أكدت دراسة على أن الحاجة ماسة اليوم إلى قراءة جديدة للتراث الذي يجمع قبيلة “أنجرة” المغربية و”الأندلس” الإسبانية، بفكر منفتح وزاوية ورؤية عالمية واسعة، مشيرة إلى أن هناك سوء فهم موجود ونوازع غير صالحة وجراثيم عنصرية فتاكة، وذلك لتمهيد الطريق أمام تعارف الشعوب وتفاعل الحضارات وتعاونها.

وسلطت الدراسة التي أعدها الباحث عبد الواحد الهيشو، وتسلم موقع “لكم” نسخة منها، مجموعة من الأضواء على أهم ما جمع قبيلة “أنجرة” المغربية ومنطقة “الأندلس” بإسبانيا، لأكثر من ثمانية قرون، وركزت أساسا على الجغرافية الموحدة والتراث المشترك بالإضافة إلى النسيج الثقافي.

وأكدت الدراسة التي جاءت تحت عنوان “تاريخ أنجرة المغربية وملحمة العنصرة”، أن الهدف منهاهو فتح نافذة على تاريخ قبيلة أنجرة التي لعبت أدوارا كبيرة في مواجهة المستعمر الاسباني، وارتباطها بالفردوس المفقود الأندلس، بالإضافة إلى التعريف بماضي هذه البلدة السياحية المتوسطية الجميلة.

مكانة قبيلة “أنجرة” تاريخيا

وفي تقديمه لهذا الدراسة التي جاءت في 196 صفحة، اعتبر عبد السلام بوغابة نائب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، بأن قبيلة “أنجرة” عرفت تناسقا وانصهارا بين كل مكوناتها مما جعلها تشكل كيانا قبليا قويا، مشيرا إلى أن القبيلة كانت خلال قرون طويلة المحور الذي تدور عليه جميع الحركات السياسية والتقلبات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية والتطورات الفكرية والثقافية ما بين ضفتي جبل طارق.

وأشار بوغابة، إلى أن قبيلة “أنجرة” شكلت طول فترات التاريخ الملاذ والحصن الآمن لمجموعة من العلماء والأولياء، مؤكدا على أنها كانت تشكل دعما مباشرا للسلطة المركزية، حيث اعتمد عليها الكثير من سلاطين المغرب لتقوية الدولة والدفاع عنها من كل خطر محدق يهددها سواء كان ذلك من الشمال أو الشرق أو الجنوب.

واعتبر نائب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، أن المكانة المرموقة لقبيلة أنجرة جعلت تاريخها يراكم مجموعة من الوقائع والمهارات والتجارب، مبرزا كيف أن التاريخ يوثق لتلك العلاقة الوجدانية ما بين هذه القبيلة ومنطقة الأندلس، وقد جاءت هذه الدراسة لتفيدنا عن هذه العلاقة الأنجرية ـ الأندلسية .

“أنجرة”.. بوابة وجسر بين قارتين

حاول كاتب الدراسة أن يبرز المكانة الجغرافية لقبيلة “أنجرة” بشكل لافت، وقال في هذا الصدد، عندما تذكر “أنجرة” فإن المقصود بها الريف الغربي للمغرب الأقصى، معتبرا إياها بوابة وجسر للقارتين الإفريقية والأوربية عبر ميناء طنجة المتوسط وميناء الجزيرة الخضراء الإسبانية، وهاذين الميناءين اللذين يجمعان العدوتين “أنجرة” المغربية، و”الأندلس” الإسبانية.

وأكدت الدراسة على أن هذا الجسر هو الرابط المشترك في التنمية المستدامة والتعاون على كافة المستويات العامة، كما يشكل نقطة محورية في شتى المجالات الثقافية والعلمية والفكرية والأدبية والاقتصادية والأمنية، ونقطة ثابتة للسلام الكوني.

وفي تفصيل لهذا الإبراز الجغرافي، يقول عبد الواحد الهيشو، عندما نمعن النظر نجد هذه الساحة مثلت تفاعل بين حضارتين عريقتين إحداهما دائرة الحضارة العربية الإسلامية والأخرى دائرة الحضارة الغربية، ويضيف، يبدو لنا أن هذه الساحة شأن مثيلاتها بين حضارات أخرى اكتسبت من خلال هذا التفاعل صفات تؤهلها للقيام بدور متميز في التعارف بين الأمم وصولا للتعاون، ويزيد ، وإن للتوليد الذي يثمره تفاعل الحضارات روعته، وإن الوجه الإيجابي للتفاعل ينفع الناس ويمكث في الأرض، بينما يذهب الوجه السلبي جفاء كالزبد، وذلك نقلا عن محمد علي مكي في مداخلة له بمدينة غرناطة في أبريل من سنة 1992.

بعض عوامل التأثير بين “أنجرة” و”الأندلس”

استعرضت الدراسة مجموعة من العوامل التي كانت فاعلة في الأثير، والتي امتدت حسب الباحث إلى أزيد من تسعة قرون، منذ فتح الأندلس على يد المغاربة، إلى أن انتقلت آخر الهجرات الأندلسية إلى المغرب.

من بين العوامل التي أشارت إليها الدراسة، التواصل الذي كان بين أنجرة بالمغرب الأقصى والأندلس، ولا سيما في عهود الوحدة بين البلدين، وكان تأثيره بطيئا وبالتدريج، مما كان مسايرا لطبيعة العلاقات وما كان يطغى عليها من أهداف، لم تكن الجوانب الحضارية والثقافية إلا تابعة لها .

العامل الثاني الذي أشارت إليه الدراسة، الهجرات الأندلسية إلى المغرب، وميز فيها الباحث بين أشكال ثلاثة.

الهجرة الأولى التي كانت محدودة، والتي كانت تتمثل في وفود الأندلسيين أفراد أو جماعات، إما في إطار رسمي أو غيره، أو حتى لظروف خاصة، على نحو قدوم عدد كبير من الفقهاء على إثر ثورة الربض في عهد إدريس الثاني، ومثلهم أولئك الذين استقدمهم الموحدين في عهد عبد الواحد الرشيد عام 637 هجرية لتعمير مدينة الرباط.

الهجرات التي وقعت مؤذنة بانهيار دورة الإسلام بالأندلس، بدءا من سقوط قرطبة 1236م، وبلنسية 1238، وإشبيلية 1248، إلى سقوط قادس والمرية وكل الشاطئ 1489ـ 1485، ثم تسليم غرناطة عام 1492م.

الشكل الثالث يتعلق بالهجرات الكبيرة التي قام بها الأندلسيون الذين بقوا تحت الحكم الإسباني، بعد نحو قرن من تسليم غرناطة، وهم الذين عرفوا “بالموريسكيين”، على اختلاف في تعريفهم، إن كانوا هم اللذين حافظوا على اسلامهم أو الذين أخفوا دينهم وأظهروا التنصير، وكانوا قد عانوا محنا شديدة طوال هذه الفترة، وإن حاولوا القيام ببعض الانتفاضات.

ولاحظت الدراسة أن التأثير الأندلسي على المغرب، بدأ قبل هجرات الموريسكيين، وأن تأثيرهم هو تجميع لما كان من تأثير للأندلس في المغرب حضاريا وثقافيا على مدى تسعة قرون، مشيرة إلى أنهم كانوا قد ضعفوا حين هاجروا إلى المغرب، بسبب معاناتهم وما حملوه هو الصبابة التي حافظوا عليها أثناء المحنة.

وأشارت الوثيقة إلى أن تأثيرهم مع ذلك كان قويا، لسببين، للتعاطف الذي كان بين المغاربة وهؤلاء المتمسكين بدينهم، وللمنظور الذي أصبح للمغاربة بعد ان انتهى وجودهم في الأندلس، وغدوا مستعدين لقبول الأندلسيين أكثر من ذي قبل، إلى درجة الاعتزاز والافتخار.

بعض مظاهر التأثير

حددت الدراسة بعض مظاهر التأثير على مستويات منها، عالم الفكر والفلسفة والتصوف، مشيرة إلى العديد من الأسماء كابن طفيل وابن رشد، وابن حزم وابن العربي، مبرزة التداخلات المتبادلة بين الإسلام والمسيحية في شبه جزيرة ايبريا التي شكلت تدخلات حقيقية متواصلة داخل اسبانيا الإسلامية وخارج حدودها على مدى العصر الإنساني وفي مقدمته قبل قرون تماما كما تحدث توينبي عن الإنسان وأمه الأرض في هذا القرن.

كما أن من مظاهر التأثير الذي أشارت إليه الدراسة، دخول أنماط موسيقية جديدة، كالآلة، كما تم تطوير بعض الأنماط التقليدية، حيث أشارت إلى ملحمتين تأثرت بها الكثير من الأنواع الغنائية، حيث لم تعد تعتمد مجرد السرد، ولكن غدت غنائية منغمة ومؤداة بالآلات وأهمها “الكوال”، بالإضافة إلى الأداء حيث يبدأ المنشد بمقدمة قد تكون “سرابة” أو “موالا”، أو “تمويلة” يتبعها الدخول ثم “الحربة” التي هي اللازمة وبعدها القسم الذي يفصل تكرار “الحربة” بينه وبين قسم آخر، لتختم القصيدة بجزء يطلق عليه “الدرديكة” ويتميز بالأداء السريع.

في ذات السياق تضيف الدراسة، أننا أمام تاريخ حافل تتالى مراحله على مدى قرون، وتتعدد جوانبه شاملة مجالات الحياة المختلفة، وتتتابع وقائعه فيها ما هو صالح وفيها ما هو طالح، وما يعزز الثقة بالإنسان، وما يثير التساؤل المفعم بالشك حول مدى حكمته، وتبرز أمامنا قضية النظر إلى هذا التراث الحضاري وإلى التاريخ بعامة، كيف يكون.

يشار إلى أن الدراسة، تناولت في فصلها الأول محور “شجرة الزمان والمكان لقبيلة أنجرة”، وأشارت فيه بالتفصيل للتراث المشترك الذي يجمع قبيلة “أنجرة” بـ “الأندلس”، وفي الفصل الثاني ركزت على “العنصرة كتراث ثقافي لا مادي للشعوب المتوسطية”، أما الفصل الأخير فسلط الضوء على “مهرجان العنصرة” الذي تحتضنه مدينة القصر الصغير صيف كل سنة.