
التحولات الراهنة في قضية الصحراء والسيناريوهات المحتملة

تعتبر التصريحات الاخيرة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مؤشرا قويا ليس فقط على انحيازه وخرقه لمبدإ الحياد المفترض في شخصه بحكم طبيعة منصبه ووظيفته، بل هي تعبير ضمني عن تبنيه لأطروحة الانفصال في مستوياتها الدعائية والإجرائية،سواءعندما وصف المغرب بالبلد “المحتل”، أو من خلال إعلانه أثناء زيارة المخيمات عن رغبته تنظيم مؤتمر دولي للمانحين تحت مسوغ دعم ومساعدة ساكنة مخيمات تندوف.
آراء أخرى
وفي إطار محاولة فهم وتحليل الدوافع والسياقات التي جاءت في إطارها خرجات الأمين العام، واستشراف مستقبل الصراع حول الصحراء، لابد منالعودة إلى المسار الذي عرفههذا الملف منذ اتفاق وقف اطلاق النار إلى اليوم، ليمكن الخلوص إلى أن إدارة الملف من طرف المغرب يكمن وصفها ” بإدارة الأزمات” التي ترتكز على ثلاثة مهام: وضع نهاية فورية للازمة، وجعل الخسائر في حدها الأدنى، ومحاولة إعادة الثقة.
فعلى امتداد هذه المرحلة، تقمص المغرب دور “رجل الاطفاء” في تعامله مع الحرائق التي يشعلها الخصوم، حيث اتسم تدبيره للملف طيلة هذه الفترة بثنائية الدفاع-الانتظارية، بعدمااكتفى بإنتاج”ردود الافعال” عند كل أزمة أو أي فعل صادر عن خصومه من شأنه خلخلة الملف في اتجاه يهدد مصالحه في المنطقة، أو من خلال الرهان على معطى الوقت والترقب وانتظار ما ستسفر عنه التفاعلات الداخلية سواء داخل الجزائر كبلد محتضن وراعي رسمي للمنظمة الانفصالية، أو انتظار أي أزمة داخل تنظيم البوليساريو، خاصة في ظل الأوضاع المتردية والمأساوية التي يعيشها الصحراويون بمخيمات تندوف.
بمعنى أن المغرب في تعاطيه مع ملف الوحدة الترابية عوض أن يبلور استراتيجية هجومية، بقي حبيس فكرة المحافظة على ” الوضع القائم”(الستاتيكو)، والمراهنة على انفجار الوضع داخليا مع مرور الوقت بشكل تلقائي لدى الخصوم، الأمر الذي جعله يتموقع طيلة السنوات الفارطة في موضع المدافع الذي يتقن فقط تكرار وإعادة انتاج نفس الخطابات والمقولات العاطفية المقرونة بخطاب المظلومية وبنبرة احتجاجية لها تأثير ومفعول كبير داخليا ويكاد يكون منعدما ومحدودا خارجيا.
هذا الوضع الدفاعي استمر منذ وقف اطلاق النار إلى سنة 2006، أي ما يقارب 15 سنة، حيث شكلت سنة 2007 نقطة انعطاف وتحول كبير في مسار الملف، بعدما تقدم المغرب بمقترح الحكم الذاتي، وتفاعلت معه القوى الكبرى بشكل إيجابي على أساس أن هذا المقترح بمثابة خيار واقعييتجاوز المقترح الوحيدالمقدم من طرف البوليساريو منذ بداية الصراع تحت عد مسميات وشعارات من قبيل ” الاستفتاء لتقرير المصير” و ” حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره”.
ولتحليل وفهم مسار النزاع والجوانب الرئيسية المرتبطة بملف الصحراء منذ وقف اطلاق النار إلى الازمة المرتبطة بالخرجات والتصريحات المنحازة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، يمكن تقسيم المراحل التي شهدها الملف إلى ثلاثة محطات رئيسية:
محطة المفارقات، خروج المغرب من الحرب منتصرا ودخوله المفاوضات ضعيفا..
من المفارقات الغريبة التي طبعت المرحلة الاولى التي تمتد من سنة 1991 تاريخ وقف إطلاق النار إلى غاية سنة 2006، أن المغرب في الوقت الذي حسم معركته على الارض خلال الحرب التي خاضها طيلة 16 سنة مع البوليسايو ومن وراءها الجزائر، دخل مسلسل المفاوضات كطرف ضعيف ومهزوم، بعد موافقته الجلوس إلى طاولة التفاوضمع طرف يفتقد ولا يمتلك شرعية تمثيلية الصحراويين من جهة، ومن جهة أخرى هذا الطرف يطرح مطالب عجز عن تحقيقها بواسطة السلاح، لاسيما وأن المغرب شيد عام 1980 جدارا حول المنطقة المتنازع عليها(السمارة، العيون، وبجدور)، وجعل هذا الجدارأهم الاراضي الصحراوية في مأمن من هجمات البوليساريو.
إن قبول المغرب بمسلسل التسوية الاممية بدون شروط مسبقة رغم المكاسب الميدانية التي حققها خلال الحرب، خاصة أن الطرف الاخر سبق وأن أعلن من جانب واحد عن ” قيام الدولة الصحراوية”، هو خطأ فادح ينضاف إلى مجموعة من الاخطاء، وسلوك غير مدروس ينم عن عجز وعدم القدرة على استثمار الحسم الميداني في موقعه التفاوضي،ومن نتائج هذه المفارقة أو ” الانتكاسة”،إعادة الملف إلى “نقطة الصفر”.
ويمكن فهم الموقف المغربي المتسم بالضعف اندالك بالسياقات الخارجية خاصة الضغوط التي تعرض لها المغرب من القوى الغربية الصديقة، بالتحديد فرنسا وأمريكا للقبول بمسلسل التسوية الاممي، وكذلك السياقات الداخلية، بفعل ضعف الجبهة الداخلية نتيجة الصراع الذي كان محتدما بين المؤسسة الملكية والمعارضة الاشتراكية، بالإضافة إلى الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي كان يعيشها المغرب خلال تلك الفترة.
وبالتزامن مع وقف إطلاق النار، وفي 24 أبريل1991 تم تأسيس بعثة الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء في الصحراءعرفت باسم “مينورسو” بقرار أممي رقم 690 في أبريل 1991، ويوجد مكتبها المركزي في مدينة العيون ولها 11 مركزا في كل المناطق المتنازع عليها، حيث أن مهمة البعثة الأممية هي تنظيم استفتاء في منطقة الصحراء المتنازع عليها، لتقرير مصير سكانها وحفظ السلام ومراقبة تحركات القوات المتواجدة في الصحراء.
وبالنظر إلى تعقد وحساسية مسلسل تحديد الهوية، بفعل صعوبة إرضاء جميعالمكونات القبلية الصحراوية حول من له حق المشاركة في الاستفتاء، بالإضافة إلى الخلافات الأساسية التي ميزت مواقف الأطراف، خلص الأمين العام للأمم المتحدة وكذلك مجلس الأمن إلى عدم قابلية مخطط التسوية المقترح للتطبيق، حيث نص الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره المؤرخ في 17 فبراير 2000 إلى أنه: “انقضى ما يقرب من تسع سنوات منذ إنشاء بعثة الأمم المتحدة في الصحراء، ومع ذلك لم يكن ممكنا خلال هذه الفترة تنفيذ أي من البنود الرئيسية لمخطط الأمم المتحدة تنفيذا كاملا، باستثناء مراقبة وقف إطلاق النار”.
بعد ذلك، أدرجتقضية الصحراءضمنالبند السادس من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجعل قراراتها غير ملزمة بالنسبة لأعضائها.وقدخلص مجلس الأمن إلى استنتاجات حول هذه الوضعية ضمن القرار رقم 1292 المؤرخ في 29 فبراير 2000، وأوصى الأمين العام بضرورة التشاور مع كافة الأطراف وبحث السبل والوسائل الكفيلة بإيجاد حل دائم ومتفق عليه بشأن النزاع في الصحراء.
وتنفيذا لهذه التوصية، عقد المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة جيمس بيكر سلسلة مشاورات وقدم مشروع الاتفاق الإطار الذي عرف بــ “مخطط بيكر الأول” في يونيو من سنة 2001، الذي أيده مجلس الامن في قراره رقم 1359الصادر في 29 يونيو من نفس السنة، وقبله المغرب كأساس للتفاوض من أجل التسوية النهائية لهذا النزاع الإقليمي، بينما رفضته كل من الجزائر و”البوليساريو”، حيث ذهبت الجزائر أبعد من ذلك حين قدمت بتاريخ 2 نونبر 2001 مقترحا إلى جيمس بيكر يقضي بتقسيم تراب وساكنة الصحراء. والمفارقة أن هذا المقترح تجاهل مبدأ تقرير المصيرالتي ما فتئت الجزائر تتشدق به.
وفيما بعد اقترح جيمس بيكر مخطط السلام الذي عرف بـ “مخطط بيكر الثاني”،وبعدها ” بيكر ثلاثة” أو ما يسمى ” الحل الثالث”، ونظرا للخلافات العميقة بين الأطراف حول مخططات بيكر، اعتبرها مجلس الأمن لاغية وتم سحبها كأساس للتفاوض حول هذا النزاع.وبعد استقالة جيمس بيكر في يونيو من سنة 2004 عين كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك ألفارو دي سوتو من أجل مواصلة العمل مع الأطراف بغية التوصل إلى حل سياسي توافقي، وبفعل رفض الجزائر للتعاون مع المبعوث الشخصي للأمين العام السيد ألفارو دي سوتو، عين الأمين العام مبعوثا جديدا هو بيتر فان والسوم.
وبالتالي، وعلى امتداد هذه المحطة التيشهدت فشل مخطط التسوية الاممية المتمثل في إجراء الاستفتاء، وتعيين ثلاثة مبعوثين للمنطقة بغيةايجاد حل سياسي متفاوض بشأنه، ظل المغرب في موقع المدافع يكتفي بردود الافعال، مما جعله يراكم الاخطاء التكتيكية والاستراتيجية التي يبقى أبرزها: القبول بالمفاوضات المباشرةمع البوليساريوبعد فشل تنظيم الاستفتاء، ما يعني الاعتراف ضمنيا بهذه المنظمة الانفصاليةوبأحقيتها في تمثيل الصحراويين، هذه الشرعية التفاوضية أعطت للبوليساريو ومن وراءها الجزائر فرصة ايجاد حلفاء ومناصرين جدد خاصة على المستوى الإفريقي، حيث خضعت هذه الرقعة الجغرافية بسبب النزاع إلى مجموعة من التجاذبات والتقاطبات، أدت إلى تشكيل محاور وأقطاب ساهمت بدورها في ترهل وضعف الموقف المغربي بفعل تمدد المحور المعادي للمغرب والذي يتشكل من الجزائر- جنوب افريقيا- نيجريا، مقابل المحور الثاني الذي يضم المغرب-السينغال-الكوت ديفوار.
عملت البوليساريو بمعية الجزائر على بلورة استراتيجية هجومية طيلة عقد ونصف ترتكز بالأساس على جر المغرب ودفعه إلى التفاوض حول مقترح وحيد تم وضعه بعناية وتسويقه كخيار وحيد بصيغة ومضمون وشكل منحرف عن المبادئ الكبرى التي أقرتها الامم المتحدة
محطة التحول، أو الانتقال من وضعية الدفاع والانكماش إلى وضعية الهجوم..
عملت البوليساريو بمعية الجزائر على بلورة استراتيجية هجومية طيلة عقد ونصف ترتكز بالأساس على جر المغرب ودفعه إلى التفاوض حول مقترح وحيد تم وضعه بعناية وتسويقه كخيار وحيد بصيغة ومضمون وشكل منحرف عن المبادئ الكبرى التي أقرتها الامم المتحدة، حتى أضحى مبدأ تقرير المصير في هذا النزاع يقترن بالاستفتاء المفضي إلى ” الانفصال”، في حين أن هناك أشكال أخرى لإقرار هذا المبدأ دون المساس بوحدة الدول، وبالتالي فالثغرة التي جعلت المغرب في وضعية المدافع، تتمثل أساسا في جلوسه إلى طاولة التفاوض بدون مرجعية يستند إليها، عكس الطرف الاخر الذي فرض مقترحه ليس على المغرب فقط بل على المنتظم الدولي.
ومن أجل تدارك هذا الاختلال الموجود على طاولة التفاوض،وفي سياق التفاعل مع دعوات مجلس من أجل إيجاد حل متفاوض عليه، قدمت المملكة المغربية بتاريخ 11 أبريل 2007 للأمين العام للأمم المتحدة المبـادرة المغـربيـة للتفـاوض بشـأن نظـام للحكـم الذاتـي لجهـة الصحـراء، حيث تعتبر هذه المبادرة نتاج مسلسل تشاوري موسع على المستوى الوطني والمحلي انخرطت فيه كافة الأحزاب السياسية والمواطنين والمنتخبين بالمنطقة، بهدف الوقوف على مختلف وجهات النظر المتعلقة بصياغة مشروع للحكم الذاتي في الصحراء. واستكمل هذا المسلسل بإجراء مشاورات على المستويين الإقليمي والدولي حول المبادرة المغربية من أجل الاطلاع على وجهات نظر البلدان المعنية والمهتمة بهذا النزاع الإقليمي.
لقد أشار القرار رقم 1783 الذي تبناه مجلس الأمن في أكتوبر 2007 إلى أن المبادرة المغربيةإيجابية.كما اعتبر القرار رقم 1754 الصادر في 30 أبريل من سنة 2007 عن مجلس الأمن نقطة تحول في مسار هذه القضية، حيث تمكن المغرب بواسطة هذا القرار من جعل الاطراف المؤثرة تقر بعدم وجود أية مرجعية في التفاوض،وتدعو الأطراف المعنية ودول المنطقة لمواصلة التعاون مع الأمم المتحدة ومع بعضها بعضا من أجل أيجاد حل سياسي متوافق حوله.
لقد جاءت المبادرة المغربية للتفاوض من أجل حكم ذاتي لجهة الصحراء بغية تحقيق هدفين أساسيين، الاول، تجاوز ” نقطة الصفر” بعد نجاح الخصوم في إعادة الملف إلى مراحله الاولى(مسار المفاوضات الذي انطلق خلال قمة نيروبي سنة 1982)، أما الثاني، فهو تقوية موقعه التفاوضي واعتبار مقترح الحكم الذاتي بمثابة المرجعية والسقف.
محطةالالتفاف:مسار المفاوضات من الجمود والتعثر إلــى الانحراف..
بالعودة إلى كرونولوجيا المفاوضات بين المغرب وجبهة البوليساريو، يلاحظ أنها لم تراوح مكانها بفعل تباعد الآراء والمواقف بين الطرفين،وفي هذا الاطار أصدر مجلس الامنالقرار رقم 1754، يدعو من خلاله الأطراف ودول المنطقة لجولتي التفاوض، حيث انعقدت الأولى والثانية على التوالي في 18 و 19 يونيو وفي 10 و 11 غشت 2007 بمانهاست، وفي هذا السياق،وبعد سلسلة من الاتصالات مع كافة الأطراف أوضحالمبعوث الخاص للأمين العام، فان والسوم، أمام مجلس الأمن بتاريخ 21 أبريل 2008 أن ” استقلال الصحراء الغربية ليس خيارا واقعيا وهدف لا يكمن تحقيقه”، توصية تبناها مجلس الامن في قراره رقم 1813، حيث أكدعلى دعمه للجهود التي يبذلها الأمين العام ومبعوثه الشخصي، ودعا الأطراف إلى مفاوضات مكثفة وجوهرية والتحلي بالواقعية، الامر الذي دفع كلا من الجزائر والبوليساريو إلى رفض وساطة المبعوث الأممي، مما عجلبنهاية مهمة فان والسوم، وتم تعين كريستوفر روس مبعوثا شخصيا جديدا.
وعند محاولة تحليل مضمون المفاوضات غير الرسميةالتي تمت برعاية روسخاصة الجولة السابعة في مانهاست يومي 7 و 8 يونيو2011، والجولة التاسعة التي عقدت كذلك في مانهاست بين 11 و 13 مارس 2012، يلاحظ أن هناك عدة محاولاتللالتفاف والانحراف على مسار المفاوضات، من خلالإثارة مجموعة من النقاط التي ليست في صالح المغرب، والقفز وتجاوز المقترحات التي في صالحه، حتى أن المطلب المغربي الوحيد لم يتفاعل معه المبعوث الشخصي بشكل ايجابي، والمتعلقبتمكين المفوضية السامية لشؤون اللاجئين من تسجيل وإحصاء الصحراويين في مخيمات تندوف رغم قرار مجلس الامن رقم 1979 (2011) الداعي إلى تعداد السكان في مخيمات تندوف. في المقابل استدرج المغرب لمناقشة قضايا حساسة تمس سيادته على الصحراء،سواء فيما يخص حقوق الانسان بالصحراء، وتدبير الموارد الطبيعية تحت ذريعة “تدابير بناء الثقة”، ومحاولة الايقاع بالمغرب بشكل منهجي لمناقشة مقترحات غير مدرجة على طاولة المفاوضات غايتها رفع السقف وإقبار مقترح الحكم الذاتي من قبيل الدفعبدراسة مقترح الفيدرالية.
ورغمالممارسات والتصريحات والمبادرات التي قام بها المبعوث الشخصي وأسلوبه المنحاز، المخالف للمهمة الموكلة إليه من قبل الأمين العام للأمم المتحدة المضمنة في الرسالة تعيينه المؤرخة في يناير2009، فإن المغرب ترددفي مسألةسحب ثقته منكريستوفر روس، فعوض أن يضغط بقوة من أجل تغييره واستقدام شخصية تعمل وفق المسار الذي رسمه فان والسوم، أكتفى المغرب برفض مباشرة التفاوض، الأمر الذي جعله عرضة للانتقادات وهدفا للهجمات الصادة عن المسؤولين الامميين التيتحمله مسؤولية تعثر مسار المفاوضات، مما أدى إلى انتقال الصراع من المستوى الافقي(الجزائر والبوليساريو) إلى المستوى العمودي(الامم المتحدة)، حيث من هنا يمكن فهم التصريحات المستفزة التي أدلى بها الامين العام للأمم المتحدة، عندما خرج عن القاموس المعتمد في إدارة الملف ووصف المغرب ” بالمحتل”.
تعثراتملف الصحراء.. والسيناريوهات المحتملة
عند القيام بمراجعة تقييمية للمحطات الكبرى التي عرفها ملف النزاع حول الصحراء وخاصة خلال عقدين ونصف، أي مند وقف إطلاق النار إلى اليوم، وباستثناء المبادرة الوحيدة التي تقدم بها المغرب المتمثلة في مقترح الحكم الذاتي، يسجل أنه في الوقت الذيتخندق المغرب في موقع دفاعي، تمكنت الجزائر بواسطة البوليساريو من توجيه ضربات متنوعة عبر فترات مختلفة، وفتحت جبهات كثيرة على المغرب في هذا النزاع، فمن خلال جرد واستحضار كافة الازمات والتعثرات التي عرفها ملف الصحراء طيلة هذه المرحلة، يتضح جليا أن استراتيجية خصوم المغرب ارتكزت على ثلاثة مستويات رئيسية:
-على مستوى الهياكل الدولية، الامم المتحدة، خاصة داخل مجلس الامن، والبرلمان الاوربي، والمحكمة الاوربية وغيرها، حيث وضعت الدبلوماسية الجزائرية ملف الصحراء ضمن أولوياتها، ونزلت بثقلها وعملت على تجييش حلفاءها للاصطفاف حول المطالب الانفصالية لجبهة البوليساريو. كما خصصت فريقا متمرسا وعلى دراية كبيرة بخبايا الملف في سياق التحكم والمشاركة في القرارات التي تصدر عن هذه المنظمة الدولية والاخرى الموازية بخصوص هذا الملف، هذا بالإضافة إلى الاستعانة بلوبيات مختلفة للضغط على الدول الدائمة داخل مجلس الامن وكذلك التنظيمات الدولية والقارية.
من هنا يمكن فهم مخرجات الجمعية العامة ومجلس الامن والمحكمة الاوربية، خاصة القرارات التي ليست في صالح المغرب، ابتداء بعدم تطبيق مطلب إحصاء ساكنة تندوف وعدم مناقشة الوضع الانساني المزري والحقوقي المتدهور بالمخيمات، ومرورا بسحب الثقة من المبعوث الشخصي فان والسوم عندما أقر بعدم واقعية مطلب الانفصال، وتثبيت روس رغم سحب المغرب الثقة منه، وصولا إلى قرار المحكمة الاوربية الاخير القاضي بإلغاء المبادلات الفلاحية بين المغرب والاتحاد الاوربي، وكذلك الانزلاقات الاخيرة للأمين العام للأمم المتحدة واستعماله مصطلحات غير معتمدة في قاموس الامم المتحدة في تعاطيه مع الملف، بل الاخطر من ذلك سعيه لعقد مؤتمر دولي للمانحين لدعم قاطني مخيمات تندوف، وكأن المغرب هو المسؤول عن الوضع الذي يعيشونه مند أزيد من ثلاثة عقود، في الوقت الذي تقوم فيه الجزائر وقياديي الجبهة بالمتاجرة بالمساعدات الانسانية، وهي أمور موثقة لدى الامم المتحدة.
-على مستوى الداخلي، فاستراتيجية خصوم المغرب تقوم على محاولة زعزعة الجبهة الداخلية كما تسميها البوليساريو، والمقصود بها المناطق الصحراوية الخاضعة للسيادة المغربية، حيث يتم تحريك بعض الانفصاليين لإثارة البلبلة والفوضى، والدخول في اصطدامات مع السلطات، بغية تصوير وتسويق تلك المظاهرات على أنها انتفاضات ومطالب كافة الصحراويين بالانفصال عن المغرب. هذا التكتيك مستوحى من تجربة تيمور الشرقية، حيث ترى الجزائر أن الاضطرابات الداخلية ووجود بعض الضحايا والتضخيم الاعلامي للأحداث، يمكن أن يدفع المنتظم إلى المرور إلى الفصل السابع ويفرض حلا على المغرب، ومن أبرز الامثلة على ذلك، أحداث ما يعرف ب” أكديمإيزيك”.
-على مستوى المحاور الاقليمية والدولية، عملت الجزائر في حربها الدبلوماسية مع المغرب، على توظيف موادها المالية والطاقية، لمحاولة استقطاب وجر بعض القوى الاقليمية والقارية لصفها، من خلال دفعها إلى الاعتراف بما يسمى “الدولة الصحراوية”، بغاية تحقيقهدفين اثنين: ممارسة نوع من الضغط النفسي على المغرب وارباكه، ولتقوية ودعم الطرح الانفصالي من داخل وخارج منظمة الامم المتحدة. فبعد اعتراف جنوب افريقيا وما لذلك من تبعات وانعكاسات سلبية على مصالح المغرب بالقارة الافريقية، لازالت الجزائر تعمل على اقناع بعض الدول الوازنة بكل من أمريكا اللاتينية، والدول الإسكندنافية مثل ما وقع خلال الشهور الماضية مع السويد التي كانت على وشك الاعتراف بالبوليساريو.
وعلى ضوء ما سبق، وفي ظل التوترات الحالية التي تسببت فيها تصريحات بان كي مون، يتضح جليا أن مصير النزاع حول ملف الصحراء قد لا يخرج عن سيناريويهن اثنين، الاول، استمرار حالة الشد والجدب والاحتقان بين المغرب والجزائر، وتدخل القوى الدولية لتخفيف أجواء التوتر ودعوة الاطراف إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، سواء بإرضاء الطرفين ولو بشكل ظرفي، بالنسبة للمغرب من خلال تغير المبعوث الشخصي كرستوفر روس وتدخل مجلس الامن لطي صفحة الخلاف مع الامين العام عبر منح تطمينات للمملكةخاصة مع قرب انتهاء ولايته، أما بالنسبة للجزائر، فإرضائها يمر عبر الزيادة في المساعدات الانسانية التي تمكنها من امتصاص الاحتقان الشعبي الموجود بالمخيمات،من أجل كسب المزيد من الوقت في حزب الاستنزاف التي تخوضها مع المغرب، بعدما أصحبت عاجزة عن أداء التكاليف والمصاريف المرتبطة بصحراويي المخيمات، في ظل تراجع عائدات البترول التي كانت تعتمد عليها في تمويل الجبهات المفتوحة في هذا النزاع.
وبالتالي فالسيناريو الاول، يعني استمرار الوضع الحالي بشكل مفتوح على مزيد من الصراع الدبلوماسي والاقتصادي بين المغرب والجزائر، مع ابقاء القوى الكبرى على الوضع القانوني الحالي، أي إدراجه وفق المادة السادسة من ميثاق الامم المتحدة التي تقتضي البحث عن حل سلمي متفاوض بشأنه يرضي جميع الاطراف.
أما السيناريو الثاني،فهو إعطاء مهلة زمنية لأطراف النزاع من طرف مجلس الامن مع التلويح بإمكانية المرور إلى المادة السابعة التي تعني فرض حل بالقوة، وذلك قصد الضغطعلى طرفي الصراع من أجل تقديم تنازلات كيفما كان شكلها وسقفها. فرضية تغديها الاوضاع المزرية التي تعيش على إيقاعها المنطقة المغاربية سواء من خلال تمدد التيارات الجهادية على الجبهات الجزائرية والليبية وجنوب الصحراء، وكذلك الصراع حول النفوذ في المنطقة التي تخوضه القوى الكبرى في ظل تراجع النفوذ الامريكي والفرنسي خاصة روسيا والصين وألمانيا.
وبالرغم من ترجيح السيناريو الاول على الثاني، إلا أن الأخير يبقى قائما على الاقل في المدى المتوسط، وفي ظل التحولات المتسارعة التي تعرفها الساحة الدولية، ومحاولة الجزائر المتكررة لتصدير الازمة الداخلية التي تندر بالانفجار، لذلك فالمغرب مطالب بإجراءتقييم شامل للسياسات المتبعة في إدارة الصراع حول قضية الصحراء، بعدما ظلت لعقود ترتكز على المقاربة الدفاعية بدل الهجومية، وتعتمد على مقاربات اتسمت بالعشوائية وسوء التقدير وتفتقد إلى المبادرة(على مدى ما يقارب عقدين لم يقدم المغرب إلا مبادرة وحيدة وهي مبادرة الحكم الذاتي)، من أجل بلورة استراتيجية تقوم على التوقع والقدرة على إيجاد بدائل وحلول عملية وواقعية، فمثلا مطلب سحب الشق المدني من بعثة المينورسو، جاء متأخرا لسنوات، خاصة بعد إقرار الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره في 17 فبراير 2000 أنه لم يعد ممكنا تنفيذ أي من البنود الرئيسية لمخطط الأمم المتحدة، باستثناء مراقبة وقف إطلاق النار، وبالتالي فالمحاولات السابقة لتوسيع صلاحية المينورسو لتشمل حقوق الانسان، يعتبر مناورة من طرف الجزائر لشرعنة وجود المدنيين بالبعثة وخلط الاوراق بالمنطقة.
كما يجب التعاون كذلك بشكل براغماتي مع دول حوض الأبيض المتوسط خاصة في ملفات الهجرة والمخدرات ومكافحة الإرهاب، للضغط ولتحقيق مكاسب جوهرية في ملف الصحراء عوض الاكتفاء بتوظيف هذه الاوراق في نهجه الدفاعي. والعمل كذلك على توسيع دائرة الشركاء والتحالفات الاستراتيجية في المجالات الاقتصادية والتجارية، خاصة مع القوى العظمى المؤثرة في صناعة القرار الدولي.