أفكار ابن بركة وأعماله تخلّده في الذاكرة
أورد الجابري في سيرته السياسية قصة طريفة وقعت له مع المهدي ابن بركة، إذ حدَث أن الجابري سأل المهدي: لماذا لا نُعلن عن الاشتراكية ما دمنا ندندن حولها؟ فكان الجواب كالتالي: قُل ما فيها ولا تقلها. أي أن المهدي كان يعرف السياق الذي يحيى فيه والمعوّقات التي تحيق به، لذلك لم يكن يودّ الدخول في مواجهات لا طائل منها.
آراء أخرى
لقد حرِص على أن تكون اشتراكية عَملية تَبرُز من خلال الممارسة، لا مجرد شعارات ومسمّيات قد يُوافقها الواقع وقد يناقضها. قد تجد لها صدى داخل المجتمع وقد تكون سببا لسوء الفهم المانع من التواصل. عكس بعض الكيانات السياسية التي تُمعِن في البحث عن النعوث الايديولوجية والشعارات الكبرى، بدل اجتهادها في عكسِ ما تقتنع به من خلال سلوكها السياسي.
وقد تجلى حرص المهدي على الوحدة والبحث عن المشترك، وتجنب الخوض في “الخلافيات”، في العديد من الأعمال التي قام بها الرجل خلال حياته القصيرة، سواء داخليا أو خارجيا. وكان طريق الوحدة أبرز الأعمال التي رفدت فكرة “الوطنية الجامعة” التي ناضل من أجلها رفاق ابن بركة وإخوانه. ففي سنة 1957، أي بعد سنة على إعلان الاستقلال السياسي، ولأن المغرب كان بحاجة ماسة للبِنيات التحتية، ولأن الحكومة التي تشكّلت آنذاك (حكومة البكّاي الأولى) لم تكن قادرة على توفير كل المتطلّبات، تفتّقت عقلية الشهيد المهدي بن بركة (الذي كان يرأس المجلس الاستشاري)، فأقترح بناء طريق تربط بين المنطقة الشمالية التي احتلّتها اسبانيا، والمنطقة الجنوبية التي احتلّتها فرنسا (بين تاونات وكتامة)، وذلك بشكل تطوعي ودون أي أجر يحصل عليه العمال…فلِشق هذه الطريق الوعرة التي تمرّ أحيانا عبر الجبال التي يبلغ ارتفاعها 2000 متر، قدّرت إدارة الأشغال العمومية أنها تحتاج لمدة سنتين و 800 مليون فرنك، وقد قرّرت اللجنة التي شكّلها المهدي بنبركة أن تنجز المهمة في ظرف 3 أشهر وبتكلفة لا تتعدى 184 مليون فرنك فقط (لاحظ الفرق).
حرص المهدي على الوحدة والبحث عن المشترك، وتجنب الخوض في “الخلافيات”، في العديد من الأعمال التي قام بها الرجل خلال حياته القصيرة، سواء داخليا أو خارجيا. وكان طريق الوحدة أبرز الأعمال التي رفدت فكرة “الوطنية الجامعة”
تمّ الاعلان عن فتح باب التطوع، وكان المطلوب أن يصل العدد إلى 12 ألف شاب، لكن عدد المتطوعين بلغ أكثر من 33 ألف شاب، مما جعل اللجنة تلجأ إلى الانتقاء بناء على المستوى التعليمي (كان 80 في المائة من الشباب ينحدر من القرية)…وهكذا تم انتقاء 12 ألف شاب وأخضعوا لتكوين عملي ونظري…ثم دُفعوا إلى ساحة العمل الذي نتجت عنه طريق الوحدة.
لقد هدف هذا العمل إلى تحقيق مجموعة من الانجازات يمكن تلخيصها في ما تطرق إليه الباحثان الفرنسيان سيمون وجان لاكوتور، في كتباهما “المغرب تحت الاختبار”: “ليس طريق الوحدة ورشة عمل وحسب (…) بل إن تفكير المهدي بن بركة كان يهدف إلى تجميع واسع للشباب حول موضوع وطني وحركي في الوقت نفسه. لقد كان الهدف هو إثارة اهتمام شبيبة لا مبالية نسبيا، وحملها من خلال بذل الجهد على الاقتناع أن العمل وحده يعطي مردودية، وأيضا جعلها تكتشف بصورة جماعية بعض حقائق الواقع الحديث، وانتزاعها من عالم القرية المحدود وبالتالي فتح أعين الشباب المراهق –التي لا يرون أية أفاق غير تلك التي يقدمها لهم الدوار والقبيلة – على وجود وطن اسمه المغرب، من خصائصه التعدد والتنوع ويجتاز ظروفا صعبة. يتلعق الأمر إذن، بمجال لاكتساب التجربة، وبـ “منبّه الصباح” للشبيبة المغربية يمكن أن يتشخّص أيضا في مشروعات أخرى من قبيل بناء سد أو القيام بعملية الحصاد أو بناء قرية شعبية أو مدرسة: إنه طريق” (هذه الشهادة أوردها المرحوم الجابري ضمن كتابه: في غمار السياسة، فكرا وممارسة، الكتاب الأول، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1، بيروت، 2009، ص 136).
في ذكرى رجل، ناضل منذ طفولته (وقع عريضة المطالبة بالاستقلال في عمر 23 سنة)، واستشهد في ريعان شبابه (اختُطف عن عمر 45 سنة)، رجل اجمعت أربع مخابرات استبدادية وإمبريالية على أن مصلحتها تكمن في إبعاده عن سطح الأرض (مخابرات: أمريكا، وفرنسا (عناصر غير منضبطة لسلطة ديغول)، والكيان الصهيوني (الذي ساءه أن يحذر المهدي من تغلغل الصهاينة في إفريقيا)، وأقطاب النظام السياسي المغرب، حيث كان المهدي محكوما بالاعدام منذ سنة). رجل لعب دورا أكبر من حجمه، وساهم في تقريب وجهات النظر بين زعماء 3 قارات، بل وترأس “منظمة القارات الثلاثة” التي رأت فيها أمريكا تهديدا لمصالحها. وساهم في التحضير لـ “مؤتمر هافانا.”
نصف قرن على الجريمة، لكن السنون لم ولن تستطيع أن تتغّلب على الذاكرة. فعمر الضحية أطول من عمر قاتله.
