
العدل والإحسان والملكية

إن معالجة إشكالية العلاقة بين العدل والإحسان والملكية، لا تستقيم إلا بتشريح البنيتين معا، واستبيان الخصوصيات التي تطبع كل منهما، فالعدل والإحسان تشكل جماعة نوعية، يميزها منهاج عمل واضح المعالم، يؤطر الممارسة الدعوية والتدافع السياسي. والملكية المغربية بنية مؤسسية لها امتدادات و تفرعات مجالية متعددة، تنسجم في إطار مفهوم مركزي اصطلح عليه المغاربة عبر التاريخ بالمخزن، ويحمل هذا المفهوم عناصر متعددة منها المخزن السياسي والمخزن الاقتصادي والمخزن الدبلوماسي و المخزن الثقافي والمخزن الديني…
آراء أخرى
يتمثل الموقف التقليدي للعدل والإحسان من الملكية في ما تسميه أدبياتها بالعصيان، وتبني هذا الموقف على مرجعية دينية شرعية تراها قوية في تبرير هذا الطرح، كما تبنيه على تشخيص لواقع معاش تعتبره تتويجا لانتشار الفساد وسيادة الاستبداد، ومن هذا التشخيص تربط الجماعة المؤسسة الملكية بالاستئثار بالسلطة والثروة، وبذلك البغي والظلم كما تعكسه المفاهيم الشرعية.
ليس المكان هنا لاستدعاء العناصر المفسرة لموقف العصيان، فالأمر مبسوط بشكل جلي في أدبياتها، لكن السؤال الذي يهمنا هو أن جماعة العدل والإحسان من خلال موقفها العصياني لا تعبر صراحة عن رفض الملكية، لكن في نفس الوقت، لا تقر في مشروعها السياسي بهذا النظام كأسلوب في الحكم، بل تعتبره انحرافا تاريخيا عن النظام الإسلامي الشرعي، الذي هو الخلافة كما تجسدت في عهد الخلفاء الأربعة الراشدين.
تتكرس الإشكالية إذا ما علمنا أن جماعة العدل والإحسان التي خرج أعضاؤها في فعاليات حركة 20 فبراير في أكثر من 70 مدينة وقرية مشكلين دعامة أساسية للحراك الفبرايري، لم يرفعوا شعار إسقاط النظام، بل رددوا شعار إسقاط الفساد والاستبداد، لكن في نفس الوقت انسحاب الجماعة من 20 فبراير، كان من بين أسبابه تسقيف المطالب السياسية للحركة بالملكية البرلمانية، ومحاولة جر الجماعة للتماهي مع المشروع السياسي لليسار الاشتراكي، هنا تتعقد الإجابة، ويتضح أكثر أن الإجابات الجاهزة والعمومية لا تفيد في تبيان العلاقة بقدر ما تحيد عن الموضوعية والعلمية.
1- في استفهام العمل السياسي عند جماعة العدل والاحسان:
يبدوا من خلال قراءة الواقع السياسي الإقليمي والمحلي أن جماعة العدل والإحسان أصبح لها موقعا مركزيا ضمن خريطة الحركات التغييرية ذات المشروع الإسلامي التجديدي، وطرفا لا غنى عنه في المشهد السياسي المغربي، باعتبارها حاملة لأطروحة سياسية نوعية ومتقدمة في فقه التغيير، تضمنتها أدبياتها خاصة كتابي العدل والإسلام والحداثة.
تعتبر جماعة العدل والإحسان العمل السياسي دائرة من دوائر اهتماماتها المتعددة، وتركز في فعلها على أولوية العمل التربوي والدعوي وبناء الذات، استعدادا لما تعتبره بشارة نبوية تتمثل في مصيرية الخلافة على منهاج النبوة، لذلك فتشريح عمل الجماعة يخلص بنا إلى أن نسبة أنشطتها التربوية والدعوية أكبر بكثير من أنشطتها السياسية التدافعية، وليس من باب العبث أن تصطلح على دراعها السياسي بالدائرة السياسية، بما يحمله هذا المفهوم من عمل تخصصي ينبري له بعض أعضاء الجماعة وليس كل أعضائها، و تضم الدائرة السياسية كل المواصفات الهيكلية للأحزاب السياسية من مؤسسات مركزية ومؤسسات قاعدية وقطاعات نقابية وشبابية ونسائية ومراكز بحثية…
ومن خلال قراء أدبيات الجماعة و تتبع عملها في الواقع، يمكن القول أن العمل السياسي لديها لا يخرج عن آليتين:
-آلية النصيحة : وتمارسها من خلال توجيه نصائح مكتوبة للحكام، كما تجسد فعليا في رسالة الإسلام أوالطوفان سنة 1974، ومذكرة لمن يهمه الأمر التي بعثها مرشدها الراحل للملك محمد السادس بعد اعتلائه العرش، كما تمارس النصيحة من خلال توجيه نصائح متعددة على شكل بيانات ووثائق تصدر غالبا عن الدائرة السياسية مثل وثيقة “جميعا من اجل الخلاص” ،ووثيقة “قبل فوات الأوان” ، والنصيحة التي وجهتها الجماعة لقيادة الإصلاح والتوحيد حول مزالق تحمل المسؤولية الحكومية…
-آلية التدافع: تمارس الجماعة التدافع السياسي السلمي من خلال مساندة الحراك الشعبي، وفضح الظلم والاستبداد، وتبني خطاب سياسي معارض واضح للحكم مباشرة، رغم ما تجنيه من موقفها هذا من حصار وقمع لأنشطتها، و من خلال هذا التدافع السياسي استطاعت الجماعة أن تبين للجميع قدرتها الفائقة على الحشد والتنظيم، و صدقية شعارها السياسي الرافض للعنف، ويلغي هذا التدافع المشاركة في العملية الانتخابية باعتبارها حسب بيانات المجلس القطري للدائرة السياسية عملية شكلية لا تنتج سوى مؤسسات عبثية لا سلطة ولا قرار لها، سوى دعم الاستبداد والفساد، وتحسين وجه السلطة لدى المؤسسات الدولية المانحة (المقرضة).
2- في تشريح العلاقة بين العدل والاحسان والملكية المغربية:
ذكرنا سابقا أن المؤسسة الملكية في المغرب لا يمكن فصلها عن المخزن باعتباره الوعاء الحيوي والضمانة الأساسية لاستمرارية النظام الملكي، وقد انتظمت فروع المخزن وتقوت مؤسساته منذ فرض نظام الحماية على المغرب، حيث حافظ المارشال ليوطي على المؤسسات التقليدية، وعمل على ترسيخ وتوسيع شبكتها حتى شملت جميع القرى والبوادي ناهيك عن المدن والحواضر.
وبعد الاستقلال عمل الملك الراحل الحسن الثاني على تطويع هذه المؤسسات لسلطته، حيث نظم وظيفة الباشوات والقياد والشيوخ والمقدمين وجعلهم تحت تصرف العامل باعتباره نائبا للملك في جميع أنحاء البلاد، وبالموازاة مع هذه المؤسسات، ظهرت عائلات ثرية أغلبها تحصل على ثروته من علاقاته التجارية مع الدول الامبريالية خاصة فرنسا، وقد اندمجت هذه العائلات بعد الاستقلال في البنية السياسية المخزنية الجديدة، إما في إطار مناصب إدارية أو زعامات وقيادات حزبية، و استمدت نفوذها وقوتها دوما من فرنسا ثم من حجم الأطر من أبنائها الذين تربوا وتعلموا في حضن الامبريالية فيما سمي تاريخيا بأبناء الأعيان.
مؤسسات أخرى تدخل في إطار النسيج المعقد لبنية المخزن، تتمثل في أغلب الزوايا المنتشرة في جميع ربوع البلاد، و جمعيات الشرفاء وجمعيات دينية و رياضية وكشفية وفنية… وقد انضافت اليهم جمعيات ذات امتدادات جهوية ومحلية، تعمل في إطار التنمية والفن والثقافة، مثل جمعية أبي رقراق ومغرب الثقافات…يغدق على الجميع المخزن من مكرماته وهباته.
إذن فالمخزن مؤسسة متشابكة يشد بعضها البعض، نسجت بشكل تراكمي في إطار تقاسم المصالح وتسخير السلطة، والأكل من الكعكة الكبيرة كل حسب ملعقته، ومن تعدى حدود ملعقته يجرفه القانون الذي لا يرحم، وهكذا تم إحكام بنية لولبية تدور كلها نحو نقطة ارتكاز منها تنطلق البنية وإليها تنتهي.
لقد مرت على المخزن مجموعة من الأحداث القوية منها المحاولات الانقلابية السبعينية الفاشلة التي كانت امتدادا لموضة الانقلابات العسكرية في الدول النامية ، ثم الثورات الخبزية الثمانينية التي تصدى لها بقوة، بوسائل بصرية قاسية يعلمها الجميع، واعترفت بها السلطة الحالية، وحاولت أن تتجاوزها إعلاميا في إطار ما سمي بطي صفحة الماضي…
كما استطاع المخزن أن يدبر بدهاء الحراك الشعبي، الذي قادته حركة 20 فبراير والهيئات الداعمة لها، وقد كان من المرجح أن يتوج هذا الحراك بتقديم المخزن لتنازلات كبيرة لصالح الديمقراطية، وفصل السلطة عن الثروة…لكنه استطاع احتواء الحراك الشعبي، وامتصاص غضبه، باستعمال عدة أدوات أبرزها فتح باب الإصلاح الدستوري، وإقحام مكون سياسي إسلامي في دواليب السياسية الرسمية، لتدبير المرحلة والالتواء على المطالب الشعبية ،و خلق استمرارية مخزنية في أجواء ديمقراطية، لا يعكر صفوها سوى صوت الهيئات السياسية المعارضة، وعشرات المظاهرات اليومية في مدن و مداشر المملكة.
تحاول بعض الهيئات أن تجعل من نفسها المسيح المخلص الذي استطاع أن ينقد المغرب مما تشهده دول الربيع العربي من ارتدادات، وهذه شعبوية مقيتة تنم عن عقلية برغماتية تحاول أن تسترضي أسيادها، في حين أسيادها يعلمون تمام اليقين أنها هيئات متزلفة يمكن الاشتغال بها إلى حين موعد رميها، وقد نسيت أو تناست هذه الهيئات أن الذي أوصلها إلى مآربها، هو تلك الجماجم و الحناجر الفبرايرية التي جابت شوارع حواضر المغرب وقراه، تبحث لهم عن كرامتهم المفقودة وحريتهم الموءودة، لكن للأسف كتب على المغرب أن تتداول عليه نخب احترفت النفاق السياسي، ما جعل المرحوم المهدي المنجرة يصفها بالنخمة كناية على أنها إفراز مرضي للشعب المغربي.
وإذا كان من استثناء للمغرب فهو راجع إلى حكمة الحركات والهيئات التي قادت الحراك بشكل سلمي، وعبرت من خلاله عن مطالب مشروعة، رفع لها كشعار إسقاط الفساد والاستبداد، ولم تأخذها يوما العاطفة المجنحة حينما امتلأت الشوارع بالمتظاهرين إلى طريق آخر يعصف بالبلاد إلى ما لا تحمد عقباه، وقد كان لشباب جماعة العدل والإحسان حضورا قويا في الاجتماعات الفبرايرية وحضورا وازنا في المظاهرات الأسبوعية.
جماعة العدل والإحسان لا تريد التصريح القطعي الدلالة من رفضها القاطع للملكية في المغرب، لكي لا تدخل في صراع سياسي تقدر أنه لن يكون في صالح التغيير المنشود
ترفض جماعة العدل والاحسان المخزن كبنية سلطوية، لكن هل ترفض المؤسسة الملكية إذا ما خرجت من جبة المخزن؟
في الخطاب السياسي الرسمي لقيادات الجماعة تكرر العدل والإحسان، بأنها ترفض الملك بضم الميم، لكنها لا تعطينا تصورا واضحا حول موقفها من الملك بفتح الميم.
بين الضم والفتح يكمن موقف الجماعة من النظام الملكي القائم، هذا الموقف في تقديرنا لا يخرج عن ثلاثة طرحات:
الطرح الأول : أن جماعة العدل والإحسان لا تريد التصريح القطعي الدلالة من رفضها القاطع للملكية في المغرب، لكي لا تدخل في صراع سياسي تقدر أنه لن يكون في صالح التغيير المنشود، فهي تحمل المؤسسة الملكية تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية …وبذلك تدفع دوائره إلى القيام بإصلاحات مجالية متعددة، ومنه ترسل رسائل مشفرة إلى خصومها، مفادها أنها وإن كانت ترفض المشاركة الانتخابية التي تعتبرها ديكورية، فإنها حاضرة كقوة سياسية دافعة لتبني قرارات سياسية إصلاحية، ولنأخذ مثالا على ذلك ورش الإصلاح الدستوري، فالذي فتحه ليست القوى السياسية الانتخابية، وإنما القوى السياسية الشعبية والتي تعد جماعة العدل والإحسان عمودها الفقري، وأمثلة كثيرة في المجال الاجتماعي كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي جاءت لتقطع الطريق أمام العمل الاجتماعي التضامني للحركات المعارضة وعلى رأسها العدل والإحسان.
الطرح الثاني : ويتمثل في نظرية التوبة العمرية التي تقتضي من الحاكم الاقتداء بنموذج عمر بن عبد العزيز، الذي كان ملكا وارثا للحكم، لكنه تنازل عنه وتمت إعادة بيعته في إطار الشورى، كما قام برد مال الأمة إلى الأمة… قد يبدو هذا الطرح ساذجا في ظل تعقد الوضعية السياسية الحالية، فكيف لحاكم أن يتنازل عن الحكم و ويعاد اختياره من جديد. ما الضمانة لذلك؟ لكن الفهم السليم هنا لا ينظر إلى بساطة الطريقة، بقدر ما يقرأ الأبعاد التي تريدها الجماعة من هذا الطرح، فهي تحمل المؤسسة الملكية مسؤولية التغيير، وتجعلها طرفا أساسيا يجب أن يشارك في هذه العملية، وذلك إن تحقق فرضا، سيضمن تغييرا سلسا وسالما نحو البناء الشوري الديمقراطي، الجماعة هنا تؤكد أنها لا تترك بابا إلا فتحته، ولو كان بابا صغيرا، لأن هدفها ليس الوصول إلى الحكم بل دمقرطته.
الطرح الثالث: يتأسس هذا الطرح على فكرة الميثاق، الذي تتبناه الجماعة كمدخل استراتيجي لتحقيق التغيير، ومن الشروط التي ترفعها في صياغته أن يكون مفتوحا لجميع النخب السياسية ،ومحسوما من طرف الشعب، وخلاصات هذا الميثاق تفترض احتراما وانضباطا من طرف جميع الهيئات المشاركة في إعداده، ولعل من الأمور الأساسية التي يتضمنها أي ميثاق سياسي شكل الدولة ونظام الحكم…
من بين الخلاصات التي يقرها أي باحث موضوعي، أنه لا يمكن أن يتحقق أي تغيير في هذا البلد، إلا بمساهمة جميع قواه بما فيها العدل والإحسان باعتبارها قوة سياسية ناضجة، استمدت هذا النضج من خلال تجربة سياسية امتدت لأربعة عقود، راكمت خلالها خطابا سياسيا نوعيا لا تؤثر فيه المتغيرات الإقليمية والمحلية، وهذا بعكس ما تصوره بعض الهيئات الإعلامية والحزبية التي تنعت الجماعة بالعقم السياسي و الانتظارية و الخرافية…ولعل أبرز ما يمكن أن نختم به حول حول المشروع السياسي للجماعة، أنها تعتبره اجتهادا بشريا لا تغلفه بمسحة دينية مقدسة، وتجعل من الحوار والتوافق مع أطراف التغيير المدخل الأساسي لأي تغيير مستقبلي في بلادنا، وهذا في حد ذاته مكسب كبير للدولة المغربية ومستقبلها.