يعتبر خطاب الشاعر الكبير جون ميلتون إلى البرلمان الإنجليزي حول حرية الرأي و”حرية النشر” والتعبير، والذي يعتبر بيانا ثوريا حقيقيا، وأهم وثيقة، وأهم بيان خطاب، بالتاريخ من أجل الحرية  وحرية الرأي والتعبير، وهو بيان تأسيسي لفلسفتنا الحديثة المتعلقة بحرية الرأي والتعبير والصحافة. وأريوباجيتيكا (Areopagitica)، هو خطاب كتبه جون ميلتون، موجه للبرلمان البريطاني بتاريخ 23 نوفمبر 1644، دافع فيه عن حرية الصحافة ضد قانون الرقابة الذي كان البرلمان قد سنه بتاريخ 14 يونيو 1643.

وهذا ما جعلنا نركز على الشاعر جون ملتون السياسي، خصوصا حينما سيكون الأدب آلية شاعر عظيم والقلم بين أنامل مثقف ملتزم بمبادئ آمن بها وظل يدافع عنها بالرغم من الأخطار المهددة له. حقا، إنه التزام انسان حقيقي وشاعر عظيم، لما آمن به، حد الوفاة، بالرغم من أنه أصبح كفيف العينين منذ الأربعين من عمره،  وكتب حول ذلك قصيدة مكونة من 14 بيتاً شعرياً. وإلى جانب جيفري تشوسر وويليام شكسبير، يعتبر جون ميلتون من أبرز شعراء الأدب الانجليزي.

ولا غرابة أن يقول في رائعته الشعرية “الفردوس المفقود ” سن الشباب يُعلن عن الإنسان كما يُعلن الصباح عن اليوم الذي يشرق فيه”، وجون ملتون أكثر الشعراء الذين تعلموا من الحياة أكثر مما تعلموه من شيء آخر، حيث الف دافيد هاوكس، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة ولاية اريزونا الأميركية، سيرة حياة الشاعر جون ملتون  تحت عنوان ” جون ميلتون .. بطل من عصرنا” الصادر عام 2010 بلندن.

“وهكذا يستخلص المؤلف  دافيد هاوكس  من أفكار الشاعر جون ميلتون بأنا “استقراء المستقبل”، خاصة فيما يتعلق بالتطورات السياسية وبالنظام الاجتماعي.

ولا يتردد المؤلف في القول أن أفكار ميلتون “غير المألوفة” في زمنه، وخاصة مقاربته لما يعتبره هاوكس “اقتصاد السوق”، حسب المفهوم المستخدم في إطار العولمة اليوم، ومقاربته للعنف السياسي وللتزمت العقائدي من كل الأنواع، إنما هي أفكار “قابلة للتطبيق حتى في القرن الحادي والعشرين”، وبهذا المعنى هو “بطل من عصرنا”.

وكان ميلتون مناصرا واضحا للسلام حيث ينقل عنه المؤلف  دافيد هاوكس   قوله: “إن للسلام انتصاراته التي لا تقل شهرة عن تلك التي حققتها الحروب”. وبالتوازي مع مناصرته للسلام كان مناهضا بقوة للعنف على خلفية قناعته أن الذي “ينتصر بواسطة القوة لم يكبّد عدوه سوى نصف هزيمة” وقوله أيضا: “ما يفسده السلام هو أقل مما تخرّبه الحرب”.

عاصر الشاعر جون ميلتن حكم الملك شارل الأول: ثاني ملوك أسرة آل ستيوارت، حيث عُرف باعتلال صحته منذ الولادة، وورث عن أبيه فكرة الحق المطلق للملوك، وترسخت لديه لاسيما بعد حياته في بلاط الملك الفرنسي لويس الثالث عشر، كان غريباً على التقاليد والحياة البرلمانية الإنكليزية، وتزامنت بداية حكمه مع حرب الثلاثين عاماً (1618-1648)، وقد تزامن خطاب (أريوباجيتيكا  (Areopagitica ) للشاعر ميلتون إلى البرلمان مع  أوج الحرب الأهلية الإنگليزية، التي أججت الخلاف الديني بين البروتستانت والكاثوليك، وإبان الحرب الأهلية هاته، أصبح  الشاعر ميلتون في صف أوليفر كرومويل المعارض للحكم أنذاك، إذ استطاع الفرار من عقوبات حتمية في عام 1660.

أما “خطاب أريوباجيتيكا  (Areopagitia) الذي نُشر في 23 نوفمبر 1644، فقد استقاه الشاعر ميلتون من الخطبة التي كتبها الخطيب الأثيني سقراط في القرن الخامس ق.م. (أريوپاگوس هي ربوة في أثينا، وكانت موقع محاكمات حقيقية وأسطورية.

ومثل جميع الشعراء الكبار عبر التاريخ، كان الشاعر جون ميلتن يهمل دوماً تسجيل ما ينشره نثراً. إلا أنه بدى لملتون ضرباً من المحال أن يزدهر الأدب والفكر والتعبير والمعرفة  في ظل مثل هذه الرقابة. فماذا يجدي استمرار التدقيق والتحقيق في كل كلمة يتفوه بها الإنجليز؟.

وفي 24 نوفمبر 1643، أخرج درن المساند لجون ملتن  تسجيل أو إجازة أروع أعماله النثرية، تحت اسم  “أريوپاجيتيك  Areopagitica:  حديث من جون ملتون عن حرية المطبوعات دون إجازة، إلى برلمان إنجلترا”،  وليس في هذا الحديث قذف ولا طعن ولا نقد لاذع، بل كان على مستوى عالٍ من اللغة والفكر، وفيه يطلب إلى البرلمان بكل إجلال واحترام، أن يعيد النظر في قانون الرقابة، من حيث أنه ينزع إلى “تثبيط الهمم في سبيل العلم والمعرفة، ويعوق بل يقضي على أي إبداع واكتشاف يمكن أن يخرج في المستقبل إلى حيز الوجود في مجال الحكمة الدينية والمدنية كليهما.” ثم يستطرد في قطعة مشهورة قيمة:

“لست أنكر أنه من أعظم صلاحيات الكنيسة والدولة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدار الناس، ومن ثم يحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر لأن الكتب ليست أشباه ميتة إطلاقاً، بل أن فيها من الفعالية والحيوية ما يجعلها نشيطة في مثل نشاط النفس التي أنتجتها. ليس هذا فحسب، بل أنها كذلك، تحفظ، وكأنما تحفظ في قنينة، أبقى عصارة بدقة مؤثرة للفكر الحي الذي نمّاها وأبدعها. وإني لأدرك أنها نشيطة قوية الإنتاج مثل أسنان التنين الخرافية إذا نثرت على الأرض هنا وهناك انبعث منها رجال مسلحون (هكذا تقول الخرافة). ومن جهة أخرى، فإنه إذا لم يكن ثمة حيطة وحذر، فأن قتل الإنسان يعدل تقريباً قتل الكتاب الجيد. إن من يقتل رجلاً يقتل مخلوقاً عاقلاً على صورة الله، على حين أن من يدمر الكتاب الجيد، يقتل العقل نفسه، بل يقتل صورة الله، في صميمها. وكم من إنسان يعيش حملاً ثقيلاً على الأرض، ولكن الكتاب الجيد هو دم الحياة الغالي للروح السامية يصان ويختزن، قصداً لحياة وراء الحياة. حقاً أن أي عصر لن يستطيع استعادة الحياة، وقد لا يكون في هذا خسارة، ولا تعوض ثورات العصور في الغالب عن فقدان حقيقة منبوذة، ساءت حال أمم بأكملها من أجل افتقارها إليها.

وينبغي لذلك أن نكون حذرين يقظين لأي اضطهاد نصبه على الأعمال الحية لمشاهير الرجال البارزين، وكيف نبدد حياة الرجل الناضج المحفوظة المختزنة في كتاب. فإذا رأينا عملاً من أعمال القتل يرتكب على هذه الصورة، وهو في بعض الأحيان استشهاد، إذا امتد هذا إلى كل الإنتاج حتى ينتهي الأمر إلى مذبحة، فمن ثم لا ينتهي الإعدام عند خنق الحياة الفطرية، بل ينفذ إلى الجوهر السماوي الخامس البالغ الرقة، أي روح العقل ذاته، فيقضي على الخلود أكثر ما يقضي على مجرد حياة.

ويستشهد ملتون بالنشاط الفكري في أثينا القديمة، حيث لم تفرض الرقابة إلا على الكتابات التي تتضمن إلحاداً أو قذفاً، وهكذا حكم قضاة محكمة أريوباجوس العليا بإحراق كتب پروتاگوراس، وبنفيه خارج البلاد، لمقالة بدأها بالاعتراف بأنه لا يدري “إذا كان هناك آلهة أم لا”. ويمتدح ملتون حكومة روما القديمة لإتاحتها قدراً كبيراً من الحرية للكتاب، ثم يصف نمو الرقابة في روما الإمبراطورية والكنيسة.”

يقول الشاعر ملتون “وما فائدة أن تكون رجلاً، لا مجرد تلميذ في مدرسة، إذا كنا فقط هربنا من الدُرة أو العصا لنقع تحت نير الرخصة (للطباعة)؟ إن الحكومات ومراقبيها ليسوا معصومين من الخطأ، فليس لهم أن يفرضوا ما يروق لهم أو ما يفضلونه من آراء ومبادئ على الناس، والأولى أن يتركوا الناس ليختاروا ويتعلموا، حتى ولو كلفتهم التجربة والخطأ أبهظ الثمن.

إني لا أستطيع أن امتدح فضيلة مفروضة عليها الحماية والرقابة، لا يمارسها أحد ولا يُنشق عبيرها أحد، لا تنطلق قط لترى خصومها، بل تتسلل بمعزل عن الناس. أعطني الحرية لأعرف وأتحدث وأناقش، بلا قيد، وفقاً لما يمليه الضمير، فوق كل الحريات.. ومع أن كل رياح المذاهب والمبادئ أطلقت لتهب على الأرض، حتى إذا دخلت الحقيقة إلى الميدان، أسأنا إليها بالرقابة والحظر، لنشكك في قوتها، فلنتركها مع البهتان يتصارعان، فمن ذا الذي رأى يوماً أن الحقيقة تنهزم في معركة حرة مفتوحة؟ فالدولة التي تسود فيها حرية الفكر والكلام لابد أن ترقى وتنمو فيها سائر الأشياء سواء بسواء.

يخيل إلي أني أرى بعين البصيرة أمة كريمة قوية تستيقظ وتنفض النوم عن جفونها، مثل رجل قوي يفيق من سباته، وتهز خصلات شعرها. ويبدو لي أني أراها مثل نسر، يجدد شبابه ويفتح عينيه الحادتين في وقت الظهيرة”.