أستاذي العزيز، تحية طيبة وبعد،

أتذكر إطلالتك الأولى علينا – يوم كنا طلبة في السلك الثالث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، بوحدة: “المدن المغربية على عهد الحماية”- ذات مساء خريفي من سنة 2000، حين قدمت صحبة الدكتور محمد البكراوي، رئيس الوحدة يومها، الذي حرص قبل أن يهم بالإنصراف على أن يقدمك إلينا ويخبرنا أنك ستصحبنا خلال ذلك الموسوم الجامعي في مادة “المدن الأوربية خلال القرن 19م”.

لم يكن أحد منا قد خبر يومها قصتك، لكن الفضول دفع أحد الزملاء للتقصي عن خبرك، فعاد بعد أيام ليخبرنا أنك كنت منفيا لسنوات خارج البلد وأنك حديث عهد بالعودة، شأنك في ذلك شأن العشرات من كوادر اليسار الذين دفعوا ثمن مواقفهم السياسية أواخر السبعينات وبداية الثمانينيات، حينها تفهمت سر حيويتك نشاطك خلال المحاضرات القليلة التي جمعتنا بك، لقد كنتَ كمن يحاول أخذ نفس عميق كي يملأ رئتيه بهواء الوطن بعد طول اشتياق، حتى إذا ما امتلأتا عاود الكرة من جديد.

في تلك المحاضرات اكتشف الجميع علو كعبك مؤرخا وباحثا وأكاديميا، ومتانة تكوينك وتمكنك من حرفتك، مع جرعة زائدة من النزاهة، وروح إنسانية تسكنك، لذلك أسفنا على افتقادك بعد أشهر لانشغالات أنت اليوم أدرى بها. ولأنه لم تتح لي فرصة لشكرك على ما أسديت من خدمة للجميع، فقد أصررت على أن أدرجك في خانة من أهديتهم بحث التخرج بعبارة: “إلى الأستاذ المعطي منجب العائد للتو من مغتربه”، أتمنى لك من خلالها مقاما سعيدا في وطنك.

توقدت في نفسك روح الشباب وصرخت في وجه هذا المشهد البئيس: “الحرية الآن”، لأنها فعلا لا تقبل التأجيل فكل تأخير يجعلها تفر من بين أيدينا لعقود قادمة

حين عدت أستاذي الفاضل إلى المغرب، كانت البلد تتزين بشعارات “العهد الجديد” من قبيل الانتقال السياسي وطي صفحة الماضي والإنصاف والمصالحة وبناء دولة المؤسسات ودمقرطة المجتمع، وتعد العدة للظهور بمظهر الدولة المدنية الحديثة. ومع مرور الوقت أدركت وأدرك الكثيرون معك، أن الانتقال الذي كان ينشد ضل طريقه نحو الماضي بدل أن يتوجه نحو المستقبل، وأن الدولة نكصت على عقبيها، فصار لها وجهان، أحدهما ظاهر بثوب الدولة الحديثة، والآخر مستتر متدثر بثوب المخزن العتيق. إذ سرعان ما صودرت الحريات وحطمت الصحافة الحرة، وتغول اقتصاد الريع، فاحتكرت ثروات البلد ومقدراته، وتضاعفت ديونه، وانهار التعليم، وجرفت قيم المجتمع، فاستحق المغرب بذلك كله أن يكون في ذيل الترتيب العالمي حسب مؤشرات التنمية، وأفرغت العملية السياسية من مضمونها، وتم الإلتفاف على مطالب الإصلاح بعدها بسنين بدستور ممنوح كرس ديموقراطية الواجهة، ودفع بحزب السلطة ليتبوأ الصدارة في المشهد السياسي.

حدث كل ذلك وأنت أستاذي الكريم، تنظر للرصيد المتبقي من الحرية في هذا البلد يتآكل يوما بعد يوم، ولأنك خبرت مكانة تلك القيمة الإنسانية الغالية في صناعة الإنسان والأوطان، ودفعت من شبابك وصحتك ثمنا -كما الكثير من شرفاء هذا البلد من مختلف التوجهات- في سبيل تحقيقها، وازددت شغفا بها أثناء مقامك في بلدان دفعت شعوبها فاتورة غالية من أجل تكريسها حتى صارت تسكن مفاصل الدولة والمجتمع معا، فقد توقدت في نفسك روح الشباب وصرخت في وجه هذا المشهد البئيس: “الحرية الآن”، لأنها فعلا لا تقبل التأجيل فكل تأخير يجعلها تفر من بين أيدينا لعقود قادمة.

أكتب إليك هذه الكلمات أستاذي العزيز وأنت الآن في غرفة الإنعاش، بعد أن أنهكك التعب من أمعاء فارغة لم تعد في سن يتحمل ضررها، فأريد فقط أن تتذكر أنك تجسد اليوم حالة وطن يعيش هو الآخر في غرفة إنعاش استنفذت آخر قارورة أوكسجين حرية. وإن كنت البارحة قد أهديتك عبارة: “إلى المعطي منجب العائد للتو من مغتربه”، فإني اليوم أرسل إليك باقة ورد بهيج مع عبارة: “مرحبا بك في مغتربك”، وكل غربة وأنت بخير.