قبل سنة مرّت الذكرى المئوية لمعركة “أنوال”.. لكن لا أحد تذكرها!
في صباح أحد أيام الصيف في مدينة مليلية، الجيب الإسباني في شمال أفريقيا، تسلقت الطريق الوعر نحو القلعة القديمة. كان البحر هادئا والحرارة غير مرتفعة. وجدت هناك مهاجرا نائما وهو طفل على كرسي برتقالي بالقرب من بناية الأرشيف العام للمدينة، حيث جئت لمقابلة المؤرخ فيسنتي موغا. قبل مائة عام، حسب ما أخبرني موغا كان المشهد هنا مختلفا جدا. في الأيام التي تلت معركة أنوال 22 يوليو 1921، انهارت بقايا الجيش الاستعماري الإسباني مرة أخرى بالقرب من مليلية وكأن النسور طارت في الاتجاه المعاكس.
“تخيل” ، قال موغا، “بدأ الضباط الأوائل يصلون على متن سياراتهم وكانوا قد خلعوا أحزمتهم حتى لا يقتلوا على أيدي القناصة ثم بدأوا في نشر الأخبار: هذا الجنرال قد مات، ذلك العقيد قد اختفى. الجو العام يهيمن عليه الذعر. … يأتي الناس إلى هنا، إلى هذه القلعة وهم يحملون فراشا أو غطاء ينامون فوقه على أمل الصعود على متن سفينة والهروب نحو الضفة الأخرى”. وفي الوقت نفسه في الريف، كان الزعيم عبد الكريم، الذي وحد قبائل المنطقة ضد الإسبان، يحاول الحفاظ على النظام بعد انتصاره السريع لدرجة أن قواته كانت قد اقتربت من الاستيلاء على مليلية وقد لقي أكثر من 10,000 جندي إسباني حتفهم على الطريق خلال فرارهم من معركة أنوال أما تفاصيل الأحداث بعد المعركة فهي موضوع نقاش وجدل.
أحد الآراء هو أنه حتى قبل أن تبدأ التعزيزات الإسبانية في الوصول على متن السفن يوم 24 من الشهر كان عبد الكريم مقتنعا أنه لا يستطيع اقتحام مدينة مليلية التي كانت محصنة بالجنود والمدفعية والذخيرة وأن الاقتحام سيكون مكلفا لكن موغا لا يوافق. “إن مدينة مليلية تم التخلي عنها تماما من طرف الجيش الإسباني و كانت هناك بالكاد حامية بسيطة ولو أراد عبد الكريم ذلك، لكان اقتحامها استعراضا عسكريا سهل المنال ولم يكن ليواجه أي نوع من المقاومة”.
سألته ما الذي أوقفه، فقال موغا: “فى تلك اللحظة كان عبد الكريم يفكر فى تأسيس جمهورية وكان يفكر بالصورة التي ستعطيها تلك الجمهورية عن نفسها إذا ولدت على أنقاض مجزرة غالبية ضحاياها من السكان المدنيين”. لقد كانت معركة أنوال من بين أكبر الهزائم التي تجرعها جيش استعماري في أفريقيا وهي التي حولت عبد الكريم إلى رمز عالمي لمقاومة الإمبريالية وقد اقتبس ماو تسي تونغ في الصين وهو شي مين في الفيتنام من عبد الكريم أساليب حرب العصابات. وفي عام 1925، كان عبد الكريم هو شخصية العام في تصنيف مجلة تايم الإنجليزية الشهيرة ، ومع ذلك فقد مرت الذكرى المئوية لمعركة أنوال في صمت. في مليلية، ساعد فيسنتي موغا على تنظيم معرض للتصوير الفوتوغرافي و صدر عدد قليل من الكتب الجديدة حول الموضوع بما في ذلك كتاب باللغة الإسبانية، “رحلة النسور”، الذي اعتمد على المصادر الشفوية لسرد المزيد من الشهادات من طرف أهل الريف حول تلك الأحداث و لكن في المغرب نفسه، كان الاحتفال باهتا جدا.
بالنسبة للنظام الحاكم في المغرب فإن معركة أنوال والأحداث المرتبطة بها موضوع معقد. لأنه عندما أسس عبد الكريم جمهوريته، لم يكن يعلن الاستقلال عن إسبانيا فحسب بل كان يعلن الاستقلال عن المغرب. وقد استمرت جمهورية الريف التي تأسست في عام 1923 حتى عام 1926 وهي الدولة الأمازيغية الوحيدة التي وجدت على الإطلاق.
تنتشر الشعوب الأمازيغية – المعروفة أيضا باسم البربر، على الرغم من أنه مصطلح يعتبره البعض مهينا – في جميع أنحاء شمال أفريقيا. والإحصاءات السكانية غير منتظمة، ولكن التقديرات تشير إلى عدد من السكان يتراوح بين 20 و 40 مليون نسمة. في المغرب، يتحدث باللغة الأمازيغية ما يقرب من 40٪ من السكان. ويوجد عدد كبير آخر من السكان الأمازيغ في الجزائر وعدد أقل منهم في تونس وليبيا ومصر ومالي والنيجر وموريتانيا. وهي ساكنة تعود جذورها إلى ما قبل الغزو العربي الإسلامي في القرن السابع.
يمكن تقسيم المغرب قبل الاستعمار بشكل تقريبي إلى السهول، التي تسيطر عليها سلطة الدولة، ثم الجبال، مثل الريف، التي ليس للدولة سلطة عليها وهذا التقسيم يكاد يكون مطابقا للمنطقتين العربية والأمازيغية. لم تكن سلطة سلطان المغرب غائبة تماما عن منطقة وعلى سبيل المثال فهو الذي يختار حكام المنطقة (القايد) – لكن قبائل الريف حكمت نفسها بنفسها في الغالب. كانت تدفع الضرائب للسلطة المركزية ولو بشكل غير منتظم.
وفقا لـ “سي آر بينيل”، مؤرخ المنطقة، فإن الحكم الذاتي للريف خدم كلا الجانبين فقد وفر على السلطان دفع نفقات الحكم المباشر مع الحفاظ على سيادته الرمزية وعلى مستوى معين من النظام والضرائب. وفي الوقت نفسه، يمكن لقبائل الريف أن تنادي على السلطان لمباشرة الوساطة والتحكيم في النزاعات وإضفاء الشرعية على القادة المحليين.
الخطاب ووالده طلبا الجنسية الاسبانة
وقد عقّد الفرنسيون والإسبان هذا الترتيب عندما قسّموا المغرب إلى محميتين في عام 1912. صوريا بقي السلطان على رأس السلطة الحاكمة في جميع أنحاء البلاد. لكن السلطات الاستعمارية هي التي كانت تمسك بالسلطة الحقيقية، وفي الريف حاول الإسبان استمالة النخب المحلية. وهذا يعني أنها تمنح لأكبر عدد ممكن منهم مرتبات استعمارية. وفي بعض الحالات، كان ذلك يعني أيضا تسجيل أبناء زعماء القبائل وتعليمهم في المدن الإسبانية، كنوع من الرهائن المحظوظين وكان عبد الكريم واحدا من هؤلاء الزعماء وهو ينحدر من قبيلة أيت ورياغل وهي أكبر قبيلة في الريف وعاش في مليلية لأكثر من 10 سنوات كمدرس وصحفي وفي نهاية المطاف بصفته مترجما في المكتب المركزي المكلف بشؤون السكان المحليين وكان يحظى بتقدير كبير من طرف الإدارة وكان مولعا بالحياة في مليلية وذات يوم تقدم هو ووالده بطلب للحصول على الجنسية الإسبانية، على الرغم من أنهما لم يتلقيا أي رد.
بدأت العلاقة بين قبيلة أيت ورياغل والإسبان في التدهور خلال الحرب العالمية الأولى. كانت إسبانيا محايدة في الحرب و كان والده يدعم في صمت العملاء الألمان في منطقة الريف وعبد الكريم كان يمارس الصحافة وينتقد الاستعمار الفرنسي وفي سبتمبر 1915، وضعت السلطات الإسبانية عبد الكريم في السجن. وبعد أقل من عام بقليل أطلق سراحه فغادر مليلية وانضم مرة أخرى إلى والده في بلدة أجدير داخل العمق الريفي فطلبا من أخيه الأصغر أن يعود من مدريد وبحلول عام 1920، كانت الأسرة قد قطعت بالفعل علاقاتها مع الإسبان وبدأت تنظم المقاومة. عندما توفي والده فجأة في ذلك العام، أخذ عبد الكريم زمام الأمر و كانت الفترة التي سبقت معركة أنوال مليئة بالأحداث المعقدة ولكن تحت قيادة الجنرال الإسباني مانويل فرنانديز سيلفستر بدأ الإسبان يتغلغلون أكثر من أي وقت مضى في الريف الأوسط .
وأدى ذلك إلى الضغط على القبائل وإرهاق الجيش الاستعماري. ثم أثارت أحداث معينة، مثل القصف الإسباني غير المبرر في أبريل 1921 لسوق في بوكيدارن، وهي بلدة بالقرب من أجدير، إلى إشعال فتيل الغضب. فكانت هي الفرصة لتوحيد القبائل المترددة وهنا ترسخ دور عبد الكريم ولكن بعد الانتصار في معركة أنوال ضد إسبانيا وجد عبد الكريم في طريق مسدود. في عام 1923، تأسست جمهورية الريف رسميا. وسعت إلى الحصول على الاعتراف من عصبة الأمم وحصلت على قليل من الدعم الدولي.
في فرنسا، اهتزت أحزاب اليسار بعد اندلاع أحداث الريف وفي بريطانيا، تم تشكيل لجنة دعم للضغط على الحكومة من أجل الاعتراف بالدولة الريفية الجديدة وأرسل المسلمون الهنود التبرعات. وفي الوقت نفسه، طورت حكومة عبد الكريم جهاز الدولة الفتية وأنشأت جهازا بيروقراطيا مركزيا وبنت الطرقات وشبكة الخطوط الهاتفية ومجموعة من مراكز القيادة العسكرية كما أنشأت جيشا يتكون على الخصوص من الجنود الذين فروا من الجيش النظامي الإسباني الاستعماري كما أنشأت لنفسها عملتها الخاصة المسماة الريفيّة، التي طبعت أوراقها النقدية ولكنها لم تدخل مرحلة التداول وتبنت عَلَما جديدا يتوسطه هلال أخضر يرمز بوضوح إلى الارتباط الإسلامي.
لقد كانت هناك بعض المحاولات لإنشاء خدمات تعليمية وصحية، ولكنها تقلصت في نهاية المطاف بسبب نقص الموظفين الأكفاء والأهم من ذلك كله، بسبب الحرب الدائرة، التي استنفذت كل المجهودات والطاقات . يقول موغا : “ان عبد الكريم لم يكن لديه الوقت الكافي لبناء أسس الجمهورية حقا و لو كان قد انتصر في الحرب لكانت لديه الفرصة لتحقيق ذلك ولكن الانتصار في المعركة ضاع في اللحظة التي هاجم فيها عبد الكريم الفرنسيين، وجذبهم إلى الصراع. وبحلول عام 1926، تجاوز حجم الجيشين الإسباني والفرنسي مجتمعين ضد جمهورية الريف 250,000 جندي. استسلم عبد الكريم ونُفي إلى جزيرة لا رينيون الفرنسية قبالة مدغشقر. (وبعد 21 عاما، أثناء نقله إلى فرنسا، هرب إلى القاهرة) وعادت منطقة الريف إلى ترتيباتها القبلية التقليدية و أعادت إسبانيا السيطرة على المنطقة كلها وهو الحال الذي استمر حتى استقلال المغرب في عام 1956.
على المستوى الرسمي، لم يفعل المغرب أي شيء للاحتفال بـ “الذكرى المئوية” لمعركة أنوال كما قال رشيد راخا رئيس الرابطة العالمية للأمازيغية، خلال حديث مع مجلة “نيو لاينز” عبر الهاتف من الرباط ، قبل أن يضيق “لقد كانت هذه واحدة من المعارك الكبرى في القرن العشرين، حيث هزمت مجموعة من الفلاحين البسطاء قوة استعمارية ضخمة وهذا الصمت حول الذكرى المئوية يعبر بوضوح عن موقف الدولة المغربية ولكنه لم يكن استثنائيا. إن الخطاب الرسمي لا يستسيغ أبدا الاحتفال بذكرى هذه المعركة وعندما يذكرها فهو يردد روايته الانتقائية للأحداث ويعيد صياغتها كنقطة انطلاق على سبيل الاستقلال المغربي. إن البطل بن عبد الكريم، الذي أعيد الترويج لاسمه بعد وفاته في عام 1963، يشار إليه كرقم في قائمة الأبطال الوطنيين المغاربة الذين قاوموا الاستعمار ويحرص هذا الخطاب على تفادي الحديث عن تجربة جمهورية الريف”.
ومن جهته يقول عمر لمعلّم ، رئيس جمعية الذاكرة في الريف، على الهاتف من الحسيمة: “رسميا، يتحدثون فقط عن المعارك ضد الجيشين الاسباني والفرنسي. إنهم لا يتحدثون عما فعله عبد الكريم على مستوى المجتمع، ففي زمن عبد الكريم، كانت القبائل متحدة في اتحاد كونفدرالي للنهوض بمستقبلنا. بالنسبة إلينا، عبد الكريم هو أولا رمز كبير و لم يكن مجرد رجل يمارس حرب عصابات، بل كان رمزا لتوحيد المجتمع الريفي”. قد لا تكون هذه الرمزية حساسة للنظام لو كانت حرب الريف حدثا فريدا بعيدا عن السياسة المعاصرة. لكنها لم تكن المرة الأخيرة التي انتفضت فيها المنطقة. خلال فترة ما بعد الاستقلال المغربي، كانت هناك دورات من الثورات والقمع في الريف.
منطقة الريف نموذجا للقمع الشديد
ولم تكن أي من هذه الانتفاضات انفصالية. وبصورة عامة، سعت إلى زيادة التمثيل السياسي وقدمت مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية. وفي عام 1958، تقدموا أيضا بالتماس لعودة عبد الكريم من المنفى. ورد النظام بالقمع والقوة وكأنه يريد أن تدفن ذكرى تلك التجربة إلى الأبد . من المفيد أن نسمع أهل الريف وهم يصفون كيف كانت عمليات القمع لتمرد 1958-1959، تحت قيادة ولي العهد الحسن آنذاك ( الذي أصبح هو الملك الحسن الثاني) فرض الجيش عقوبة جماعية على المنطقة عبر إحراق المحاصيل والاغتصاب والاختفاء القسري والتعذيب والإعدام الجماعي مع تشديد العقوبة على قبيلة عبد الكريم بالذات. لقد أراد النظام الحاكم آنذاك أن يكون الريف نموذجا للقمع الشديد في وقت كانت فيه الملكيات العربية الأخرى تتساقط. وفي عام 1984، قوبلت “انتفاضة الجوع” في الريف بمزيد من العنف وقد ذكرت المصادر الرسمية وفاة 29 شخصا بينما تشير مصادر أخرى إلى فقدان الحياة بالنسبة إلى 200 شخص وسجن 000 14 آخرين، وأفادت روايات الشهود عن عمليات الدفن الليلي في مقابر جماعية سرية. وفي خطاب متلفز في ذلك الوقت، أشار الملك الحسن الثاني بشكل عنيف إلى قمعه لمنطقة الريف في سنوات 1958-1959 فقال مهددا : “إن سكان الشمال يعرفونني وليا للعهد، من الأفضل لهم ألا يعرفوني باسم الملك الحسن الثاني”.
كانت هذه “سنوات الرصاص ” ، ليس فقط في الريف ولكن في جميع أنحاء المغرب. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، أدت عمليات الاحتجاز والتعذيب والقتل الجماعي والاختفاء القسري إلى خنق أصوات المعارضة: الشيوعيون والإسلاميون؛ والزعماء الأمازيغ والصحراويون و الفنانون والمثقفون والمدافعون عن حقوق المرآة. لفترة طويلة، كان هذا التاريخ غائبا من الخطاب الرسمي وبدأ ذلك يتغير في عام 2004، عندما بادر الملك الجديد محمد السادس ابن الحسن الثاني إلى إنشاء لجنة الحقيقة المغربية: “هيأة الإنصاف والمصالحة “. وفي الريف، كان ذلك جزءا من تحول أوسع في السياسة الرسمية بعد إهمال الدولة للريف في عهد الحسن الثاني إلى مشروع مصالحة يهتم أكثر بجانب العلاقات العامة في عهد الملك الجديد. ونظمت هذه الهيئة سبعة جلسات استماع عامة لضحايا سنوات الرصاص في جميع أنحاء البلاد. وقد جرت الجلسة الأخيرة في مدينة الحسيمة في 3 مايور 2005، ووصفتها نجوى بلقزيز في أطروحتها للدكتوراه حول موضوع “سياسة الذاكرة والعدالة الانتقالية في المغرب”.
وأدلى عشرة من ضحايا قمع الدولة بشهاداتهم. وقد تم فحصها بعناية من طرف السلطة. ومع ذلك، فإن الترهيب قد حدث فعلا فقد وصفوا العقوبات الجماعية و الفقر والمجاعة الناجمة عن حرق المحاصيل وكذلك الطريقة التي تم بها تهميش المنطقة من طرف الدولة. ووصفوا نزوح أهل الريف وهجرتهم بعد الاستقلال نحو بلدان أوروبا بحثا عن فرص الشغل والحياة الكريمة كما طلبوا من الدولة تخفيف القيود المفروضة على ذاكرة الريف. وقال أحد المتحدثين، حكيم بنشمّاس، “أريد أن تعترف الدولة بالقتال البطولي الذي قاده البطل عبد الكريم ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني. لقد كانت تجربة تسعى إلى الحرية، ولدينا الحق في أن نكون فخورين بها. وينبغي أن يجعلونا فخورين بذلك. وينبغي أن يسمحوا لنا بتعليمها لأطفالنا في كتب التاريخ المدرسية”. وعلى الهاتف مع رشيد راخا، ذكرت أنني، أثناء وجودي في مليلية، التقيت بعدد من المهاجرين الشباب من الريف الذين لا يعرفون من هو عبد الكريم فقال متنهدا: “لم يدرسوا عنه في المدارس المغربية لأنه توجد رقابة رسمية على التاريخ الأمازيغي وربما يتغير هذا الوضع يوما ما ونحن لا نفقد الأمل “.
حتى يومنا هذا، لا يوجد متحف رسمي في الريف. وكانت هناك خطط لإنشاء واحد في أجدير، في موقع مقر عبد الكريم، حيث كان يدير جمهورية الريف. وكانت هناك خطط لمتحف آخر في الحسيمة أيضا. لكنها لا تزال مجرد مخططات . يقول لمعلم “إننا نسأل كل عام عما سيحدث لهذه المبانى . ولكن حتى الآن لا يوجد أي جديد.”
لقد تغيرت بعض الأمور في عهد محمد السادس. وقد منحت الهيئة المذكورة نوعا محدودا من العدالة، أو على الأقل بعض التنفيس كما تم تعديل الدستور في عام 2011 واعترف هذا الدستور بنصيب الأمازيغ في التاريخ المغربي كما أصبحت الأمازيغية لغة رسمية. لكن العديد من المطالب التي قدمها الريف خلال عقود – تمثيل سياسي أكبر، وتنمية اقتصادية، وحرية الذاكرة التاريخية – لا تزال حبرا على ورق.
ويضيف لمعلم: “ننتظر الوقت الذي سيتم فيه بناء متحف يتحدث عن جمهورية الريف وعلم الريف وكل ذلك. سيكون حلما يتحقق لكننا نعتقد أنهم إذا قاموا ببناء متحف، فسيكون مجرد مكان لوضع بعض القطع الخزفية وبعض الملابس من العصور القديمة وليس أكثر من ذلك.” في عهد محمد السادس، وقعت حلقتان أخريان من الاضطرابات في الريف. الأول، في عام 2011، كان جزءا من ظاهرة وطنية في زمن الربيع العربي. وقد تخلص النظام من الانتفاضة بتقديم تنازلات استراتيجية، بما في ذلك الدستور الجديد. أما الحلقة الثانية فهي أحداث 2016-2017 التي تركزت في الحسيمة، وربما كانت أكبر التحديات للنظام منذ بدء حكم محمد السادس في عام 1999. كانت الشرارة هي وفاة الشاب محسن فكري، بائع السمك الذي صادرت الشرطة بضاعته في أكتوبر2016 والذي طُحِن جسمه حتى الموت عندما حاول استرجاعها من شاحنة الأزبال فقامت حركة احتجاجية سميت الحراك الشعبي وتطورت في الأسابيع الموالية وازدادت حدتها .
ثم، في مايو 2017، بدأ القمع. وألقي القبض على المئات من شباب المنطقة ولا يزال بعضهم، بمن فيهم زعيم الحِراك ناصر الزفزافي، في السجن.
أحيانا، بينما كنت على الهاتف مع الناس في المغرب، كنت أسأل سؤالا عن الريف. كنت أذكر كلمة الريف عفويا حتى أترك لهم الفرصة للتعبير بحرية عن انطباعاتهم كما يريدون ولكن يتغير الجو فجأة، كما لو أن شخصا ثالثا قد جاء على الخط. بعضهم يتهرب من الكلام ولكن يحافظ على طلاقة المحادثة. ويكتفى آخرون بقولهم: “لا أستطيع التحدث عن ذلك”. في إسبانيا، التقيت رضا بنزازا، المتحدث باسم حِراك لريف فقال “لقد أصبح الريف نوعا من المحرمات بالنسبة للأشخاص العاملين في مجال حقوق الإنسان في المغرب”. “يمكنهم التحدث عن المعاشات التقاعدية، ويمكنهم التحدث عن الهجرة، ويمكنهم التحدث عن أي شيء – ولكن ليس عن الريف. من في المغرب يجرؤ على التشكيك في نوايا القصر وسياساته؟”
وعندما بدأت الاعتقالات، اختبأ بنزازا في منزل آمن. “أمضيت 28 يوما هناك. تخيل: نفس الملابس. جميع الهواتف مفصولة. في النهاية خرجت وعبرت الحدود إلى مليلية. كان لدي وثائق إسبانية، لذا لم تكن هذه مشكلة. المشكلة هي نقط التفتيش الخمسة التي نصبتها الشرطة بين الحسيمة ومليلية” ثم ابتسم ابتسامة خافتة وأضاف “لا أعتقد أنه من الضروري معرفة بقية التفاصيل”. لقد تعب العديد من رفاق بنزازا ومعظمهم الآن في السجن أو في المنفى، وكلهم كانوا نشطاء في احتجاجات عام 2011 خلال الربيع العربي. لكن مطالبهم هي نفسها التي ترددت في الريف خلال عدة عقود، وقال ” ان الحراك ولد من مطالب اجتماعية واقتصادية وثقافية ” . وقال “لا يوجد مطلب واحد يتحدث عن نموذج للحكم يختلف عن النموذج القائم حاليا”. واضاف “لكن صحيح انها حركة ذات شعور هوياتي بارز “. “نحن عندنا رموز متميزة عن تلك السائدة في باقي المغرب ولدينا علمنا الخاص، وهو علم جمهورية الريف التي أسسها عبد الكريم والريف يفتخر بتاريخه وبرموزه وهويته”.
لا شيء تغير
سألت بنزازا عن معركة أنوال فقال: “عندما تكون في إسبانيا، تسمع إنها كانت كارثة، ولكن بالنسبة لنا، إنها لحظة مجيدة عندما حقق أجدادنا انتصارا يكاد يكون مستحيلا. لقد فعلوا ذلك بالسلاح، في حين أن حركتنا اليوم حركة سلمية تماما، ولكنها معركة لا تزال عزيزة علينا بصفتها لحظة بطولية . كانت هناك دولة مستقلة، جمهورية الريف، قبل 100 عام. بالطبع هذه إشارة للكثيرين منا نحن النشطاء “. منذ عام 2016، ازداد عدد القوارب التي تحمل أشخاصا يهاجرون من المغرب إلى إسبانيا. يتطوع بنزازا مع مجموعة تساعد الوافدين الجدد، وعلى الرغم من أن معطيات الحكومة الإسبانية لا تصنف المهاجرين بناء على جنسيتهم، إلا أنه يزعم أن معظمهم من منطقة الريف. وقال “كان هناك امل وامكانية للتغيير”. لكن عندما رأينا أن هذا النظام لا يوفر أي بديل، وأنه يمنح فقط 20 عاما من السجن والتعذيب بتهمة الاحتجاج، قرر الكثير من الشباب تركه وراء ظهورهم ومغادرة البلاد “.
قال لي بنزازا إنهم اجتمعوا لإحياء الذكرى المئوية لمعركة أنوال حيث يتمتعون حقا بحرية القيام بذلك. لقد وجدت الصور على الانترنت عن هذا التخليد في مدينة برشلونة ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الأفراد. سألته عن ذهنية أعضاء الحراك وطموحاتهم فقال: “سأكون صريحا معك، بعد أربع أو خمس سنوات من القمع كل واحد منا يترك حياته السابقة ويسعى للنجاح من جديد في حياته الجديدة هنا في بلدان مختلفة. لقد استغرق ذلك الكثير من الطاقة، والكثير من الجهد.”
عبر الهاتف من المغرب، تحدث رشيد راخا وعمر لمعلم بوضوح عن التغييرات في سياسة الدولة في عهد محمد السادس. كانت لديهم انتقاداتهم حول عدم إحياء الذكرى، على سبيل المثال، أو حول عدم تدريس الأمازيغية في المدارس الابتدائية – لكنهما أشارا أيضا إلى التقدم الذي تحقق في الريف. لا يوافق بنزازا على ذلك تماما فقال “لقد تغير الخطاب الرسمي. كانت هناك مصالحة في الكلمات التي لم تصل إلى حد الواقع. ولا تزال السياسات على حالها. وبهذا المعنى، لم يتغير شيء”. سألت بنزازا عما إذا كان يشعر بحضور النظام هنا في إسبانيا فقال إن برامج التجسس بيغاسوس قد استهدف هاتف محاميه وأنه كان قريبا لمعرفة ما إذا كان قد تم استهداف هاتفه هو أيضا. لكن بالطبع، نشعر دائما بأنهم يتجسسون علينا و المغرب من بين الدول التي تنفق كثيرا على التجسس والتحرش بالنشطاء، سواء داخل البلاد أو في الخارج”. ألقى بنزازا نظرة عابرة على طاولة بالقرب منا، حيث كان رجلان يتحدثان فرفع حاجبيه وسكت.
في الأسابيع التي تلت محادثتنا، واصل راخا إرساله لي الروابط على الواتساب. كانت هناك مقالات حول حملة المطالبة بالتعويضات من إسبانيا عن استخدامها الأسلحة الكيميائية في حرب الريف وكان هناك أيضا مقال آخر حول صندوق أنشأته الحكومة المغربية الجديدة لدعم الاستخدام الرسمي للأمازيغية. وفي أحد الأيام أرسل لي راخا صورة يظهر فيها أن جهاز البريد المغربي قد أصدر للتو طابعا تذكاريا حول معركة أنوال و أضاف هذه الملاحظة: “يا لها من فرحة”.
- المصدر: موقع “نيولاينز”
- توماس جراهام صحفي مستقل يعمل في أوروبا وأمريكا الجنوبية. ظهرت أعماله على البي بي سي وفي The Economist و The Guardian و Wired.
- تعريب: موقع “لكم”