لا أبغي هنا أن أخوض مع الخائضين، من نفس المنطق والمُنْطلَق، في القضية التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس. ملأت الدنيا هرَجاً ومرَجاً، وشغلت الناس بكلام فيه كثير من اللغو والتأثيم. “تازة قبل غزة“، “القضية الوطنية قبل القضية الفلسطينية“، هذه قبل تلك، هذه بدل تلك، هذه أو تلك. لا أحْبِس الموقف المعقد، والشائك، والملتبس في حرف عطْفٍ يُفيد، هنا بالذات، معنى التَّخْيير والتشكيك. لندع إذاً “الأو” جانباً، ولننظر إلى القضية من زوايا أخرى أرحب، وأجدى.

هل يجوز الوصل بين القضية الوطنية والقضية الفلسطينية؟ مبدئياً، وسياسياً يجوز، ويسُوغ. أقصد بالوصل هنا الإيمان بالقضيتين معاً، تصديقٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان. الإقرار باللسان أضعف الإيمان، أما التصديق بالقلب فإن مناطه، في كل الأحوال، ليس السياسة. والتاريخ وحده هو الكفيل بالحسم بين الأعمال والنيات، بين المقول والمفعول. في المقول الرسمي توازن، وتعادل، وتماثل بين القضيتين. لا ندري الحيثيات، إلا أننا نعلم أن المقايضة لا تحِقُّ ولا تنطبق على الموضوع، إذ إنها لا تكون بين أرض نملك، وأرض لا نملك.

وأما الفصل فإننا نجده في بعض المقول “المدني“، الشائع، والرائج، والدارج، والمُنْفلِت من عقاله، خاصة عند من لم تكن، يوماً، “تُحسُّ منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركْزاً“. هؤلاء من لا يرون سوى التناقض، والتعارُض بين القضيتين، هم من يشترون ما نملك، ويبيعون ما لا نملك. ألا إنَّهُم هم المُقايضون، ولكن لا يشعرون.

في كتابه  1974Vomito blanco، يحاول عبد الكبير الخطيبي تفكيك “الميثولوجوجيا الصهيونية” في علاقتها ب“الوعي الشقي” الذي ما ينفك يجترُّه الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من جراء ما اقترفه من إبادة عرقية في حق اليهود. عملية التفكيك تطال “طبيعة الصهيونية” باعتبار الميكانيزمات الذهنية، الثقافية، والدينية التي من خلالها تتحرك السياسةُ الإسرائيلية على كل الجبهات لإذكاء “الميثولوجيا الصهيونية“، ولإعادة إنتاجها باستمرار، ولغرْز الإحساس بالذنب في غيابة الوعي الغربي. لماذا “يسود الصمت (في الغرب) حول الجرائم الصهيونية؟“، “لماذا لا يلتفت إلى عملية الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون؟” يتساءل عبد الكبير الخطيبي في كتابه “النقد المزدوج” (دار العودة، بيروت، 1980)، أو إنه، بالأحرى، يردُّ السؤال إلى المثقفين الفرنسيين، وعبْرهُم إلى الرأي العام  الغربي. بضاعتُهم رُدَّتْ إليهم. قضية إنسانية مقابل قضية لا تقلُّ إنسانية. فرضية الخطيبي لا تعدم وجاهة ورجاحة : “إنه تحويل للشعور بالذنب“، وتنصُّل من الذنب التاريخي الثابت، ووضع للوزر كله على عاتق شعب لا وزر له. السياسة الصهيونية التقطت الحيلة، “حيلة التحويل“، مُلْبِسة إياها لباساً دينياً يهودياً ـ مسيحياً. أعلى درجات الوعي الشقي يجدها الخطيبي عند المثقفين اليساريين وعلى رأسهم جون بول سارتر الذي لم يكن موقفُه المزدوج ، المراوغ، والمراوح بين إسرائيل وفلسطين، سوى نوعاً من الحياد الخادع، في آخر التحليل. “دموع سارتر” التي كشف الخطيبي عن زيفها، أمسى يذْرفُها الرأي العام الغربي عن بكرة أبيه كلما المأساة الفلسطينية نضحت بالدمع والدم، وضجَّ الألم، ثم سرعان ما يستردُّ الوعي الشقي هدوء اشتغاله، ويُبرِّئُ الذئب من دم يوسف.

تفاهة الاحتلال

“الميثولوجيا الصهيونية” لا تحدُّها حدود، ولا تتوقف أبداً عن الزحف والتمدُّد، فهي، في الجذر، أيديولوجيا توتاليتارية، بمفهوم حنَّة آرندت، تتحول فيها “تفاهة الشر” banalité du mal)) إلى “تفاهة الاحتلال“، والتوسُّع، والاجتثاث، والاستيطان، والعنف المطلق. الوعي الشقي هو الذي يصل، في آخر المطاف،“تفاهة الشر” ب“تفاهة الاحتلال“، هذه تنْشأُ من تلك. خيوطٌ تُنْسجُ منذ ١٩٤٨ فوق أرض فلسطين، وتتدحرج مثل كرة الثلج من المحيط إلى الخليج. ها نحن اليوم نرى “دموع سارتر” وقد بدأت تملأ وادينا، تورِدُنا بالوعي الشقي، وبئس الوِرْد الموْرود. مرة أخرى، لا يتعلق الأمر بالموقف الرسمي، فالتاريخ، كما سبقت الإشارة، هو الفيصل. إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. هناك مفردات، سقطت من سجل التطبيع المدني والثقافي، وتلاشت معانيها تحت وابل اللغو والتأثيم. الحق، العدل، الحرية. الحق التاريخي، البعيد منه والقريب، لشعب فلسطين في دولة فلسطين، كاملة غير منقوصة، لا يحتاج إلى أن “يُكْتب شعراً“، يقول محمود درويش، “فالسلاح هو المؤرِّخ. والمؤرخ لا يُصاب برعشة الحُمَّى إذا سمَّى ضحاياه ولا يُصْغي إلى سرْدية الجيتار“.

أما بالنسبة إلى الحق السياسي، فإن أحكام القانون الدولي، الإنساني، والجنائي، وحتى العُرْفي الصادرة إلى اليوم لا تُعدُّ ولا تُحْصى. الحق الفلسطيني تحقيقُه عدْلٌ. لفظ العدل هو الآخر تمَّ صرْفُه عن معانيه، وتوظيفُه في ما سُمِّي ب “الحرب العادلة” التي صاغها “المحافظون الجدد” في أعقاب “١١سبتمبر “. تلك الحرب القذرة التي كان من مُخْرجاتها هذا الدمار الشامل الذي يكاد يعمُّ الوطن العربي، ويُصيب في مقتل طموحات الإنسان العربي في النهوض، والبناء والتقدم. أقول، تلك الحرب القذرة هي، بدورها، أَيْنعت، ثم أَثْمرت “صفقة القرن“.

لماذا يسود كل هذا الصمت الرهيب حول الجرائم الصهيونية؟ لماذا لم يعد أحدٌ، هنا والآن، يلتفت إلى عملية الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون؟ سؤال الخطيبي رجْعٌ حارق، لأن “حيلة التحويل” تمكَّنت أخيراً من “الوعي المهزوم” الذي أمسى ينْكفَّ عن شعْب اجتُثَّت أرضُه عُنْوة، وضاع حقُّه مع سقط المتاع. حيلةٌ حوَّلت المهزومَ حُطاماً يرنو، ضاحكاً مُسْتبْشِراً، إلى ما قد تجود به “تفاهة التطبيع” مع“تفاهة الاحتلال“، مُتشرِّباً إياهُما، كما تتشرَّب الأرض ماءَ المطر.