغرض ما . فما هي الرسائل التي ارادت المستشارة الألمانية ان توصيلها للنخب السياسية بالمغرب وهي تشتري بضع قبضات من النعناع وخلطات من الأعشاب ألمعطرة ؟ .
آراء أخرى
ألا تكون المستشارة الألمانية تقدم درسا في التواضع السياسي للنخب السياسية وهي زعيمة دولة قوية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا في اكبر تجمع اقتصادي وسياسي ألا وهو الإتحاد الأوربي ، ذلك التواضع الذي يسلك الطريق نحو توجيه العناية لشرائح اجتماعية لا تدخل في الدورة الاقتصادية ولا في حسبان الإحصائي الذي غالبا ما يهتم بأرقام اعمال المؤسسات الكبرى التي تعمل وفق منظور اقتصادي رأسمالي لا دخل لما هو انساني واجتماعي في ادبياتها سواء في المدى القصير او ألطويل وكل ما شابه ذلك القبيل الي يعتبر عواطف لا يسمح لها بالتداول في منطوق الشركات الكبرى .
فإذن لما جاءت المستشارة ميركل لتقتني النعناع بالمدينة القديمة بمراكش على هامش حضورها للمؤتمر الدولي حول الهجرة كانت مقتنعة بأنها تفعل ما كان يجب أن يقوم به كل سياسي تجاه هذه الشريحة من المجتمع والتي تساهم في اقتصاد البلاد وإن من زاوية قد تبدو للاقتصادي غير ذات جدوى ألا انها اجتماعيا تساهم في ربط اواصر التضامن والتواصل بين افراد المجتمع وان كانت المادة المتبادلة نعناعا او معدنوس او سواك او أي شيء قد يبدو غير ذات اهمية اقتصادية ومالية لكنه يجمع بين افراد مجتمع يتعايش في سلم وسلام همه الوحيد هو تنمية البلاد والعباد لما فيه خير الجميع ، فتلك اللحظة التي يقف فيها الزبون مع بائع النعناع او اي شيء يعد بسيطا للوهلة الأولى غير ان التعمق في كينونة الحدث تدخلنا لتماسك وتعضد الأفراد بعضهم ببعض عبر مسائل غير ذات بل كقبضة نعناع مثلا التي قد تكون وسيلة لبناء سد منيع ضد التفكك الاجتماعي والفر دانية والعزلة التي كلها تكون سببا في الكثير من المشاكل النفسية والاجتماعية كالانتحار وانفصام الشخصية وحنى الجنون الذي بعضه يؤدي الى الهجرة عبر قوارب الموت بالإضافة الى ما يترتب عليه كل ذلك من اضطرابات قد تتجه بالشخص الى ارتكاب جرائم واعتناق معتقدات غير منطقية مما يجعله ضحية تعبئة وغسل دماغ من قبل الإرهاب ومروجي المخدرات والدعارة .
إن مراكش وهي في جو مناخ مؤتمر دولي حول الهجرة تستقبل ميركل وكأن لسان حالها يقول لكل المؤتمرين ” بيع النعناع ولا الموت في البحر ” تهافتا وراء حلم الجنة الأوروبية التي هي بدورها تعاني مشاكل عديدة وما احتجاجات السترات الصفراء لخير دليل على ذلك . إن المستشارة الألمانية المعروفة بالتواضع والواقعية والعمل خطوة خطوة سواء في المجال السياسي الوطني او في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية ويلقبها البعض بالمرأة الحديدية نسبة الى مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية في تسعينات القرن الماضي وهناك من يطلق عليها بسمارك الجديد او ملكة اروبا. لم تكن لتذهب لبائع النعناع من أجل النعنان بل حملت رسالة انسانية واجتماعية وسياسة واقتصادية لتقول بكل ثبات اننا قصرنا في حق مثل هذه الشرائح الاجتماعية ولن تنل قسطها من الرعاية من قبل اصحاب القرار والرقي بهم بطريقة من الطرق ولن نعتبرهم فقط وقودا لملئ صناديق الانتخابات و ملئ القاعات والتجمعات ،لابد من التفكير العميق في كل تلك الشرائح الاجتماعية البسيطة التي لا ترضى أن تمد يدها بل تكد وتعمل بجد وفق ما لديها من قدرات مادية وفكرية ولكنها لها شموخ وعزة اليس بالعزة يحيا المرء ؟ .
جاءت المستشارة لتقول لكل الحاكمين المحليين والمركزيين أن السياسة هي الخروج بين صفوف الشعب وملامسة مشاكله اليومية ومعرفة كيفية ايجاد الحلول لها وفق مفهوم واقعي وسريع ، وليس ممارسة السياسة وراء مكاتب مكيفة بعيدة عن مواقع الحدث الشعبي الذي ينتظر في كل لحظة عناية في شكل علاج او مقعد بالمدرسة او منصب شغل لأن وراء كل حياة حيوات ووراء كل مشكل فردي مشاكل جماعية ، فالبطالة ظاهرة مرضية اجتماعية تنتقل كالنار في الهشيم من البيت الى الحي الى المدينة والقرية الى الدولة ، فأثرها ينعكس بالسلب على كل الميادين ، فالاقتصاد ينحصر والمجتمع تنكب عليه شتى انواع الانحلال الدعارة التسول الرشوة العنف. .. إن الدرس الذي تقدمه المعلمة ميركل لكل سياسي هو عدم تهميش الشرائح الاجتماعية التي تقدم خدمات بسيطة او تبدو كذلك ، والتي قد تبدو غير مندمجة في الدورة الاقتصادية واعتبارها غير مساهمة في فيه وان كان كذلك بالتحليل الضيق والملاحظة غير الدقيقة .إن هذه الشرائح الاجتماعية تساهم في ترابط واستقرار المجتمعات عبر تواصل يومي يتم فيه تبادل الأخبار والعواطف والآراء والمنافع وإن عبر قبضة نعناع .
ان ميركل لم تكن في حاجة الى قبضة نعناع ولو شاءت فعلا لحصلت عليها من النيبال او جبال الألب ومن كل مكان في الأرض له كل مميزات النعناع الطبيعي الذي لم تدخل عليه الأسمدة لتخرجه من مميزاته الطبيعية .لكنها فضلت ان ترسل رسالة تضامن ومحبة لهؤلاء البسطاء الذين يكتفون بالقليل ، والذين اغلبيتنا لا تعير لهم الاهتمام رغم انها تقتني منهم تلك المادة التي تعطي نكهة لمذاق الشاي المغربي المميز ، بل هناك من يساوم ويفاوض من اجل ربطة نعناع كأنهم سيغتنون من وراء درهيمات قليلة يلونها لهم في استعلاء. ..
إن نعناع ميركل كشف تصرفات بعض سياسينا تجاه هذه الشريحة الاجتماعية من فراشين وبائعين متجولين وماسحي الأحذية ومتسولين الذين يخيطون الشوارع والساحات طيلة الليل والنهار بحثا عن رزق كل وفق قدراته وما اهتدى اليه عقله وقدراته الفكرية وسط محيط التهميش والامبالات من قبل المسئولين ، والتاطير السلبي لهم وعدم مدهم بالكفاءة والتكوين للحصول على شغل يضمن لهم الكرامة والعيش الكريم
والأهم من النعناع طبعا هو المعاني والعبر التي نستخلصها من فعل شراء ميركل لهذه المادة التي لا يخلو بينا مغربيا منها في تقويم الشاي الذي يعد مادة اساسية للعيش اليومي للعديد من الأسر المغربية التي تجد في الشاي وحلاوته مع خبو وزيت زيتون إن وجدت سلاحا ضد الجوع وإن كان ليس سلاحا ضد الفقر … إن المعاني والعبر والدروس هي التي وجب استخلاصها من واقع مغربي في مواجهة واقع دولي وبالخصوص واقع اروبي لا يبعد سوى بضع كيلومترات ولكن نحن نبعد عنه بالآف السنين بالنظر لحالنا المادي والفكري الذي لم يدخل بعد للتاريخ الحديث اذت ما تجاوزنا تلك الفقاعات التي تبت هنا وهنا من مظاهر الرقي الذي يبهر من لا يغوص في اعماق المغرب الحقيقي في القرى النائية والجبال التي مازالت معزولة بل لا تعرف لأي كيان تنتمي . على كل حال ليس نعناع ميركل هو الذي بلور افكار هذا القال بل هي كانت لحظة التي اسرعت ولادة هذا المقال وكان عنوانه نعناع نعناع ميركل . .
