لم تكن محطة 7 أكتوبر 2016 مجرد استحقاق انتخابي عادي، وإنما امتحانا للدولة، ومدى التزامها المعلن بالاختيار الديمقراطي في الوثيقة الدستورية، كما أنها كانت مناسبة لقياس خريطة التوازنات داخل الحقل السياسي المغربي.

وفعلا، أظهرت النتائج النهائية أن حزب العدالة والتنمية لايزال يشكل القوة الحزبية الأولى في البلاد، رغم خوضه تجربة حكومية أثارت كثيرا من الجدل بين منتقدين ومنوهين، وجعلت عددمن المراقبين يتوقعون تراجعه عن تصدر المشهد السياسي.

ويبدو أن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، كانت مفاجئة حتى للماسكين بالسلطة، وجاءت خارج توقعاتهم، وظهر أن هناك جهات في النظام، لم تكن راضية عن النتائج، لأنها كانت تدعم حزب “البام”، للفوزفي الانتخابات، لكن الرهان على هذا الحزب فشل، وهو ما دفع إلى الانتقال بسرعة إلىبديل له وهو حزب “التجمع”،الذي كان القائد الفعلي لمشاورات تشكيل الحكومة، والتي دخلت نفقا مسدودا لأكثر من خمسة أشهر، انتهت بإقالة رئيس الحكومة المعين، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله ابن كيران، وتعيين سعد الدين العثماني، رئيس المجلس الوطني للحزب.

لم يعد سرا أن هناك أطراف في السلطة حاولت الانقلاب على نتائج استحقاق 7 أكتوبر، من خلال الدعوة إلى اجتماع “سري” ومغلق، جمع أهم الأحزاب السياسية، بقيادة حزب “البام”، من أجل الاتفاق على إفشال مساعي ابن كيران رئيس الحكومة المعين سابقا، لتشكيل حكومة موحدة ومنسجمة، لكن الخطة فشلت، وبعدها جاءت “الاستقالة” المفاجئة لمزوار من قيادة حزب التجمع، واستدعاء الملياردير أخنوش ليحل مكانه، ويقود “عملية كسر” العظام مع ابن كيران.

وجاءاستقدام أخنوش للعب دور القائد الفعلي لمشاورات الحكومة، لأن الرجل معروف بقربه من القصر، وهو ما جعله يصطدم مع رئيس الحكومة الرسمي، ابن كيران، الحامل للشرعية الانتخابية، والذي لم يستسغ إملاءات واشتراطات أخنوش، التي تجاوزت الحدود، في محاولة لإخضاع ابن كيران، وإجباره على القبول بهندسة حكومية هجينة.

لا يمكن لأحد أن يتوقع ما هي التطورات السياسية التي ستحدث في مقبل الأيام، لكن هناك مؤشرات غير مطمئنة، خاصة بعد إنهاءمهمة رئيس الحكومة المعين سابقا بطريقة غير متوقعة، وتكليف سعد الدين العثماني

لم تتوقف إملاءات أخنوش على رفض مشاركة حزب الاستقلال، بل أصبح في كل مرة يختلق شروطا جديدة، بخصوص الأحزاب التي ستشارك في الحكومة، وهو ما جعل ابن كيران يقتنع متأخرا أن هناك محاولات لإفشال مشاوراته لتشكيل الحكومة، فأعلن عن إيقاف المشاورات، وخروجه بالبلاغ الشهير ” انتهى الكلام”.

فهل انتهى الكلام عن تجربة ابن كيران الحكومية؟ وهل سيتمكن العثماني من ملأ المنصب الذي شغله سلفه؟

ذهب البعض إلى أن إقالة ابن كيران، كان بسبب فشله من إدارة المشاورات بين الأحزاب، لكن هناك مراقبين أكدوا أن جهات في السلطة لم تعد راغبة في استمرار الرجل في تصدر المشهد، وأزعجتها شعبيتهوشغله مساحة كبيرة في الحقل السياسي.

لكن الذي يغفل عنه عدد من المحللين، هو أن المستهدف من الإقالة ليس ابن كيران، كشخصية طبعت الحياة السياسية المغربية، بل هو حزب العدالة والتنمية، الذي كان دائما يشكل هاجسا لدى النظام، وتعرض منذ ولادته إلى المضايقات والحصار، ليس لكونه حزبا يحمل مرجعية “دينية”، وإنما لنزاهة مناضليهومناضلاته، وقربهم من الشرائح الاجتماعية، فضلا عن قوته التنظيمية، في مقابل ضعف وتراجع كبير في شعبية الأحزاب الأساسية الأخرى.

واللافت أن هذا الحزب المحافظ كلما تعرض للتضييق والحصار،إلا ويزداد قوة وشعبية، ومع ذلك فإن خصومه لا يزالون مصرين على التصدي له بكل الوسائل، فهل سيكون الحزب وزعيمه، في مستوى التحدي بعد تخليه عن شروطه لتشكيل حكومة جديدة؟وهل طويت صفحة “الزعيم” ابن كيران؟

لا يمكن لأحد أن يتوقع ما هي التطورات السياسية التي ستحدث في مقبل الأيام، لكن هناك مؤشرات غير مطمئنة، خاصة بعد إنهاءمهمة رئيس الحكومة المعين سابقا بطريقة غير متوقعة، وتكليف سعد الدين العثماني،ومنح أخنوش الدعم الكامل للتحكم في هندسة الحكومة وتشكيلها، في تجاوز صارخ للآلية الديمقراطية.

بعد خمسة أشهر ونيف، من مشاورات تشكيل الحكومة، وصل ابن كيران إلى الباب المسدود، وأدرك أنه لم يعد مرغوبا فيه، لكنه لم يتوقع إقالته بتلك الطريقة، حيث شكل ذلك صدمة له ولأنصاره، وإن حاولوا  إخفاء الأمر، لكن مع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح ههنا: هل تعثر المشاورات كان بسبب شخصية ابن كيران؟ أم هو مرتبط بطريقة تدبير قيادة الحزب للمشاورات؟ أم هو متعلق بالأطراف الأخرى التي وضعت أمامه العراقيل؟

لا أحد يجادل في كون أسلوب ابن كيران وشخصيته، تركت أثرا لها في الحياة السياسية عموما، وفي مشاورات تشكيل الحكومة خاصة، لكن ذلك ليس هو السبب الوحيد لتعطل تشكيل الحكومة، لأنه سعى إلى مقاومة الإملاءات والاشتراطات التي  قدمها الرئيس الجديد لحزب “التجمع” عزيز أخنوش، لكنه اصطدم بقيادة الأخير لحلف رباعي، أضعف قدرته على الحفاظ على موقعه التفاوضي، ووضعه في زاوية ضيقة، وكان الهدف على ما يبدو هو إسقاط ابن كيران من رئاسة الحكومة، وإيجاد بديل له، بمواصفات شخصية  مختلفة، تميل إلى التوافق والتهدئة والحلول السهلة.

وبناء على ذلك، فإن الحكومة التي سيشكلها سعد الدين العثماني،أو بالأحرى أخنوش، ستكون حكومة هجينة، ولا تعكس الشرعية الانتخابية، ولا تتمتع بأية صلاحيات فعلية، وسيغلب عليها منطق “الريع الحزبي” ، وباختصار، هي ستكونعبارة عن حكومة تصريف أعمال.