ذكرتني المأساة الحالية التي يعيشها شباب الريف المعتقلين والتي أدت ببعضهم إلى إعلان تخليهم عن الجنسية المغربية وخلع بيعة الملك، بحادثة أليمة ذات صلة، وقعت منذ ثلاثين سنة خلت.

ففي شهر آب من العام 1989 توفي، وهو رهن الاعتقال السياسي، صديقي عبد الحق شباضة. كنا ناشطين معا في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بجامعة الرباط ومطاردين من لدن أجهزة الأمن. بقينا على اتصال حتى بعد أن تمكنتُ من مغادرة البلاد في اتجاه أوربا. حاول هو فعل نفس الشي عدة مرات، لكن، في الأخير، ستعتقله الشرطة في باخرة متوجهة من الدار البيضاء إلى أحد موانئ أوروبا. تعرض لسوء المعاملة على يد البوليس ثم عُذب في السجن وهو يقضي فترة محكوميته. اعتدى عليه مرة حارسان بتحريض من مدير السجن السادي، لكنه هزمهما إذ طرحهما أرضا. لقد كان عبد الحق شابا هادئا ومسالما ولكن كانت له نفس ترفض الظلم وتناكف العدوان. كان كذلك بالغ الشجاعة ورياضيا من الطراز الأول، حيث كان يتوفر على الحزام الأسود في فن الكاراتيه.

انتقم منه مدير السجن شر انتقام فقام بتقييد يديه ورجليه وأمر بربطه بعمود حديدي في عنبرة مظلمة. دخل صديقي في اضراب عن الطعام احتجاجا على هذا التعذيب وسانده مجموعة من معتقلي الرأي الشبان بإعلانهم الدخول أيضا في الاضراب. لجأ مدير السجن إلى وسيلة إجرامية في محاولة منه تكسير الحركة الاحتجاجية اذ منع عن عبد الحق شرب الماء لمدة طويلة لا أتذكر كم دامت. ويظن اليوم رفاقه في الاضراب عن الطعام أن هذا الحرمان من الماء هو الذي سيؤدي الى تعقيدات صحية متلاحقة ستؤدي الى استشهاده في الأخير، وهو في اليوم الرابع والستين من الاضراب عن الطعام، بينما نجا من الموت السبعة المضربين الآخرين.

وهنا لابد أن أورد شهادتي عن هذا الزعيم الطلابي الفذ والمعارض الشرس لنظام الحسن الثاني، لأن كثيرين من الناس «المستقرين» يظنون أن النشطاء المنتقدين للسلطة إنما هم نزقون لا مسؤولون أو يبحثون عن الشهرة أو التسلق السريع…أقول لهؤلاء، ومنهم من أعاب بالأمس على خيرة شباب الريف تظاهرهم ومناهضتهم للظلم والاستبداد ويُعيب اليوم على بعضهم تخليه عن الجنسية والبيعة، أقول لهؤلاء إن حياة ووفاة عبد الحق شباضة دليل على أنً كلامهم هراء وادعاء. إن الشباب هم ملح الأرض وعندما يكونون واعين وملتزمين بقضايا شعبهم فإن بإمكانهم صنع المعجزات، فهم الذين طردوا الاستعمار وهم الذين واجهوا بأياد عارية نظام أوفقير المدجج بالسلاح، وهم الذين وقفوا وراء بنبركة وبوعبيد لما قالوا لا للاستبداد.

كان عبد الحق شباضة رجلا مقتدرا وذا شعور قوي بالمسؤولية رغم أنه توفي وعمره لا يتحاوز الثامنة والعشرين. فقد كان وهو يتابع دراسته ويناضل في النقابة الطلابية، يساعد بشكل كبير والدته في إعالة إخوته الصغار، إذ كان يتيم الوالد.

تعلم حرفة لهذا الغرض وهي صناعة أقفاص لطيور الزينة. كان أحد معارفه قد تعلم صناعة هذا النوع الزاهي من الاقفاص في تونس لأنها غير معروفة بالمغرب، فأخذها عنه عبد الحق وزاد في تأنيقها. كان يقضي يوما أو يومين في الأسبوع وهو يصنع تلك الأقفاص ثم يخرج ليبيعها. كان يمازحني فيقول : «إني أقضي نهاري في مراوغة الشرطة حتى لا تضعني في القفص الاسمنتي وأنا أصنع للطيور البريئة أقفاصا من حديد، ولكن كما يقول «الرفيق» أبوذر الغفاري: عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه».

كان عبد الحق مثقفا متخصصا في الأدب العربي ولكنه لا يكتفي بقراءة نصوص الإبداع والرواية والنقد، بل كان قارئا نهما لكتب التاريخ والفلسفة والسياسة ذات المنحى اليساري. كان يعشق فلسطين وكان من بين أصدقائه المقربين عدة فلسطينيين، أتذكر منهم طالبا من رام الله اسمه أحمد. كان هذا الأخير مناضلا كتوما ولكن عبد الحق أخبرني أنه كان عضوا مهما في الجبهة الديمقراطية وأنه شارك في قيادة القتال أثناء الغزو الاسرائيلي للبنان سنة 1982.

ومهما نسيت فلن أنسى أن عبد الحق ذهب يوما معي إلى البادية عند عائلتي، إذ كان يرتاح في القرية أيما راحة لأن المخبرين كانوا آنذاك قليلين جدا بالمناطق القروية كما كان لا يعرفه أحدا هناك مادامت عائلته تسكن بمدينة الدار البيضاء. كانت السنة سنة قحط وجفاف وأهل القرية يعيشون ذلك العام في ضنك وضيق. كان أخي الذي يعيل العائلة ـ فقد كنتُ أنا أيضا قد فقدت والدي وأنا طفل قاصر ـ يعاني من البطالة وضعف الدخل بسبب شحة المطر، فما كان من عبد الحق إلا أن اقترح عليه أن يعلمه صناعة الأقفاص التونسية، مؤكدا له أنها سلعة نافذة في الأسواق، وكذلك كان. تعلم أخي صناعة الأقفاص وصنع العديد منها، لكن السماء لم تبخل بمطرها في السنة التالية…

وقبل الختم، لابد أن أضيف أنه على من ينتقد اليوم ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق ورفاقهما بسبب ما أقدموا عليه وهم رهائن للدولة وفي شدة من أمرهم، أن يعلم أن الحرية هي شرط المواطنة والكرامة، وأن معتقلي الريف عندما يخلعون البيعة والجنسية إنما يقولون تبا لهاته وتلك إذا كانتا فقط مبررا لاستعبادنا.

ـ المصدر: عن “القدس العربي”