ما زالت الأعداد تمارس نوعا من السحر على البشر إلى يومنا هذا. فأينما حللت وارتحلت تبتسم في وجهك الأرقام من الإعلانات الاشهارية ويافطات المحلات التجارية إلى شاشات التلفاز والحواسيب والهواتف النقالة…

في كل مكان تخاطبك لغة الأرقام بجميع حروفها من النسب المئوية والجداول الحسابية فالمبيانات بشتى تلاوينها…وان كان من وصف دقيق لهذا العصر فهو عصر الأرقام بامتياز.

إلى هنا فكل شيء عادي جدا- رغم أنه ليس كذلك حقيقة – إذا اعتبرنا أن هذا الهوس بالأرقام من لوازم النظام النيوليبرالي الذي لا يتقن إلا شيئا واحدا فقط..الحساب ولا شيء سوى الحساب..حساب الربح ولو على حساب كل شيء.

لكن أن تتسلل الأرقام إلى حقل التربية والتعليم، فهذا ما لا يجب التسليم به بتاتا رغم أنه أصبح في العقد الأخير أيضا من المسلمات.

مناسبة الكلام هي الإحصائيات التي تكلف بها الأطر الإدارية والتربوية بوزارة التربية الوطنية نهاية كل دورة دراسية.

وهنا تستوقفنا مجموعة من الملاحظات التي لا بد من الإشارة إليها :

1 – تدور جميع هذه الإحصائيات حول النتائج الدراسية للتلاميذ ومعدلاتهم العامة والخاصة بالمواد الدراسية المقررة في المستوى المعني الذي غالبا ما يكون من المستويات الاشهادية كالسادس ابتدائي والثالث إعدادي والأولى والثانية باكلوريا.

2 – يتم اعتماد جل المؤشرات الإحصائية بلا استثناء من نسبة مئوية ومتوسط حسابي وانحراف معياري ووسيط ومعدلات الارتباط…عبر جداول ومبيانات من كل الأصناف…وكأننا في حفلة تنكرية أو كرنفال سنوي للأعداد.

3 – لا تتجاوز هذه العملية إطار ما يصطلح عليه بالإحصاء الوصفي الذي يختزل الواقع التربوي في المؤشرات الإحصائية المعتمدة في أفق تكوين صورة تقريبية لما يقع بالفعل تمهيدا للبحث التربوي الميداني- الغائب للأسف الشديد- والذي لا غنى عنه للإحاطة بمتغيرات العملية التربوية شديدة التعقيد.

4 – الإحصاء الوصفي كما تدل عليه تسميته هو وصف لما هو كائن ولا ينبغي أن يذهب إلى أبعد من ذلك كما جرت العادة خطأ في الأوساط الإدارية والتربوية.

وأبعد من ذلك يعني وصف ما هو كائن لاستنتاج ما ينبغي أن يكون عليه الواقع التربوي بإصدار الأحكام واتخاذ القرارات سواء في حق التلميذ أم في حق الأستاذ. وهذا خطأ منهجي فادح في الإحصاء الوصفي وتحميله أكثر مما يحتمله.

بمعنى آخر، فالإحصاء الوصفي ينقل لنا صورة تقريبية للواقع لكن هذه الصورة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنقل لنا العوامل المتداخلة في هذا الواقع.

5 – تكرار واجترار هذه الإحصائيات من مختلف الفاعلين الإداريين والتربويين وعلى جميع المستويات لا يعني إلا شيئا واحدا :

الهروب من تسمية الأسماء بمسمياتها !

وعوضا عن الإقرار بأن النظام التعليمي لا يؤدي وظيفته الأصلية مطلقا، يتم التلاعب بالإحصائيات والأرقام ورميها في وجه الرأي العام كما ترمي قارئة الفنجان أوراقها وأرقامها السحرية في وجوه زبنائها.

6 – جل هذه الإحصائيات تدور في فلك التلميذ في إصرار وعناد غريبين وكأن هذا الأخير هو المسؤول الأول والأخير عما آلت إليه الأوضاع التعليمية.

والحال أن هذا التلميذ ما هو إلا النتيجة النهائية لعقود من السياسات الفاشلة والتدمير الممنهج للمدرسة العمومية والنهب المتواصل لمواردها المادية…ولم تعد هذه الحقيقة خافية على أحد.

7 – تنأى هذه الإحصائيات بنفسها عن العوامل الأخرى المتداخلة والمتدخلة في الواقع التربوي سلبا أو إيجابا، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

– التدريس بالتعاقد وضعف تكوين الأساتذة المتعاقدين وتداعياتها الخطيرة على التلميذ.

– الفوضى اللغوية في المناهج الدراسية، فبالرغم من مرور ما يزيد عن نصف قرن على الاستقلال لا زال الخيار اللغوي لم يحسم فيه بعد.

– افتقاد التلاميذ للكفايات الأساسية من قراءة وكتابة وحساب، ولا حاجة للتذكير بنتائج الروائز الدولية في هذا المجال…الخ

8 – تحولت هذه الإحصائيات من وسيلة لتشخيص الواقع التربوي إلى غاية في حد ذاتها كنوع من التسليم بالأمر الواقع ونشر وهم معالجة هذا الواقع بالأرقام لوحدها ودون غيرها من الإصلاحات الهيكلية التي لا مفر منها للنهوض بالمدرسة العمومية.

أخيرا، فهذا الهوس بالإحصائيات من أعراض مرض التدبير الذي استشرى في أوصال وزارة التربية الوطنية – وقد أشرنا إلى ذلك في مقالات سابقة بالموقع.

وما يخفيه هذا الهوس المرضي بالأرقام بسيط للغاية :

انه ضحالة التكوين التربوي والتقهقر المستمر للبعد التربوي في وزارة التربية الوطنية تحت وطأة المقاربات التدبيرية الصرفة.

نختم بهذا المثل المغربي الدارج الذي يعكس بجلاء ما يقع بالوزارة :

″اللي كيحسب كيشيط ليه″

أي أن من أكثر الحساب فلابد أن يستزيد أو يستبقي منه!