لو سألني أحد ما هو المفهوم الذي ينطبق على العالم الغربي اليوم سأرد عليه بدون تردد إنه الوعي المزيف أو الضمير المزيف، نحن لا ندري من نحن بالضبط، ومن هم الآخرون وماذا يظنون بنا وكيف ينظرون إلينا، لقد تركنا صناعاتنا عرضة للتخريب والضياع وأنهكنا طبقاتنا العاملة ، إن مستوى معيشتنا ينهار ومظاهر عدم المساواة تزداد يوما عن يوم، في الولايات المتحدة ينخفض معدل أمل العمر عند الفقراء بعد أن نجح الرأسمال في تحويل المنظومة السياسية إلى لعبة في أيديالأغنياء. وفي كل مكان من الغرب عملت الاستراتيجة التعليمية الجديدة في صناعة عالَميْن اثنيْن منفصلين واحد يعيش فيه المتعلمون الجدد والثاني يمتلئ بأنصاف المواطنين، وإذا كانت التحولات الاقتصادية والثقافية قد حافظت على المؤسسات الديموقراطية فإنها دمّرت الأخلاق.

لقد عرفت الديموقراطيات الغربية تحولا هائلا وأصبحت دون وعي “شيئا آخر”، إنها أمة غربية بدون ضمير ولا وعي، كانت تعتبر نفسها أوليغارشية ليبرالية وليست ديموقراطية ليبرالية. ورغم كل ذلك لازلنا نعتقد أننا ليبراليون وديموقراطيون ونزعم تفوقنا على بقية العالم وأن قيمنا هي قيم كونية، وباسم هذه القيم ها نحن نواجه روسيا عبر مساعدة أوكرانيا على الاحتفاظ باستقلالها.

وبما أننا أضفنا عطب الذاكرة إلى غياب الوعي فقد فضلنا تطبيق العقوبات الاقتصادية على إرسال الجنود للقتال وكأننا نسينا أن هذا النوع من أدوات الحرب لا يكون له تأثير طفيف. إن العقوبات سلاح كلاسيكي من أسلحة الحرب الشاملة. يذكرنا الباحث الهولندي اللامع الذي يشتغل في جامعة كورنيل الأمريكية، في كتابه “السلاح الاقتصادي” أن العقوبات التي أقرتها عصبة الأمم كانت مقتبسة من عقوبات الحلفاء على خصومهم بعد حرب 1914-1918، التي أسفرت عن سقوط 300000 من القتلى في الأمبراطوريات المركزية وعن 500000 من القتلى في الأمبراطورية العثمانية، وأن العقوبات المفروضة على العراق أيام الرئيس صدام حسين قد نتج عنها موت 300000 من السكان.

إن العقوبات تهدف إلى زعزعة مجتمع الخصم وتدمير نظامه الحاكم انطلاقا من موت كثير من الأشخاص المسنّين ومن الأطفال. نحن نريد تدمير الاقتصاد الروسي وإسقاط الرئيس بوتين، وفي هذه الظروف أليست النتيجة هي دفع الروس إلى الرد بتصعيد اقتصادي من خلال إقفال أنابيب الغاز الذي تصدره لما روسيا لزعزعة مجتمعاتنا وأنظمتنا ؟ إنه دائما منطق الوعي الزائف أو الغائب.

عبر فرض هذه العقوبات لقد أردنا أن تصبح الحرب العالمية أمرا ضروريا ،وكما يقول مولدير فإن العقوبات التي يراد منها حنق العدو يجب أن تقضي على “المحايدين”، وهذا المنطق هو الذي جعل الغرب يطلب من كل الشعوب أن تساهم في العقوبات وبناء على هذا المنطق قبل الرئيس الفرنسي أن يتحول إلى أداة غير واعية عندما طالب وهو يخطب في الأمم المتحدة من كل المحايدين أن يعبروا عن موقف صريح. إن رؤيتنا المتضخمة لأنفسنا هي التي تدفع إلى الإعلان عن هذا التهديد.

ولكن لماذا لا نقبل ولو على سبيل التجربة الروحية أن نعترف بوجود الآخرين؟ إن علم الأنثروبولوجيا يخبرنا أن الأخرين، وبنسبة 75 في المائة، يحملون قِيماً عائلية أبوية وغير فردية ، ولا تهتم كثيرا بحقوق النساء وتعادي الشذوذ الجنسي، إن قيمنا النسائية والفردية جدا والمتساهلة مع الشذوذ لا تعجبه أبدا وفي هذا الحقل الأنثروبولوجي تظل روسيا استثناء غريبا لا تمجد القيم الفردية ولا تتعاطف من الشواذ ولكنها تحترم وضعية المرأة.

علينا أن نكون أقل تأثر بالفكر التقني ونهتم بالتاريخ، إن المملكة المتحدة وفرنسا وهولاندا وبلجيكا وألمانيا واليابان كانت كلها قوى استعمارية شرسة فتكت بهذه البلدان المحايدة التي نطلب منها اليوم أن تخضع لنا. أما الولايات المتحدة التي لعبت دور الشرطي في أمريكا اللاتينية فإنها ناصرت القوى الاستعمارية في إطار عولمة ضاغطة مهيمِنة وحاولت ولا تزال إخضاع العالم كله عبر استعمال الأدوات المالية وشبكة الأنترنيت، فضلا عن قواتها المسلحة، فهل لازالت الهند ترغب في الخضوع للملك البريطاني ؟ وهل لا زالت دول إفريقيا الغربية تقبل طاعة الرئيس الفرنسي وهل أندونيسيا تقبل الاستمرار في الخضوع لهولاندا؟

إن بقية العالم تتوجس منا نحن الغربيين ولا تثق فينا ولا تنساق وراء قيمنا الأنثروبولوجية والسياسية، ولا ترانا ديموقراطيات ليبرالية بل أوليغارشيات تريد الهيمنة على الفقراء وتشعر بعودة طبيعتنا الاستعمارية وإذا كانوا مضطرين للاختيار بين روسيا والغرب فمن المرجح أنهم سيختارون روسيا.

+ عالم انثربولوجيا ومؤرخ وروائي فرنسي

++ عن مجلة “ماريان” 5 أكتوبر 2022

+++ ترجمة: أحمد ابن الصديق