بَيْعُ قِطَاعِ التَّعْلِيمِ؛ هَلْ آنَ أَوَانُهُ؟!
لم يكن السيد عبد الإله بنكيرن– رئيس الحكومة السابق– يمزح أو “يقفش“، أو يطلق الكلام على عواهنه، حينما صرح، أكثر من مرة، أن قطاع التعليم في هذه الدولة مُكلِّف، وأنه قد :” آن الأوان للدولة أن ترفع يدها عنه“.
آراء أخرى
فمشروع بيع القطاع، أو خصصته، ليس وليد اللحظة الكيرانية، التي وصلت فيها الجرأة على هتك المكتسبات الشعبية– على قلتها– في التعليم، والصحة، والشغل،…مداها وذروتها؛ بل هو مشروع يعود إلى أزيد من عقدين من الزمن حينما رفع الراحل الحسن الثاني – رحمه الله– طلب استشارة إلى البنك الدولي لتقديم تصور (حل) حول وضعية التعليم وسبيل النهوض به، بعد أن لم يقنعه تقرير اللجنة الملكية التي كلفها بإنجاز هذا التقرير(يونيو 1995)، والتي خلصت إلى أن:” مبدأ المجانية يعتبر نتيجة حتمية للظروف الاقتصادية والاجتماعية لعدد كبير من الأسر المغربية،.. (و) أن المجانية تعتبر عنصرا حاسما لاستمرار المدرسة العمومية المغربية“، وهو التقرير الذي لم يعجب الملك الراحل، وقرر استشارة البنك الدولي الذي أوصى بخوصصة التعليم، خصوصا الثانوي والعالي منه، وأكد على أن :” دور الدولة في التعليم يجب أن يتغير حتى تتمكن أنظمته من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين“. وبعد عقد من الزمن على هذا التقرير، عاد المجلس الأعلى للتعليم في نسخته الأولى (2008) ليؤكد من جديد، في تقرير مفصل وخطير، على الوضع الكارثي للقطاع، خصوصا بعد أن فشلت الوزارة، ومعها الحكومة، في تنزيل مشاريع الميثاق الوطني للتربية والتكوين في آجالها المحددة، فيما سُمي بعشرية الميثاق، ليوصي الحكومة بالإسراع بوضع برنامج استعجالي. فكان ما سمي بإشاعة الثمانينات، وبعدها بتوصيات البنك الدولي للمغرب 1995، حول “خصصة قطاع التعليم“، حقيقة تتداولها دهاليز الحكومة، وتقرر في شأنها مشاريع، ورؤى، واستراتيجيات، ضَمِنَت جزءا منها البرنامج الاستعجالي، وهاجسها الوحيد كيفية التخلص من العبء المالي الضخم الذي يجثم به هذا القطاع على مالية الدولة؛ حيث طرحت على مكتب دراسات السؤال المؤرق التالي : كيف السبيل إلى التخلص من العبء المالي الضخم لهذا القطاع مع تبويئه المكانة اللائقة في السوق التربوي الوطني والعربي؟.
فكان الجواب، بعد 210 يوما من الدراسة وبكلفة مالية وصلت إلى 18 مليون درهم، تقريرا مفصلا خطيرا حول الوضع التعليمي بالمغرب، ضَمِنه خبراء مكتب الدراسات، أهم الأسباب الثاوية خلف هذا الاهتراء المخيف الذي طال الفِناء التعليمي /التربوي الوطني ، وسبل العلاج الممكنة لإنعاشه و“إنعاش” الميزانية العامة للدولة .
بيد أن السلطات التعليمية، آنذاك، ارتأت، بعد أن اطلعت على هذا التقرير، أن الظرفية لا تسمح بعرضه على العموم بَلْهَ مشاركة الفاعلين والمهتمين بالشأن التربوي وكذا النقابات والجمعيات التي تُعنى بهذا القطاع في دراسته، وصياغة القراءات التربوية والمعرفية المناسبة لإثرائه، والوقوف عند الثغرات والنواقص التي شابت مضامينه، والمساهمة الفاعلة والجادة في بنائه وتبييئه، والانخراط الجاد والفعلي في تنفيذه والتعبئة لتوفير شروط وآليات إنجاحه. نظرا لما يمكن أن يجره عليها من احتجاجات، وما يمكن أن يواجَه به من رفض قد يزيد في تعميق الأزمة، وقلب الأوضاع التعليمية رأسا على عقب . فقررت الاشتغال في صمت، بعيدا عن أعين الفضوليين، لصياغة تقرير تركيبي، من هذا التقرير التفصيلي، يمكن عرضه على مختلف المهتمين “دون خسائر” ! ، تعرض فيه لأهم المحطات” الناصعة ” في“التقرير الأم” و التي تمثل المشترَك المعلوم من الوضع التعليمي بالضرورة ، والاحتفاظ لنفسها بالعلاجات والأدوية “المُرَّة” التي تمثل الحلول الوحيدة والفريدة للتخلص من عبء هذا القطاع الذي ظل حاكموا هذا البلد – لسنوات– يعتبرونه وزرا ثقيلا يجثم على مالية الدولة، ولا بد من التخلص منه.
ولقد استدركت الوزارة على هذا التقرير، بعد عرضه على أنظار الملك بتاريخ 11 شتنبر 2008، حيث:” (أعادت) النظر في مكوناته ووضعت هيكلة جديدة (له) وذلك بالرفع من أهدافه الكمية ومن الغلاف المالي الواجب تخصيصه إلى ما يفوق 43.5 مليار درهم. وقد استغرقت عملية المراجعة هذه سنة ونصف من الأربع سنوات المحددة أصلا لإنجاز البرنامج .” (من عرض الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان حول أعمال المحاكم المالية بتاريخ: 23 أكتوبر 2018 ص: 29).
وحتى نقترب أكثر من بعض الملامح الكزة الجاحدة لهذا التقرير الخطير، والذي يعود لأزيد من عقد من الزمن؛ هذه بعض الفقرات الواردة فيه، والتي تشكل لُبَّ البرنامج الاستعجالي وفَصَّهُ وغاية تنزيله :
· “النهوض بالعرض التربوي الخصوصي بغية التخفيف من العبء المالي للدولة في تمويل المنظومة“.
· “إقرار تدابير تحفيزية تمكن من تسهيل استثمار الخواص في قطاع التعليم (العمومي)…وتفويض تدبير مؤسسات عمومية قائمة : تفويت البنيات والتجهيزات وإلحاق الأطر التربوية(العاملة بالقطاع العمومي) بالتعليم الخاص ، وتقديم إعانات محتملة لتسيير مؤسساته حسب التعريفة المتبناة في كل مؤسسة “.
· “تطوير نموذج جديد ومتكامل للعرض التربوي الخاص، ينتظم حول متدخلين خواص، من حجم كبير، باستطاعتهم تغطية مجموع التراب الوطني، ويشتغلون في مجموعات مدرسية معترف بقيمتها (…) ويتم القيام بدراسة معمقة لأجل التطبيق العملي لهذا النموذج“..
والذي يفهم من هذه الفقرات أن الهدف الاستراتيجي ، والمرتكز الأساس الذي نهضت عليه دعائم المخطط الاستعجالي (الاستراتيجي!!)، هو التخفيف من كلفة الإنفاق على القطاع ، وإيجاد السبل والوسائل القمينة بتفويته إلى الخواص في سلاسة ويسر !!، رغم أن الإنفاق العام على هذا البرنامج فاق كل التوقعات، دون أن تكون له آثار ملموسة على الواقع المزري للتعليم بالبلاد. وهو ما أشار إليه رئيس المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الأخير، أثناء حديثه عن كلفة وتمويل البرنامج الاستعجالي، حين طرح السؤال المؤرق والوجيه التالي:” ويبقى السؤال المطروح: ماهي التطورات التي حققها نظام التعليم بعد انقضاء مرحلة البرنامج الاستعجالي وصرف ميزانية الدولة لأزيد من 25 مليار درهم دون احتساب نفقات الموظفين ؟“. رغم أن نفقات هذا البرنامج، التي فاقت كل التكهنات، تبقى، حسب هذا المجلس، تقديرية، نظرا لخلط الوزارة نفقات هذا البرنامج مع نفقاتها العادية، مما تعذر معه تحديد النفقات التي صرفت بين عامي 2009 و2012 بدقة.
غير أن الإنفاق الإجمالي على هذا البرنامج، الذي ووجه، خلال الإعداد له، بانتقادات، ومعارضات غير مسبوقة، كما رافقته احتجاجات نقابية، خلال تنزيل بعض مشاريعه التي سجل عليها المجلس الأعلى للحسابات في تقريره إياه، عدة اختلالات من بينها:” الاستعجال في برمجة المشاريع وضيق الجدول الزمني المحدد لإنجازها؛ بالإضافة إلى تضمين البرنامج لعدد مهم من الدراسات ( 57 دراسة)، يشترط إنجازها قبل تنزيل البرنامج،…” (ص: 30)، قد تجاوز عتبة 50 مليار درهم ( وبالضبط 58.2 مليار دهم حسب تقرير المجلس).
ولقد اشتغلت الوزارة خلال فترة التنزيل على استهداف الأجنحة الرئيسية داخل المنظومة: جناح الموارد البشرية (الأساتذة)- جناح المتعلمين– جناح حظيرة الممارسة التدريسية (المؤسسات التعليمية)، بحزمة من المشاريع والتدابير، أثارت الكثير من النقاش والاعتراضات بين مختلف التعابير المهتمة بالشأن التربوي، وانتهى بعضها، بعد أن صرفت عليه ملايين الدراهم إلى الرف، بجرة قرارات غير محسوبة. وهو ما أشار إليه تقرير رئيس المجلس الأعلى للحسابات ضمن الاختلالات التي رافقت تنزيل البرنامج حينما سجل:” التخلي عن عدة مشاريع بعد الشروع في تنفيذها، ويتعلق الأمر على الخصوص بتوقيف مشروع بيداغوجيا الإدماج بعد تجريبها وتكوين جميع الأطر التربوية قصد تعميمها على السلكين الابتدائي والإعدادي . وقد كلفت هذه العملية ما يفوق 71 مليون درهم“. (ص:30).
وهذه بعض الملامح العابرة لمسار التنزيل عبر هذه الأجنحة الثلاث:
1.بخصوص الأطر التربوية العاملة في القطاع ؛ فقد تقرر ما يلي:
· “إخضاع” رجال ونساء التعليم لتكوين “استعجالي” وفق معايير خاصة ومحددة (التكوين حول المقاربة بالكفايات وبيداغوجيا الإدماج لتهييء مدرس عصري ومتنور يصلح “واجهة” محفِّزة للإقبال على “العرض التربوي” من طرف المسثتمرين !!). ولقد قطعت السلطات التربوية أشواطا متقدمة في “إخضاع ” رجال ونساء التعليم للتكوين على هذا المنتوج (بيداغوجيا الإدماج) الذي لا يمثل سوى فرع من الفروع المؤثثة للبهو الخارجي لهذا البرنامج الذي نبهت المركزيات النقابية، آنذاك، إلى تهافته (أي المنتوج البيداغوجي)، نظرا لحمله بذور فشله من البداية.( فشِل في كل الدول التي اعتمدته في مدارسها، تونس، الكونغو، حتى في بلجيكا…).
·الاقتطاع من أجور المتغيبين دون تدقيق وتحديد معنى الغياب. وهو ما فصَّل السيد بنكيران في المقصود منه حينما أدرج المضربين ضمن جماعة المتغيبين، ليكون أول من شرعن للاقتطاع من أجور المضربين.
·إحداث التوظيف التعاقدي. جاء في التقرير التركيبي:”… وسوف تتم مراجعة أشكال التوظيف، إذ ستجرى على مستوى كل أكاديمية على حدة، وفق نظام تعاقدي على صعيد الجهة “.
والهدف هو تعميم هذا الشكل من التوظيف ، وتوسيع قاعدته لتسهيل مباشرة هذه “الخوصصة” دون الخوف من “جيوب مُقاوِمة” !!. وهو ما حققته حكومة بنكيران دون مقاومة تذكر، بعدما كان مجرد الحديث عنه يحمي وطيس المركزيات النقابية، ويلهب البيانات المستنكرة. هذا، بطبيعة الحال، يوم كانت النقابات نقابات !!.
ولقد أشار تقرير السيد رئيس المجلس الأعلى للحسابات إلى أولى الاختلالات الرئيسة التي سجلت على تنزيل هذا التوظيف التعاقدي، والتي ظلت النقابات ومختلف المهتمين بالشأن التربوي ينبهون إليها، والمثملة في ضعف تكوين هذه الفئة، مما سيؤثر سلبا على جودة العملية التربوية، حين ذكر أن :” الوزارة قد عمدت، خلال الفترة 2016-2018، إلى تغطية الخصاص عن طريق التوظيف بالتعاقد، حيث بلغ عدد المتعاقدين حوالي 55000 تم تعيينهم بالأقسام التعليمية دون استفادتهم من التكوين اللازم، مما يؤثر بصفة مباشرة على العملية التربوية” (ص:33)
· إقرار الساعات الإجبارية.
· تفعيل المدرس المتحرك والمدرس المتعدد الاختصاصات .
·الاشتغال خلال العطل البينية بالنسبة للأطر الإدارية والتربوية: عقد المجالس، والاجتماعات، والتكوينات، … (في طور المصادقة !!).
· تنظيم فترات تهيئة تسبق الدخول المدرسي بعشرة أيام (تمت).
· الترسيم بعد ثلاث أو أربع سنوات من العمل التدريبي بعد اجتياز امتحان الأهلية التربوية. (” شهادة الأهلية لمهنة التدريس …. بعد ثلاث (3) إلى أربع (4) سنوات من الممارسة” (تمت).
2.بخصوص المتعلمين ؛ تقرر التالي:
· إقرار مبدأ التعليم الأولي.
· إلزامية التعليم .
· محاربة ظاهرتي التكرار والانقطاع عن الدراسة.
· –إنصاف الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
· الدعم المدرسي.
· الدعم الاجتماعي.
· توفير النقل المدرسي
· تطوير العدة البيداغوجية؛
· –مراجعة المناهج؛
·–إدماج تكنولوجيات الإعلام والتواصل في سيرورة التعلمات؛ لتحسين نظام التقويم والإشهاد؛
تحسين جودة الحياة المدرسية؛
· دعم الصحة المدرسية و الأمن الإنساني.
تعليق : الهدف هو تبويء المتعلم المكانة المحورية في العملية التربوية، وجعله السيد و الكل له خدم . مقابل أن تصير الأسرة شريكة في الشأن التربوي بالمراقبة والتتبع والمساءلة. مادامت ستكون مسهمة بما يعادل 30% !!من التكلفة الإجمالية (وهو ما سمته الحكومة الحالية بــ“مساهمة الأسر بأداء الرسوم” التي لا يعرف أحد قيمتها الحقيقية، والتي أثارت الكثير من النقاش وردود الفعل من الآباء والمهتمين بالشأن التعليمي فضلا عن “شعب” الفيسبوك الذي أحمى وطيس المعركة ضد المجانية؛ قبل أن تتدخل الحكومة، في شخص رئيسها السيد العثماني، لتطمئن الجميع بأن المقصودين بهذه الرسوم هم أبناء الميسورين من الشعب المغربي. وهو التوضيح/الطمأنة الذي لم يقنع أحدا، مادام الجميع يعلم أن أبناء الميسورين لا يدرسون في المدارس العمومية !!). في الوقت الذي لا تساهم فيه الجماعات المحلية، المعول عليه الأول ضمن قبيلة المتدخلين في الشأن التربوي، سوى ب( 0.3% ).
3.أما بخصوص الجناح الثالث المتمثل في المؤسسة التعليمية وبُناها التحتية ، فقد تقرر التالي :
· تأهيل المؤسسات التعليمية .(مشروع المخطط الذي سهر على تنزيله الوزير حصاد).
· إحداث المدارس الجماعاتية .
· الاهتمام بجودة الحياة المدرسية.
· وضع نظام ناجع للإعلام والتوجيه .
· …
على سبيل الختم…
إن المطلع على محتويات البرنامج الاستعجالي/الاستراتيجي، الظاهر منه والخفي، سيخرج بخلاصة مفادها أن الهاجس الوحيد الثاوي خلفه هو هاجس تقني/مادي صرف وليس هاجسا تربويا البتة . وأن الهدف العام والاستراتيجي لهذا المشروع هو بناء نسق تربوي جديد يقوم على خيار الخوصصة كحل استراتيجي للتخلص من الضغط المالي الذي يجثم به القطاع على مالية الدولة . كما أن كل ما أثير ونشر حول انتهاء البرنامج الاستعجالي، وتجميده على يد السيد الوفا، هو مجرد كلام، لا يتأسس على أي مؤشر واقعيٍّ يقنع بتراجع صناع القرار عن التمسك بروحه، والصدور عن مرتكزاته الاستراتيجية في كل ما أعقب “تجميده” من مشاريع ورؤى إصلاحية؛ بل العكس هو الذي نضح عن كل هذه المحاولات الإصلاحية، إذ لم تبرح جميعها العمل على تنزيل مضامينه المؤجلة، المومإ إلى بعضها أعلاه، ولم تكن، أبدا وقط، تأسيسات جديدة على أنقاضه كما يروج البعض !.
فمعركة المجانية التي انطلقت من أحضان المجلس الأعلى للتربية والتكوين ،مثلا، والتي يمكن اعتبارها إحدى المؤشرات الباصمة لاستمرار روح البرنامج الاستعجالي في دهاليز صناعة القرار التربوي والسياسي بالبلاد، لم تُثَرْ من لاشيء، ولم تكن أبدا، كما روج لها البعض، مجرد مزايدات فارغة لأطراف معاكسة داخل المجلس، حتى وصل صداها إلى المجتمع التربوي، وكتبت عنها وحولها عشرات المقالات، والدراسات؛ بل هي نتاج تراكمات لتوجهات لازالت تتلمس الطريق إلى رفع اليد عن هذا القطاع العمومي الحيوي، الذي لم تعد الدولة تحتمل ثقله الضاغط على ماليتها العمومية. فكان الحديث عن قرب رفع الدولة يدها عن هذا القطاع الحيوي، كلاما مؤسسا، واستراتيجيا، وتنزيله، مسألة وقت ليس غير… !
دمتم على وطن.. !!