“إذا كانت الحرب الكلامية تقي من حرب السنان فلا بأس”

لاجئ سوري

ما يبدو من توتر ولبس وبؤس أحيانا على الساحة السياسية في بلدنا ونحن على مشارف انتخابات 7 أكتوبر يعتبر أمرا مشوشا ومزعجا. وهو توتر متعدد المظاهر والأفعال الشاذة من تهافت على التزكيات وتغيير الانتماء والحرب الكلامية، إلى غير ذلك من  أساليب الاحتراف السياسي غير الأخلاقي أحيانا والذي لا يفسر مظهريا إلا بالتهافت على توزيع الغنائم وقراءة السياسة قراءة منفعية تقتات من ثقافة الجاه والريع وفرض الأم في العرس بأي ثمن. أما عمقا فهو تعبير عن خواف عميق متجذر في العقلية السياسية المغربية، خواف من فقدان الامتياز والعودة إلى صفوف الرعاع. وهو خواف تزكيه الأحداث الدولية الجهوية من جهة والعولمة الحقوقية من جهة ثانية وتحولات اجتماعية داخلية من جهة ثالثة.

ما حدث في الدول العربية منذ الربيع العربي، وما زال يحدث لا يمكن اعتباره إلا زلزالا حرك كثيرا من الثوابت القيمية والسياسية والإدراكية. وهو زلزال لم تتضح   معالمه بعد ولا آثاره بما فيه الكفاية، لكن تكلفته الأمنية التي وصلت إلى حدود الفواجع الأسطورية في مستواها الأقصى جعلت البعد النفسي يطغى على فهم التجربة برمتها. الأمر الذي يصيب الذات بالانزواء والرضى بالسلامة تجاه العنف الهمجي الذي لا مبرر له سوى خدمة أجندة شيطانية تقبض الخيوط من بعيد. وما كان ليتأتى لها ذلك لولا أرضية هشة من الخندقة العقدية العتيقة ظننا نحن جيل السبعينات أنها ليست سوى زبدا سيذهب جفاء ليبقى في الأرض ما ينفعها من زرع قيم الحرية والإنسانية وحقوق الإنسان والمواطنة والمنافسة الشريفة على مشاريع قابلة للإنجاز والتقويم والمحاسبة، لكن شيئا ما في عمق الذهنيات رسخ ما اعتبرناه ثانويا رثا وهمش وسائل التقدم والمدنية إلى حين.

هذه الخلفية المأساوية لا يمكن إلا أن تخلق عندنا كأقصى ما تصل إليه الموجات جغرافيا توترا على شكل تلك الهزات الارتدادية التي تتبع الزلازل بعيدا عن المركز. وعندما نتبع مصادر الأمواج وما يقع هناك من أهوال تهون المسرحيات السياسية عندنا ونقول لا بأس. 

التوتر الحاصل عندنا إذا حرب نفضل أن تكون كلامية على أن تشبه ما يحدث عند الجيران. أما العولمة الحقوقية فقد أطلقت عنانها التقنية وأصبح بمقدور الإعلام الاجتماعي أن يلاحظ ويقارن وينشر أفكارا كانت تأخذ عقودا بالكتب والمجلات الورقية وأصبحت لا تستغرق سوى أياما وربما ساعات ودقائق. وعلى أصحاب القرار تتبع سيل المعلومات والأفكار وأشكال الاحتجاج التي تتحضر كل حين، كما عليها فهمها واستيعابها وتفهمها، كما عليها تدبرها ولو من بعيد مع ضرورة الإنصات لنبض الحرية الكوني وحقوق الإنسان .

ما يحدث في المغرب إذا جد مخفف إذا ما قورن بما يحدث في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، ويشبه أحيانا وبتفاؤل شديد نوعا من الركود السياسي الذي تشهده بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا خاصة.

هذا هو الإطار العام والمحيط للمشهد، لكن الذي يهم السوسيولوجيا هو الكشف عن القاع الذي يدفع إلى السلوكات، إنه البحث في التفيء الاجتماعي ابتداء من التحول الديمغرافي ومزاحمة الشباب للكهول، والنساء للذكور، والمجتمع المدني والحقوقي خاصة للتقاليد السياسية المبنية على الولاء وتوزيع النعم.  

الذي يهم السوسيولوجيا هو الكشف عن القاع الذي يدفع إلى السلوكات، إنه البحث في التفيء الاجتماعي ابتداء من التحول الديمغرافي ومزاحمة الشباب للكهول، والنساء للذكور، والمجتمع المدني والحقوقي خاصة للتقاليد السياسية المبنية على الولاء وتوزيع النعم

سوسيولوجيا يحق لنا أن نحاول ملاحظة ورصد وفهم القوى السياسية الفاعلة المتقاطبة المركزية والمساعدة والهامشية، ثلاث أفعال سياسية لابد من ضبطها لفهم ما يجري. 

أما التقاطب الأول فيبدو في مظهره عل شكل صراع القديم مع الجديد أو صراع القيم التقليدية، والدينية خاصة مع القيم الحداثية التي تستقي مرجعيتها من القيم الإنسانية الكونية. ويتم الصراع طبعا نحو الوصول إلى الحكم المحلي والمركزي من أجل تنزيل الرؤى وتنفيذها على المستوى الواقعي …وإذا كان هذا الصراع يبدو جديا وايديولوجيا وحول تيمات مصيرية مثل الحريات الشخصية والفردية، سواء في الاعتقاد أو السلوك، ووضع المرأة كإنسان كامل الإنسية يقرر مصير حياته وجسده ويضمن حقوقه المدنية والأسرية، ثم المشروع السياسي برمته من تقاطب تصور الخلافة وتصور الدولة المدنية… إذا كان مثل هذا التقاطب بمثل هذا العمق في تناول المسائل المصيرية للبلد مشروعا بل ومستحبا فإن الأسلوب الهش والبرجماتي والحوار السجالي الفج حوله يفضي إلى تقاطب هزيل بين الحكومة والمعارضة فيما أنجز وما لم ينجز، بل وأكثر من ذلك في الانزلاق نحو العمل على الاستقطاب الفج وبأي ثمن لكسب مقعد في البرلمان يبؤ الصدارة نحو السلطة الفعلية والتي تختصر في التنفيذ دون استحضار أي نقاش عميق حول السلط الأخرى التي لا تقل قيمة سواء على مستوى العدالة والإنصاف وزرع الثقة وبناء مناخ الانتماء، أم على مستوى التشريع كأعلى تعاقد لمصالح الناس أم على مستوى المدرسة والإعلام كمجالات التربية والتهذيب والتكوين حتى يرتقي الفعل السياسي والحياتي نحو مزيد من المدنية وروح العصر. 

اجتماعيا ما هي الفئات الممثلة لطرفي التقاطب؟ رغم صعوبة الجواب الدقيق عن السؤال والحاجة إلى أبحاث ميدانية، دقيقة فإن الذي يجمع بين الطرفين فيما يبدو هو الإحباط بجميع معانيه. الإحباط لدى الفئات اليسارية التي لم تنصفها حكومات الأحزاب الوطنية، ولدى الأعيان الذين لم يأخذوا حصتهم من الكعكة وينتظرون، ثم الإحباط لدى المثقفين التقليدويين تجاه الفرنكفونية والثقافة العصرية بلغتهم…أما الفئات العمرية ففي غالب الأحيان كهول ينظرون إلى الحياة تنقضي شيئا فشيئا أمام أعينهم ويتشبثون بالتلابيب، أما النساء والشباب فتزيين للوحة حتى تأخذ صورة الجدة والطراوة.   

في فلك هذا التقاطب الكبير تسكن الأحزاب الوطنية، ويا لسخرية القدر، تنتظر الفائز لتصنف هنا أوهناك، رغم نوع من المساهمة في النقاش التي تبدو قيمة وجريئة أحيانا على صفحات الجرائد بأقلام محترمة لا يمكن بخس مساهماتها … ماذا تمثله هذه الأحزاب الآن وقد انقرضت البورجوازية الوطنية أمام العولمة والمقاولات العملاقة، كما أن البورجوازية الصغرى تآكلت بالبلترة وصعود فئات جديدة من التقنوقراط بعيدة كل البعد عن أي عضوية بالعامل والفلاح والطالب، ثم أين العامل نفسه وقد فهمت المقاولة استبداله بمأجوري مقاولات المناولة … هذا ما يفسر تآكل أحزاب عتيدة مثل الاستقلال والإتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية والإتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل لتفسح المجال لأندية مهما بدت هشة إيديولوجيا فهي غالبا محكمة التنظيم وواضحة الرؤية في فهم السياسة تبادل المنافع فحسب.

أما التقاطب الثالث والهامشي فهو تمامي يتمحور بين الرافض للعبة كلها أو التردد تجاهها، وبين قبولها كلية بالعبودية الطوعية والدعاء للغالب. وهي فئات الحنين الأرثودوكسي يمينا ويسارا دون خلوه أحيانا من ومضات لامعة تستقي وهجها من البداهة وعدالة أهل الحق والذكاء الأكاديمي…

هكذا تتضح العتمة وتنبئ على أننا نعيش مرحلة تحول كبيرة فهمت الدولة القوية بحنكتها الأمنية صعوبتها وتركت هوامش للمناورة الكلامية، دون ترك الأمور للصدفة والأهواء…

 غير أن عدم الإنصات لهموم أكثر عمقا وبعدا عن السياسة الاحترافية وقربا من السياسة التدبيرية مثل المدرسة والمستشفى والسكن والشغل وضرورة التضحية بالبحبوحة من أجل حد أدنى من التوازن يمكن أن يفرغ المجهودات من المحتوى، وهو ما لا يتمناه عاقل..