انتقلت تداعيات الخلافات داخل حزب “العدالة والتنمية” بين قياداته ووسط صفوف قواعده إلى حركة “الإصلاح والتوحيد”، الحركة الأم التي خرج من صلبها الحزب في منتصف تسعينات القرن الماضي. وبسبب حالة “البلوكاج” التي يعيشها الحزب منذ إعفاء زعيمه عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة وتعيين سعد الدين العثماني خلفا له وما تلا ذلك من تطورات أدت إلى تباين في الرؤى داخل صفوف الحزب، تم تعطيل عمل كل مؤسساته التي لم تعد تنعقد وزاد من تأزيم الوضع سفر زعيمه بنكيران إلى العمرة لفترة امتدت عدة أسابيع مما زاد من استفحال حالة الخلافات بين قادته وأعضائه التي تحولت إلى نشر للغسيل الداخلي على صفحات المواقع الاجتماعية.

“الحركة” للسيطرة على “الحزب”

أمام هذا الوضع، وجد سعد الدين العثماني ومساندوه من داخل قيادة الحزب أنفسهم شبه محرومين من مساندة الحزب الذي تعطلت هياكله، مما دفعه إلى الاستنجاد بحركة “الإصلاح والتوحيد” بحثا عن المشروعية الحزبية التي يبحث عنها لتبرير ما يصفه خصومه من داخل الحزب بـ”التنازلات” التي أقدم عليها أثناء فترة تشكيل الحكومة وتتالت مظاهرها بعد قيادته لها.

وهكذا، زارت قيادات من الحركة العثماني في بيته يوم 6 أبريل للإعلان عن مساندتها له، كما اجتمع العثماني مع المكتب التنفيذي للحركة يوم 16 أبريل الماضي مع قيادة الحركة، وحضر في نفس اليوم الاجتماع المغلق الذي عقده مجلس شورى الحركة الذي هو بمثابة برلمانها، ويعتبر العثماني أحد أعضائه.

وعلى هامش هذه اللقاءات خرج عبد الرحيم الشيخي، رئيس الحركة ليعلن دعمه لحكومة العثماني، معتبرا أن “موقف الحركة دعم لموقف حزب (العدالة والتنمية)، بالمشاركة الإيجابية في الحكومة”، وذهب أكثر من ذلك إلى القول: “إذا تطلب الأمر أن نصدر بيانا لدعم العثماني فسنفعل”.

وحسب ما تسرب عن الاجتماعين فقد طلب العثماني من قيادة الحركة ومن أعضاء برلمانها الدعاء له في مهمته، وهو ما يُفسر في أدبيات الحركة بطلب “العون” الذي قد يكون مساندة ودعما ونصيحة. وقد بدأت بالفعل بعض قيادات الحركة في التعبير عن هذا الدعم للعثماني وحكومته من خلال تدويناتهم على صفحاتهم بـ”الـفيسبوك” التي تبرر ما يصفه معارضو العثماني داخل حزبه بـ”التنازلات”، وتدحض وجود ما يصفه آخرون من نفس الحزب بـ”الخيانة” و”التآمر” و”الانقلاب”.

ويكفي إلقاء نظرة على صفحات أعضاء قياديين من الحركة على “فيسبوك” أمثال أحمد الديني الشقيري، ومحمد الهلالي وغيرهما من قيادات الحركة ورموزها الناشطين في الفضاء الأزرق  للكشف عن التحرك الإعلامي الذي تقوده الحركة لتقديم الدعم للعثماني وخطه السياسي داخل الحزب.

فقد بلغ الأمر بالشقيري مثلا في إحدى تدويناته إلى تشبيه ما يقع داخل الحزب بـ”حادثة الإفك” التي اتهمت فيها عائشة زوج النبي محمد، مما آذاه في بيته قبل أن تنزل براءتها في القرآن، وكادت تلك الحادثة أن تؤدي إلى حرب بين قبيلتي الأوس والخزرج. وفي تدوينة أخرى شبه الشقيري عزل بنكيران بعزل خالد ابن الوليد وهو في عز انتصاراته العسكرية، وتعيين العثماني بخلافة أبي عبيدة الجراح (صاحب الليونة) لخالد ابن الوليد (القوي الشديد)، معتبرا أن ذلك القرار أثار دهشة الناس وقتها ولايزال البعض يدهش له إلى الآن، ليصل إلى الاستنتاج بأن “الصحابة ومن معهم استجابوا للقرار السياسي الذي اتخذه أمير المؤمنين آنذاك رغم خطورته ولم يقع بينهم تقاطب كما هو حاصل اليوم في بيت “المصباح”، وهذا بسبب فقههم، لاشك أن بعضهم لم يعجبه القرار لكنهم ظلوا موحدين حول القيادة الجديدة”.

استدعاء الديني لتبرير السياسي

فما يقع اليوم داخل حزب “العدالة والتنمية” هو استدعاء للديني لتبرير التحول السياسي الدراماتيكي الذي يعيشه الحزب من إزاحة زعيمه بنكيران من رئاسة الحكومة، وما تلا ذلك من “تنازلات” منذ تعيين العثماني خلفا له، ويتم إقحام الدين في الخلاف الحزبي الداخلي لحزب سياسي من خلال الجناح الدعوي داخل الحركة التي مازالت تعتبر هي الأصل والحزب ما هو سوى ذرعها السياسي الظاهر.

فما هو سائد حتى اليوم هو أن حركة “الإصلاح والتوحيد” ما هي سوى ذرع دعوي لحزب “العدالة والتنمية”، بالرغم من أن الحزب هو الذي خرج من صلب الحركة. وقد حاول “سياسيو” الحزب ومنظرو الحركة ترسيخ هذه الفكرة المغلوطة لدى الرأي العام من خلال الحديث عن الفصل بين الدعوي والسياسي. فالحزب الذي ستحل الذكرى العشرين لتأسيسه تحت اسم “العدالة والتنمية” العام المقبل مازال لم يَحُل عقدة الفصل ما بين الدعوي والسياسي ليتحول إلى حزب مدني، وهذا الخلط بين الديني والسياسي لا نجده فقط في خطابات أعضاء الحزب أو أعضاء الحركة، فهو يتجاوز الخطاب إلى ما هو تنظيمي داخل الحركة والحزب على حد سواء.

ويكفي إلقاء نظرة على موقع الحركة الرسمي على “فيسبوك” للاطلاع على أعضاء المكتب التنفيذي للحركة الذين نجد من بينهم وزيرين في الحكومة الحالية هما مصطفى الخلفي ومحمد يتيم، وكلاهما عضو في “اللجنة التنفيذية” لحزب “العدالة والتنمية”، وهو ما يضرب مصداقية الخطاب الذي تروج له بعض زعامات الحزب التي تدعي أن الحركة نجحت في الفصل بين جناحيها الدعوي والسياسي.

وحسب مصدر من داخل الفريق النيابي لحزب “العدالة والتنمية” داخل البرلمان، فإن أكثر من 70 في المائة من هؤلاء النواب الـ125 الذين فازوا في الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 7 أكتوبر، هم أعضاء رسميون داخل حركة “الإصلاح والتوحيد”، وما تبقى كلهم بلا استثناء جاؤوا من الحركة أي أنه سبق لهم أن انضموا للحركة قبل انتقالهم إلى الحزب.

ويفرض الانتماء للحركة حتى اليوم على أعضائها من النواب البرلمانيين مساهمة شهرية تقدر بنحو 2.5 % من راتب كل نائب برلماني، أي ما يعادل حوالي 750 درهما شهريا يدفعها كل برلماني من “العدالة والتنمية” إلى الحركة بحكم احتفاظه بعضويتها بالإضافة إلى نحو 25 % من راتبه أي ما يعادل 7 آلاف درهم يدفعها للحزب.

الحركة والخلافة

هذا التداخل التنظيمي بين الحركة والحزب يكشف عن ما هو أكبر من التداخل بين ما هو دعوي وسياسي، لأنه يفضح ازدواجية في الخطاب السياسي الذي يبني عليه الحزب مشروعيته.

فمن يقرأ “الورقة السياسية” التي تعتبر بمثابة “الوثيقة المذهبية” للحركة التي مازالت معتمدة حتى اليوم من طرفها، سيجد أنها تتحدث عن مفهوم “الخلافة”، في الوقت الذي يتحدث فيه سياسيو الحزب عن “إمارة المؤمنين”. وهو ما ينم عن نوع من “ازدواج الخطاب” ما بين جناحي الحركة السياسي والدعوي.

هذه الازدواجية نجدها حتى في خطاب أعضاء الحركة عندما يكونوا بصدد تبرير موقف سياسي كالموقف من “إمارة المؤمنين”. فعندما نُشر فيديو لمحمد عبادي مرشد جماعة “العدل والإحسان” يتحدث فيه عن كون إقامة دولة الخلافة هي “أم المقاصد” في الإسلام، رد عليه عبد الرحيم الشيخي رئيس حركة “التوحيد والإصلاح” بأن الخلافة “ليست من أركان الدين، وإنما هي واجب من الواجبات التي يسعى إليها المسلم”، في حين أن الورقة السياسية لحركته مازالت تتحدث عما تسميه الخلافة بالتدرج.

وحسب الوثائق التي اطلع عليها موقع “لكم” عن آخر اجتماع لمجلس شورى الحركة الذي عقد اجتماعا مغلقا حضره العثماني، فإن جدول أعمال هذا الاجتماع طرح موضوع مراجعة ميثاق الحركة وخاصة مرجعية الرؤية السياسية داخل هذا الميثاق الذي يعتبر بمثابة “مرجعيتها المذهبية”، وقد تولى مهمة تقديم العرض حول “مراجعة الرؤية السياسية”، محمد يتيم، الوزير في حكومة سعد الدين العثماني.

“أخونة” الحزب

استدعاء الحركة وصقورها في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الحزب الفتي فرضته حدة الصراع بين “الإخوة الأعداء” بخلفية واحدة هي السيطرة على الحزب. لذلك بتنا نسمع اليوم في الكثير من “التبريرات” التي يقدمها من يحسبون على خط العثماني، تعبير “المنهج” الذي يعتبر الكلمة المفتاح لفهم “مبادئ الحركة”، التي تقوم، حسب ما ينص عليه ميثاقها على “الطاعة والانضباط” أي “الالتزام بالقرارات التي تتخذها الحركة ومسؤوليها طاعة لله ورسوله وخدمة لدينه ودعوته”. أو كما فسر ذلك الرئيس السابق للحركة أحمد الريسوني وعضو مكتبها التنفيذي الحالي، عندما شبَّه في حوار نَشره موقع “إضاءات” مؤخرا، الحركة بـ”المنظمة الكشفية”، همها الأول والأخير هو “الضبط والانضباط”، حسب تعبيره.

وبعيدا عن مسألة الخلاف هو “المنهج” الذي يستطيع كل طرف أن يؤوله لصالحه حسب الظرف والسياق، فإن الرهان الحقيقي لهذا الصراع هو السيطرة على الحزب، وهنا تلتقي أهداف بعض قيادات “العدالة والتنمية” من خط العثماني مع رغبة السلطة التي تسعى إلى احتواء الحزب وتدجينه بهدف إضعافه حتى لو تطلب الأمر شق صفوفه كما سبق لها أن فعلت مع أحزاب أخرى سبقته.

فإذا كان هناك من شيء نجح فيه بنكيران هو جر أتباعه إلى عالم السياسة وبناء حزب سياسي قوي تحول إلى رقم صعب داخل المعادلة السياسية المغربية التي تعودت السلطة في المغرب على التحكم فيها حسب أهوائها. فما يخيف السلطة اليوم في المغرب هو وجود حزب سياسي قوي وهي مستعدة للتغاضي عن استعمال كل الوسائل لتذميره من الداخل بعد أن عجزت أن تفعل ذلك بأدواتها ووسائلها من الخارج في السابق. وأحد هذه الوسائل التي لا ترى السلطة أي مانع في استعمالها لهذا الصراع الحزبي القاتل، هو الجناح الدعوي داخل الحركة الذي تتغاضى نفس السلطة اليوم عن استعمال أدواته في صراع سياسي داخل حزب سياسي مدني رسمي معترف به.

فهل كان رد فعل السلطة في المغرب وأحزابها السياسية وأذرعها الإعلامية، التي صمتت عن لجوء رئيس الحكومة العثماني إلى حركة حزبه الدعوية لطلب عونها ومساندتها، سيكون هو نفسه لو أن بنكيران، مثلا، اجتمع بقيادة حركة “الإصلاح والتوحيد” في عز أزمة ما عرف إعلاميا بـ”البلوكاج الحكومي”؟ وكيف كان سيتم تأويل اجتماعه “سرا” مع مجلس شورى نفس الحركة؟

ازدواجية خطاب السلطة

موقف السلطة وأحزابها وإعلامها، مما يجري حاليا داخل حزب “العدالة والتنمية” ينم عن ازدواجية كبيرة في الخطاب الذي يصل إلى درجة النفاق. فالسلطة التي كانت تنتقد الحزب لأبسط الأسباب مستعملة كل ما كان يصدر عنه من “إيحاءات” ذات طبيعة دينية لاتهامه بتوظيف الدين في بلوغ أهدافه السياسية، هي نفسها السلطة التي تتغاضى اليوم عن استعمال الجناح الدعوي للحركة لدعم جناحها السياسي ممثلا في قيادة الحزب التي قبلت “الانخراط” بوعي أو بدون وعي، وبقصد أو بدون قصد في “الانقلاب” الذي خططت له ودبرته السلطة منذ فترة ليست باليسيرة على زعيم الحزب، مستعينة بأعضاء من الحزب نفسه من أمثال مصطفى الرميد، وعزيز الرباح، وسعد الدين العثماني، ولحسن الداودي، ومصطفى الخلفي، ومحمد يتيم، الذي أخرجت له السلطة “ورقة ضغط” أخلاقية في ربع ساعة الأخيرة لتفرض عليه تغيير وجهة “مدفعيته التبريرية” من كتف إلى أخرى أي من الدفاع عن بنكيران إلى الدفاع عن العثماني، ونفس الشيء يقال عن عبد القادر اعمارة الذي أثيرت قضية استفادته من “شقة” عزيز أخنوش، رئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار”، ورجل القصر الذي فرض على بنكيران شروطا تعجيزية حتى أسقطه من رئاسة الحكومة.

ضرب رأس الأفعى

فما يسميه بعض قادة الحزب “انقلابا” على زعيمهم بنكيران كان ومازال يستهدف الحزب، وقد سعت السلطة إلى إحداث هذا الانقلاب بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، من خلال إضعاف الحزب وضرب مصداقيته والمس بشعبيته، وهكذا دفعت زعامة الحزب في عهد حكومة عبد الإله بنكيران إلى اتخاذ قرارات لا شعبية للتأثير على شعبيته وإضعاف مصداقيته، ودفعت حزب “الاستقلال” إلى إسقاط حكومته، وزرعت حزب “التجمع الوطني للأحرار” كشوكة في خصر الحكومة السابقة لعرقلة مشاريعها وتفكيك انسجامها، وشنت حربا “أخلاقية” على بعض قيادات الحزب لتشويه صورته والمس برصيده “القيمي الأخلاقي”، ونظمت المظاهرات المفتعلة التي تتهم الحزب بـ”أخونة” الدولة والمجتمع، واستعملت كل وسائل الدولة للتأثير على نتائجه في انتخابات 2015 و2016. وبعد فشل كل هذه المحاولات لتحطيم حزب “العدالة والتنمية” غيرت السلطة خطتها باستهداف رأس الحزب، من خلال اعتماد استراتيجية مايعرف في الأدبيات العسكرية بنظري استهداف “رأس الأفعى” قبل تقطيع أوصالها إربا إربا.