تكون الثورة خاطفة وعنيفة، وتكون الثورة المضادة خاطفة وعنيفة وعنيدة وإجرامية، أما الصراع على السيادة داخل البلدان الثورية ومن خارجها فيكون عنيفا وإجراميا ومدمرا وبلا رحمة وغالبا من دون تخطيط في أجواء من الخيانة الوطنية والعمالة والاحتلال الأجنبي؛ فبلد أنهكه الاستبداد والثورة والثورة المضادة يكون محط أطماع الأجانب، فيغرسون فيه سكاكينهم ويقطعونه إربا إربا، تحت عناوين مختلفة ومن أجل مصالحهم الشخصية، هذا ما يقع دائما، وهذا ما وصلنا إليه في منطقتنا.

لقد امتد الصراع على سيادة أوربا لما يفوق 70 سنة (1848-1918) حسب المؤرخ البريطاني آ. ج. ب. تيلور (1906-1990) في كتابه المرجعي المهم “الصراع على سيادة أوربا“ (المركز الثقافي العربي). وانتهى ذلك الصراع بحرب كونية (الحرب العالمية الأولى) أعادت تشكيل الأحلاف، وتشكيل البلدان ورسم الحدود، واختفاء مؤسسات وولادة أخرى جديدة. لكن أسوأ ما وقع تجلى بالأساس في ضياع الروح التحررية للثروة الفرنسية خصوصا، أو كما قال ألكسيس دو توكفيل (1805-1859) في “النظام القديم والثورة“، إن نابليون قد قضى على العبقرية التحررية للثورة الفرنسية، من خلال صراعاته الإمبراطورية التوسعية.

تشهد منطقتنا، بعد ثورات 2011 وما تلاها من حروب مذهبية ودينية وضعا مشابها، وإن يكن من طرف لاعبين إقليميين ومحليين في الدرجة الأولى، إلا أن العين لا تخطئ أثر القوى الكبرى التي تسود عالم اليوم. وكما أعادت الحروب المابعد–ثورية (1789 و1848) تشكيل أوربا فستعيد حروب المنطقة تشكيل خرائطها والتحالفات فيما بين قواها المحلية، وتحالفات قوى المنطقة مع قوى عالمية أكبر.

لقد تغيرت السياقات وتغير مفهوم القوة في العلاقات بين الدول، ولم تعد القوة العسكرية هي القوة الوحيدة المحددة للإنتصار أو الهزيمة في الصارعات بين الدول، وأصبح لدينا مفهوم جديد هو “القوة الناعمة“. لقد عرف آ. ج. ب. تيلور القوة الكبرى بالبلد الذي يتوفر على القدرة على كسب حرب، أما تلميذه اللامع جوزيف ناي فقد أعاد تعريف قوة الدولة بقدرتها على الإغراء والإقناع وممارسة التأثير بأدوات لا توجد الحرب بينها، إنها ما يسميه ب“القوة الناعمة“.

لكن بعض الدول في المنطقة لم تفهم بعد هذا التغير الجذري، الذي يربطه جوزيف ناي بطبيعة العصر المعلوماتي المترابط الذي نعيش فيه. ولم تتعلم حتى من تجارب القوى العظمى التي دأبت على البحث عن ممارسة التأثير وبسط النفوذ بوسائل غير تقليدية مثل الثقافة والأفكار والشراكات الاقتصادية. وهذه الدول اندفعت في حروب مدمرة، وصراعات خاسرة كلفت عشرات الآلاف من الضحايا وتبذير الملايير من الدولارات من الموارد الاقتصادية خلال أقل من عقد واحد.

وفي الآن نفسه، نرى بعض القوى الإقليمية التي فهمت أن قواعد العلاقات بين الدول تغيرت، كيف تربح نقاطا في هذه الصراعات من خلال تطوير وسائل إعلامية بمعايير عالمية، أو بناء اقتصادات تنمو بسرعة تشكل عامل جذب وتكون بالتالي قوة ناعمة تجذب مواطني المنطقة إليها باعتبارها نموذجا ناجحا يطمحون إلى تقليده أو حتى العيش في ظله.

وبعض هذه القوى ليست الآن محل إعجاب وإغراء لمواطني بلدان المنطقة فقط، بل أصبحت لها قدرة تأثير هائلة على موازين القوى بسبب سوء فهم بعض القوى المحلية لطبيعة العصر الذي نعيش فيه. وسيسبب هذا اختلالا في التوازن بين القوى المحلية وسيطيل أمد الصراع على سيادة المنطقة، وسيجعل الاستقرار في المنطقة أكثر تكلفة وأبعد من أن يتحقق خلال السنوات القليلة القادمة.