أرى من الخطأ الجري وراء اللغط الذي سببه طيش الأديب وليس المفكر يوسف زيدان في ندوة تويزا بطنجة حول موضوع “الحاجة إلى التنوير”. وهو موضوع فكري جيد يستحق أن نطرحه في الوقت الراهن، لكن ضحالة فكر الأديب يوسف زيدان وتصرفاته الصبيانية جعلت قيمة الندوة ناقصة شيئا ما. والإشكالية في كل هذه الزوبعة هو عدم احترام أخلاقيات الحوار البناء والجاد من طرف هذا الزيداني الذي زايد على الكل بدون إشعار ولا سابق إنذار أثناء دوره في المداخلة.

أولا: تدخل بطريقة استفزازية في طريقة تسيير الجلسة وترتيب المداخلات بقوله : “هي الست الطيبة دي مش حتتكلم ولا”، ليس من حقه التدخل في دور المسير الذي له كل الصلاحية في تدبير الوقت وكيفية تسييره للجلسة الفكرية. 

ثانيا: لم يحب السؤال الذي طرحه عليه ياسين عدنان من أساسه ولم يجب عنه، وتحجج بكلام خارج عن السياق العام للندوة، ” ثلاث ساعات مقدر أعيد إلي قلت مبارح” ؟ …

والسؤال صريح وموضوعي كما طرحه ياسين عدنان: كيف يتصور يوسف زيدان دور المثقف اليوم في العالم العربي وهو يتجاذب ما بين السلطة من جهة.. والمجتمع المتبرم من المعرفة من جهة؟ كيف تتصور هذا الدور؟

وبكل لباقة وأدب أعاد ياسين طرح السؤال: دور المثقف وكيف أنه أحيانا ينعزل داخل خطابه عن المجتمع.. لكنه عوض الإجابة الدقيقة على موضوع التنوير وعلى سؤال دور المثقف، فضل الزيداني المناورة والمراوغة كأنه في ملعب كروي أمام جمهور فرجة واختار شطط الكلام بدون معنى، قال متهكما على المسير وموجها سؤاله للجمهور: “عندكم في المهرجان الشاب خالد بيغني حد قال لو قدامك عشر دقائق..” ومضيفا “احتياج الأمة دي للفكر أكثر ولا للغنى “. كان الأولى أن يتحجج المتدخلون الثلاثة الذين سبقوه في أخذ الكلمة “أحمد عصيد، يوسف صديق وحسن أوريد” الذين التزموا بالوقت المحدد كما نبههم المسير قبل إعطائهم الكلمة، كانت مداخلاتهم قوية ومركزة وفي غاية الدقة ولم يتحججوا بضيق الوقت، بل كانوا مقنعين بالنسبة لي في طرح أفكارهم وحججهم كما يرونها من منظورهم الخاص. 

ثالثا: تهكم على المسير بطريقة سخيفة واستعراضية في غاية طرح السؤال من أصله بدل الاشتباك مع السؤال وتقديم جواب عقلاني فلسفي يرقى إلى مستواه الفكري والأدبي، بل هو مخالف لتصريحه في أول الندوة بأنه أستاذ الفلسفة، وهذا ما هو إلا ادعاء، الدليل جوابه الفارع والفارغ من أي حمولة فكرية وحجج مبينة تخاطب الفكر والعقل معا. مجمل جوابه ” أنا باخذ من ثراتنا الكبيرة .. ثراتنا وثرات الآخرين أبعدين أشوف الواقع عايز إيه” “وأنت تقول لي ما الذي يمكن أن يفعله المثقف في التنوير؟” ومن عجائب وغرائب تهكمه وتسفيهه للسؤال المطروح هذا الجواب الشافي الكافي : “هو في حد حيعمل التنوير إلا المثقف أمال منتظر مين يعني منتظر السياسي الاقتصادي إلمين طيب”. هل سمع يوسف زيدان السرحان جيدا السؤال قبل الإجابة عنه 🙂

ماذا نريد من مثقفي اليوم؟ لماذا المزايدة على المثقفين ووضعهم في كفة واحدة؟ لماذا هذا التعميم المجاني في طرح الأفكار وتعويمها في منطق فكري عقيم؟ ألا يكفينا هذا التشتت الذي نعيشه على كل الأصعدة؟ هل لابد من التجريح والتهكم لكي نصنف أنفسنا من كبار الكتاب وجهابذة المفكرين؟ 

رابعا: ثم انتقل إلى التهكم على المداخلات القيمة للأساتذة المحاضرين بطريقة مستفزة ومقززة، لا تمت صلة لا بأخلاقيات الحوار ولا بأدبيات الفكر ولا بمستوى فكري ناضج مبني على أسس موضوعية. بدأ يوزع الاتهامات يمينا وشمالا كالأبله في حفل تنكري. وبخ الجميع مسفها النقاش الجاد، مستعملا عبارات سوقية وهو الممثل البارع في التسفيه. من قبيل ” بس إيه حكاية القطيعة، قطيعة إيه يا عم؟” “مانت حتقولي المثقف يعمل قطيعة يروح مع الجماعات الدينية .. انسى الموضوع دا خالص..” . “ومتعدش تقولي مسؤولية المثقف.. ” بزمتك إنت تعرف خمس مثقفين عرب خمسة بس، واحد يكتب في بلد وفيأثر في بلد ثانية” “مفيش مثقف عربي عام ولو كان فهو استثناء” ” إنت عمال تقول ما هي مسؤولية المثقف العربي إللي هو فين. فين أصلا علشان تقول مسؤولية..” حتى أنه عرج بحواره المطول والمترهل على حكاية بناته مع اللغة الفرنسية وكيف اهتدى إلى حيلة : ” قلت لهم بس بق مفيش دراسة بالفرنسية وفيه لغة انجليزية مدلعة دلع الكلمة تبقى فرنساوي”: والأمثلة تطول هنا في عد أخطاء مداخلته الثمينة.. 

اللهم إذا كان هذا الزيداني من أصحاب استعراض العضلات في كل الأوقات، لكن المقام مقام نقاش فكري محض، محدد مسبقا بموضوع محدد، وأسئلة قيمة جادة ودقيقة، وحيز زمني محدد. مداخلته كلها مبنية على التسفيه والتهريج وتفتقر لأدنى أسس الحوار، ولأدنى أسس البناء الفكري والمعرفي، كلامه في غاية التسطيح والتجهيل. شخصيا لم أقتنع بمداخلته لأنني بصراحة لم أحصل على فكرة معينة حول الموضوع رغم أنه أخذ حيزا من الوقت أكثر من الآخرين، كل كلامه كان تحويم وتهويم وتعويم للمفاهيم وللنقاش المبتذل، لقد ترك حبل الكلام مطلقا على عواهنه ليسرح بالجمهور في كل الاتجاهات بدون هدف محدد وبدون فكرة قائمة محددة. 

خامسا: عندما أخذ المحاضرون الكلمة مجددا للإجابة على أسئلة الجمهور والتعقيب على تهكمات الزيداني المجانية، قدموا إجابات جميلة ووافية تستند إلى الفكر وسبل الإقناع، بل نوهوا ببعض ما جاء من مداخلة الزيداني احتراما وتقديرا عكس ما فعله معهم. ولهذا لعمري هو قمة في التواضع والتسامح الفكري، ودرس في أخلاقيات النقاش الفكري الجميل والرزين يجب أن يحتدى به. ليس من الضروري المطابقة في الأفكار إلى حد التشابه لأن الفكر قائم بالأساس على الاختلاف. حتى أن المسير تعامل معه بأريحية أكثر وأعطاه حرية أكبر للإجابة على تفاعلات الحاضرين من دون أن يشير إلى الوقت المسموح به الذي تجاوزه بكثير أيضا.

سادسا: فرق كبير بين استشهاد هادف لكبار العلماء يصب في صميم الموضوع ألا وهو التنوير الذي عرف به عصيد وكما جاء على لسانه، استشهد بمقولة الفيلسوف كانت: “الأنوار هي أن تكون لديك الشجاعة بأن تستعمل عقلك” 

وببيت شعري للمعري : “إثنان أهل الأرض عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له”

وبين استشهادات غير هادفة لا تصب في صميم الموضوع المطروح كما فعل يوسف زيدان، كأننا في مسابقة لاستعراض المحفوظات أمام الملء. شخصيا لا أعيبها لأنها في غاية الجمال والروعة لكنها خارجة عن موضوع النقاش، والغرض منها هو دغدغة وجدان الجمهور ليس إلا لكسب تعاطفه والتباهي الفارغ من المضمون أمام الغرماء الذين هم في الأساس السليم زملاء الفكر.

وهذا ما جاء على لسانه:

أبدا تحن إليكم الأرواح ووصالها ريحانها وراح 

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم وإلى وريد أوطانكم ترتاح

.

.

وهل استعمال العقل يعارض ويعيق حل المشاكل والصدامات التي نعيشها اليوم وخير مثال الصراع الطائفي السني الشيعي الذي أشار إليه الزيداني. 

سابعا:

تهكم أيضا في بداية مداخلته على علماء فلاسفة ولم يذكر لنا سببا مقنعا لنتابع معه الحوار بعقلانية وتبصر حيث قال: “عمركم سمعتوني أحيل على هيجل أو كانت أو مش عارف إيه” حتى ابن عربي لم يسلم من تهكمه وأصدر حكم قيمة عليه في آخر مداخلته، وقال بالحرف الواضح ” ابن عربي شعره ضعيف”

ثامنا: إن من عيب الحوار عدم استيعاب السؤال المطروح والاستخفاف بموضوع وجدية الندوة وبالمسير وزملائه المحاضرين وبالجمهور العريض الذي ضحى بوقته الثمين من أجل أن يتابع الندوة الفكرية بكل إرادة وحرية.. 

والجلي للعيان أن زيدان اختلطت عليه أمور السياسة بالدين وبالاقتصاد والأدب وبدأ يغرف عشوائيا من هنا وهناك لدغدغة وجدان الجمهور وكسب تعاطفه أمام ضحالة فكره.

وختاما، وفي خضم هذه الصراعات الفكرية الوهمية الزيدانية من حقي طرح هذه الأسئلة التي تتقافز في ذهني :

أين احترام الرأي والرأي الآخر؟ أين الحوار الرزين والجاد المبني على الاحترام والتسامح ومقارعة الفكر بالفكر وبالحجج الدامغة؟ لا ينفع لعب دور الأستاذية يا سيد زيدان في ندوة فكرية بهذا الحجم، ولا في أي حوار ولو كان هامشيا. مصادرة حقوق الآخرين في إبداء الرأي وازدراء مداخلاتهم لهو من صميم التعنت والتخلف وقمة في الجهل والاستبداد. حتى إذا كنت تلميذا أمام أستاذك في الفصل تجيب عن سؤال خاص بالدرس، فلن يتعامل معك أستاذك بهذا السخف الذي تعاملت به مع زملائك كيف ما كان الجواب. وهذا ليس من صفات المثقف الحقيقي الحر الذي يؤمن بنور العقل وبقوة الكلمة في التغيير المطلوب.

أيها الأحبة ماذا نريد من مثقفي اليوم؟ لماذا المزايدة على المثقفين ووضعهم في كفة واحدة؟ لماذا هذا التعميم المجاني في طرح الأفكار وتعويمها في منطق فكري عقيم؟ ألا يكفينا هذا التشتت الذي نعيشه على كل الأصعدة؟ هل لابد من التجريح والتهكم لكي نصنف أنفسنا من كبار الكتاب وجهابذة المفكرين؟ متى نتعلم في عالمنا العربي والأمازيغي والإسلامي حوارا مجديا بناء لا يستخف بعقول الناس؟ 

حرصت في هذا المقال المتواضع على تشريح ندوة تويزا حول موضوع “في حاجة إلى التنوير” والتي تابعتها على اليوتوب بكل تمعن وموضوعية، وكانت السبب في اندلاع الحريق بين عموم المثقفين والمتتبعين للشأن الثقافي ولن أرد على ما جاء خارج سياقها، لأنها انفعالات شخصية غير واعية وغير مسؤولة. وبنظري لكي نخرج بأفكار جديدة وقوية تساعدنا على النهوض من الأزمات والتخلص من كل المتاهات، يجب أن نطرح أسئلة حقيقية يكون فيها الاحترام هو الأسمى وبناء الفكر هو المبتغى، ولا نتأفف من أي سؤال ونتبرم من الإجابة عنه. لأن الأساس في كل فكر قويم هو السؤال والإجابة تأتي في المرحلة الثانية، وليس مهما الإجابة عنه في اللحظة الآنية، بقدر من إثارة العقل للتفكير في الأمور بشكل جدي ورزين وإيجاد الحلول في المستقبل القريب. 

وما خيط دخان عابر من سيجارة نافثة إلا سحابة صيف عابرة، لكن دخان الندوة قد تصاعدت سمومها لتجد لها أفقا رحبا عريضا بين من يندد وينكل في الخفاء بالمسير تارة وبالمحاضرين تارة ويشتم مجانا الكل بشكل غير محدد تارة أخرى. هكذا نعيش في ضبابية تامة واختناق دائم إلى أجل غير مسمى واعجبي