كثير من المسؤولين في هذه البلاد غير السعيدة، لا يتحملون مسؤولياتهم، ويهملون المهام التي أسندت إليهم، بدون أن يشعروا بوخز الضمير أو خوف من المحاسبة، ولسان حالهم المثل: “كم من حاجة قضيناها بتركها”، ولذلك اشتهرت بلادنا بمصالح المواطنين المعطلة، والمشاريع المؤجلة، والخدمات المغيبة أو المعيبة.

ولو أردنا الوقوف على الأزمة التي يشهدها المغرب، فلن نستطيع حصر تجلياتها، وضبط تفاصيلها وتشعباتها، لأنها أزمة هيكلية عميقة، تمتد من المجال السياسي والاقتصادي إلى الاجتماعي والثقافي.. ولذلك سنكتفي في هذه المقالة بأحد مظاهر هذه الأزمة، التي توضح أن أغلب المسؤولين غير مهتمين باحتياجات ومشاكل المجتمع.

بالإضافة إلى المشاكل ذات البعد الوطني التي يعاني منها المواطن، وخاصة في مجال التعليم والشغل والصحة والسكن.. هناك مشاكل أخرى ذات بُعد محلي لا تقل أهمية، والمتعلقة بتدبير الشأن الجماعي، حيث يلاحظ أن هناك تقصير غير مبرر للمجالس المنتخبة في النهوض بمصالح المواطنين، سواء تعلق الأمر بالخدمات الإدارية أو التنموية أو الصحية أو الثقافية.. كما أنها لا تقوم بواجبها بتوفير البنيات التحتية والمرافق الصحية، والتحسيس والتوعية بأهمية حماية المحيط البيئي، ولا تتحمل مسؤوليها في تدبير مجال جمع النفايات، وإن كان عن طريق التفويض لشركات خاصة لكن بدفتر تحملات يلزمها بتحسين جودة هذا القطاع وحسن تسييره.

وإذا كانت مدينة الرباط عاصمة المغرب الثقافية (والإدارية)، فإن ساكنة المدينة تعاني كباقي المدن، من عدة مشاكل تتعلق بتردي غير مسبوق لخدمات النقل العمومي، وضعف البنيات التحية والخدماتية، ولم تعرف بنياتها العمرانية وشوارعها وأحيائها إصلاحات إلا قبل سنوات قليلة، في إطار مشروع “الرباط مدينة الأنوار”، في حين هناك مدن صغيرة عرفت قبلها إصلاحات لبنياتها التحتية والعمرانية، وأصبحت نموذجية في المجال التهيئة العمرانية والبيئية، ورغم أن أشغال مشروع الرباط لا زالت لم تنته، إلا أنها تعرف تأخيرا في التنفيذ والإنجاز، وغياب رؤية للنهوض بالمجال البيئي والصحي بالمدينة، حيث يسجل المتتبع لبعض البنيات المنجزة، مثل كورنيش وادي أبي رقراق، غياب أبسط الوسائل المحافظة على البيئة، مثل حاويات وضع النفايات، حيث مرت شهور على إنجاز الفضاء، قبل أن يتم توفير عدد قليل من الحاويات، لم تكن كافية لتشجيع المواطنين على الحفاظ على نظافة المكان، إضافة إلى غياب تام للمراحيض العمومية، ومعلوم أن هذا الكورنيش هو المتنفس الوحيد لساكنة الرباط وسلا والنواحي، تقصده الأسر للاستجمام والتنزه رفقة أبنائها وبناتها، وخاصة في فصل الصيف تزوره أعداد كبيرة من العائلات، وتمكث فيه وقتا طويلا، وغير خفي أن الصغار قبل الكبار، أثناء تواجدهم بالفضاء، قد يباغتهم في أي لحظة “المخاض”، من أجل قضاء حاجتهم البيولوجية، وفي ظل غياب مراحيض، سيكونون مضطرين للبحث عن مخرج من “الورطة” ولو كان خلف سور أو سيارة..

هذا مثال وحيد من بين أمثلة كثيرة، يلخص معاناة ساكنة الرباط وسلا والنواحي، مع غياب المرافق والبنيات والتحية والصحية والخدماتية الأساسية، والذي تتحمل فيه المسؤولية الأولى الدولة، باعتبارها السلطة الوصية على مشاريع التهيئة والتعمير والبناء والترميم الخاصة بالمدن، وخاصة أنها تملك سلطة المصادقة والمراقبة والمحاسبة على عمل المجالس الجماعية والجهوية، ومن خلال المثال الذي ذكرناه، يتضح جليا أن المجال البيئي والصحي، لا يدخل في مجال اهتمام الجهات المسؤولة، ولذلك لا غرابة أن تكون العاصمة نموذج سيء، في مجال التدبير العمومي للشأن المحلي، وإذا كان هذا وضع عاصمة المملكة، فكيف بالمدن الأخرى؟

وكما يقال بضدّها تُعرَف الأمور، لا بد من الإشارة في هذا الصدد، إلى أن تدبير الشأن المحلي، وإن كانت تتحمل فيه المجالس المنتخبة المسؤولية، إلا أنه يرتبط بعلاقة وثيقة بالسلطة المركزية، التي تشتغل تحت إشرافها ووصايتها هذه المجالس، وبالتالي فإنها تتقاسم معها المسؤولية عن التدبير والتسيير للمجالس والبلديات والمقاطعات، والأحزاب والتيارات السياسية المنتخبة في المجالس المحلية، تتحمل المسؤولية كاملة في النهوض بالتنمية المحلية، والتفاعل مع مشاكل واحتياجات ساكنة المدن التي يسيرونها، وكمثال على قدرة المجالس المحلية على إحداث التغيير المطلوب في المدن التي تسيرها، نذكر نموذجا من خارج المغرب، يتعلق بالانتخابات البلدية التي شهدتها تركيا عام 1994، والتي ترشح فيها رجب طيب أردوغان (قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية)، للتنافس على مستوى بلدية أسطنبول، وفاز فيها وتحمل مسؤولية تسييرها، وهي مثقلة بالمديونية المتراكمة، وضعف البنيات التحية وسوء تدبير لقطاع جمع النفايات، ما جعل العاصمة غارقة في التلوث، فقام رئيس البلدية حينها “أردوغان”، بثورة في مجال التدبير والتسيير، فتحولت “أسطنبول” خلال فترة رئاسته لبلديتها، إلى مدينة نموذجية، من خلال المشاريع الإصلاحية التي دشنها على عدة مستويات تنموية وعمرانية، وحارب الفساد الذي طبع تسيير وتدبير المجالس السابقة، وقد منحت تلك التجربة الناجحة في تدبير الشأن العام المحلي، دفعة قوية لانتقال “أردوغان” وحزبه، لتحقيق نجاحات كبرى على المستوى الوطني.