من أجل جبهة موحدة ضد ترامب الفاشي
خرج الملايين من المتظاهرين إلى شوارع واشنطن ونيويورك وكذا المئات من المدن الأمريكية والعالمية بعد تتبعهم لخطاب تنصيب ترامب القومي العنيف، ذي النبرة الفاشية. وحسب المتخصصين[1]، فالحدث تاريخي غير مسبوق في الولايات المتحدة، إذ تجاوز عدد المحتجين، يوم السبت الماضي، ثلاثة أضعاف المشاركين في حفل التنصيب الرسمي، فيما انحدرت نسبة دعم ترامب إلى 32 بالمائة، حسب استطلاعات الرأي.
آراء أخرى
وفي الوقت الذي تبنى فيه ترامب شعار 1940، الموالي للفاشية الانعزالية “أمريكا أولا“، احتضنت المسيرة النسائية الأخيرة حشوداً غير مسبوقة للتأكيد على التضامن بين جميع المظلومين من نساء، وعمال مستَغلين، وأقليات عرقية ودينية وجنسية، وضحايا مدنيين للحروب الإمبريالية الأمريكية. مما جعل “ترامب مُوحِّدا عظيما“، على حدّ تعبير المخرج “مايكل مور“.
وتجمعت هذه الحشود المختلفة، والموحدة بإحكام، على خلفية مبادرة أطلقت على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك“، من طرف مجموعة نساء مجهولات الهوية. لقد اتفق الجميع، لمواجهة هذا الخطاب العنصري المعادي للنساء، الذي قيل على لسان ترامب علنا، على أن اضطهاد المرأة هو أساس كل اضطهاد. وعلى خلفية ذلك، شاهدنا العديد من الشباب يشاركون لأول مرة في مظاهرة، جنبا إلى جنب مع كل الذين شاركوا في جميع المظاهرات، منذ حرب فيتنام ومارتن لوثر كينغ.
وناشدت جميع الخطب واللافتات بالتضامن المتبادل بين الحركات الاجتماعية، مع التمسك بالمطالب الخاصة بكل مجموعة. وكان توجه الجماهير المحتشدة يميل بشكل واضح نحو التعبئة للنضالات المقبلة، ولم تعد هناك إشارات ولو قليلة إلى كارثة انتخابات 2016، حتى أنه لا أحد تقريبا ذكر اسم كلينتون.
إننا نستشعر ظهور حركة مقاومة موحدة في مواجهة حكومة تُبيّن بشكل واضح جدا عزمها على سحب كل المكاسب الاجتماعية التي تم انتزاعها خلال النصف الثاني من القرن الماضي؛ كتحرر المرأة (حقوق الإجهاض)، وتحرر السود (التصويت)، وتحرر العمال (الحقوق النقابية)، وحرية التعبير والصحافة وتكوين الجمعيات، والضمان الاجتماعي (المعاشات التقاعدية والصحة)، والحريات المدنية لجميع الأقليات المضطهدة. “إننا نرفض العودة إلى زمن الخمسينات“، كما طالبت بذلك العديد من اللافتات.
تنامي المقاومة الشعبية ضد ترامب
كيف تم تنظيم هذا الحدث النضالي الموحد والضخم؟ لقد بدأت المقاومة الشعبية ضد دونالد ترامب منذ مساء نتائج انتخابات 8 نونبر غير المتوقعة، التي دفعت بعشرات الآلاف من الأمريكيين (معظمهم من النساء) إلى النزول عفويا إلى شوارع المدن الكبرى هاتفين ترامب “ليس رئيسنا!”. وفي اليوم التالي، نظم الطلاب مئات الإضرابات العفوية في أمكنة مختلفة، تاركين مقعد مدارسهم للاحتجاج في الشارع.
لقد تنامت موجة من الاستياء من لا شعبية ترامب، وتعمقت في الأيام التالية عندما علمت الجماهير بأن الرئيس المنتخب تم هزمه بما يقارب ثلاثة ملايين صوت، وأنه استغل تلاعبات لصالحه. فقد دعا كاتب الافتتاحيات الأسبوعية التقدمية المحترمة “دو نايشن” (The Nation) إلى “عصيان مدني سلمي شامل ويومي، بشكل لم يشهد له مثيل في هذا البلد منذ عقود[2]“.
وفي التاسع من نونبر الماضي، في منطقة هاواي، قامت متقاعدة أمريكية مصعوقة من الكُره الذي أبداه ترامب اتجاه النساء، بالدعوة على “الفيسبوك” للتظاهر في واشنطن لمعارضة ترشيحه. وفي ليلة واحدة فقط، انضم إليها الآلاف من الناس، وبعد يومين، وعلى بُعد آلاف الكيلومترات أطلقت امرأة أخرى، في نيويورك، نفس الفكرة رفقة ثلاثة ناشطات (من بينهن فلسطينية) بهدف تنظيم مسيرة كبيرة للنساء في واشنطن ضد الرئيس المحتقر للنساء. وسرعان ما انضم إليها الملايين منهن، وما يقرب من 200 منظمة، نجحت، بالرغم من صراعات الهوية، في توحيد النضالات وتحقيق هذا الإنجاز التنظيمي الوطني.
في ذات السياق، نُظِّمت مسيرات مماثلة في عدة مدن أمريكية، وأخرى حول العالم – بفضل شبكة الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية مرة أخرى، التي أتاحلت للأفراد التغلب على العزلة الجغرافية، والتواصل مباشرة. ودفع استمرار الشك حول نتائج الانتخابات بالمناضلين إلى محاولة الحصول على إعادة فرز الأصوات في ثلاث ولايات رئيسية، التي تقرر فيها مصير الأمة عبر بضعة آلاف من الأصوات.
من ناحية أخرى، حاولت نُخب الحزبين المسؤولين عن هذه الكارثة المعادية للديمقراطية، توحيد الصفوف أمام الطعن في شرعية “ثنائية الاحتكار” السياسي. هكذا قام أوباما، مبتسماً، بدعوة ترامب للبيت الأبيض ليؤكد له قائلاً: ”سنعمل كل ما في جهدنا لنساعدكم على النجاح، لأن نجاحكم هو نجاح البلاد“. وكانت محاولة لتهدئة الأوضاع[3]، والتطبيع مع الأمر، وتبخيس الضرر. إلا أن دونالد رفض أن يلعب اللعبة، إذ واصل إهانة الرأي العام بتغريداته (مليوني صوت مزور لصالح كلينتون) وكرر هجماته ضد منتقديه (بمن فيهم “ميريل ستريب“، و“نيل يونغ“، و“وبي غولدبرغ“، و“صامويل جاكسون” والممثل الكوميدي “جون أوليفر“).
استوعبت الحركات الاجتماعية المنظمة ذاتيا، التي تميز المشهد السياسي الأمريكي، خطورة الوضع الجديد. واستوعبت أن جميع مراكز الحكم الثلاثة ستكون الآن في أيدي اليمين الجمهوري الرجعي والقوميين البيض. وأمام هذا الخطر الواضح، بدأت في التقارب ووضع الانقسامات الهوياتية جانبا، من أجل التحضير لنضال طويل من أجل البقاء.
سنعمل على تلخيص الوضع:
● كما رأينا للتو، فإن الدعوة إلى المسيرة النسائية، فتحت الباب، لتلتحق بها الحركات المتضامنة.
● لقد تبلورت المقاومة الشرسة والصلبة لهنود “ستاندين روك” وحلفائهم ضد النفطيين وشرطتهم، كطليعة وهو ما جلب انتصاراً، ولو بشكل مؤقت.
● في الوقت الذي تصاعدت فيه الاعتداءات ضد الأقليات في الشوارع، واستمر قتلة السود في الإفلات من العقاب، عقب الانتصار الانتخابي لترامب، توسعت المقاومة بين صفوف الحركات المناهضة للعنصرية، مثل “بلاك لايف ماتر” (#BlackLivesMatter) المدعومة من طرف المدافعين عن حقوق الأقليات، وكنائس السود والجمعيات الثقافية. لقد قامت جميعها بالتعبئة للدفاع عن مكاسب سنوات “مالكوم إكس” ومارتن لوثر كينغ، وعملت على التقرب من حلفائها. نفس رد الفعل جرى في مجتمع الأقليات الجنسية (LGBT وآخرون).
● بدأت الملايين من عائلات المهاجرين، ذات الأصول اللاتينية على الخصوص، والمضطهدة من قبل أوباما (مليوني مُرحّل والآلاف من النساء والأطفال المحتجزين في سجون خاصة)، في الاستعداد للصراعات القادمة. بحس تضامني وفّرت لهم بعض الكنائس والمدن والمناطق “الملاجئ“، ورفضت التعاون مع القوات الاتحادية عند وجود محاولات للترحيل.
● أما الحركة العمالية، التي وقعت ضحية إغراء وعود ترامب لخلق فرص العمل في البنية التحتية (المباني والجسور والطرق) وتعزيز العمل “الأمريكي” (أي الأبيض)، فقد بدأت تواجه الواقع المر الآن، بعدما راحت ضحية عملية احتيال[4]. أمام تراجع التأييد الشعبي للرئيس المنتخب إلى 32٪ (وفقا لاستطلاعات الرأي)، اقتربت الحركة من هشاشة الأقليات التي يتم استغلالها بأجور هزيلة، مُطالبة بالحد الأدنى للأجور بمعدل 15 دولار للساعة.
● العديد من الفنانين ومن والممثلين والموسيقيين والكتاب – نساء ورجالا – يغتنمون كل فرصة سانحة لإعلان مقاومتهم، باسم التضامن الإنساني وحرية التعبير، رافضين بالإجماع تقريبا دعوات المشاركة في حفلات التنصيب، التي تقلصت بالأمس لصالح فنانين “الكونتري” والأغاني الوطنية وعروض “مزمار القربة“.
● بينما تستمر نخب الديمقراطيين في الدفاع عن خيارها الكارثي لمرشحة نُخبوية لا شعبية، يواصل عضو مجلس الشيوخ المستقل “بيرني ساندرز” حملته الاشتراكية الديمقراطية. وفي نفس الوقت تحاول طليعة تقدمية داخل الحزب الديمقراطي، أخذ زمام المبادرة واقتراح زعيم شاب أسود ومسلم، هو “كيث اليسون“، نائب مينيسوتا.
● وأخيرا، على الساحلين، أبدت السلطات في العديد من المدن والمناطق والولايات مقاومتها. فقد وعد رؤساء البلديات والمحافظات وأعضاء البرلمان بالدفاع عن مواطنيهم ضد تراجعات حكومة ترامب، وذلك عن طريق رفض أي تعاون مع السلطات الاتحادية. فعلى سبيل المثال، أقدمت كاليفورنيا، التي تعادل بلد فرنسا من حيث الثروة والسكان والأراضي، والمفتخرة بنظامها الخاص بحماية البيئة، على سن قوانين تمنع التدخل الفيدرالي. كما أكدت أيضا أنها ستقوم بالدفاع القانوني عن المهاجرين الذين اعتقلوا من طرف الحكومة الاتحادية، في الوقت الذي يقوم فيه الإداريون في جميع المستويات بتشجيع موظفيهم على إفشال كل التوجيهات الضارة القادمة من واشنطن[5].
من أجل بناء جبهة قاعدية موحدة
هكذا، ومن أسبوع لآخر، تتقوى وتتوحد المقاومة. الكل يتّحِد ويتضامن مع الفئات المستهدفة الأخرى، نساء، وسكان أصليون، ومهاجرون، وسود، وعمال فقراء، ومناهضو العسكرة، ونشطاء حقوق الإنسان، وطلاب، وأقليات عرقية وجنسية ودينية (خاصة من المسلمين)، لكن مع الحفاظ على مطالبهم الفئوية. إنها جبهة موحدة حقيقية ضد الفاشية تبنى من القاعدة من طرف الحركات الاجتماعية.
وتحظى هذه المقاومة المستقلة بميزة كبيرة، هي أنها لا تنتسب لأي حزب سياسي،لأن نقطة الضعف الرئيسية للاحتجاجات الكبيرة في الماضي القريب – كالحركات المناهضة للأسلحة النووية، والحركات النسوية، وحركات مكافحة العنصرية – كانت دائما تجد نفسها في أسْر الحزب الديمقراطي، الذي يُغري قادتها ويضُمُّهم إليه. الديمقراطيون اليوم فقدوا تماماً مصداقيتهم، أمّا كلينتون فقد دمّرت نفسها وتوارت عن الأنظار.
حاول أوباما، في اللحظة الأخيرة، انقاذ إرثه من خلال إسقاط التهم عن الشباب المبلغ عن “تشيلسي مانينغ“. ولكن لا أحد نسى أن أوباما اعتقل الصحافيين أكثر من جميع الرؤساء الآخرين. كما أنه سهّل المهمة على ترامب، الذي أعلن مُسبقاً الحرب على حرية الصحافة. وأشاد أوباما في خطابه وداعه المؤثِّر، بمساهمة المهاجرين في البلاد. هكذا حاول “الرئيس الطارد” تخليص نفسه والتموقع كمتحدث باسم المعارضة في واشنطن. قد يقول عنه ترامب أنه “مثير للشفقة“. وحده الاشتراكي “بيرني ساندرز“، عضو مجلس الشيوخ المستقل من ولاية فيرمونت (ليس من الحزب الديمقراطي) خرج مرفوع الرأس من انتخابات 2016. الكل مُعجب به، لكنه قابع وحده في معسكره.
أية آفاق؟
الاحتجاجات الجماهيرية الرائعة للواحد والعشرين من يناير تمثل معارضة واسعة لحكم رئيس مستبد قومي عنصري فاشي، على رأس حكومة من الرجعيين الأغنياء يسعون إلى سحب كل التقدم الاجتماعي المحقق خلال السنوات الخمسين الماضية. إذا عمّت روح هذه الاحتجاجات وتقوّت وحدة الحركة وتم تعميق هذا التضامن وتنظيمه، فإن هذه المقاومة ستصبح تاريخية. ولكن من أي المنظور؟ من الواضح أن ممثلي مختلف الحركات التي تحدّثتْ يوم 21 يناير تنوي المرور من الدفاع إلى الهجوم. هكذا كتب الناقد الفني جون بيرجر قائلا:
“من الناحية النظرية، تُبرِز هذه المظاهرات قوة الرأي و الشعور العام، إذ تناشد الضمير الديمقراطي للدولة. لكن فرصة وجود هذا الوعي ضئيلة. تعتبر الاحتجاجات، في الواقع، بمثابة تداريب من أجل الثورة. ليست بتداريب استراتيجية ولا تكتيكية، وإنما تداريب للوعي الثوري. يمكن أن يكون الوقت بين التداريب والعرض الحقيقي طويلا جدا، إلا أن أي مظاهرة تفتقر إلى عنصر التكرار هذا، توصف أكثر بكونها عرض عمومي يحظى بالدعم الرسمي[6].
طبيعة وتكوين خطة ترامب
كما رأينا، فالمقاومة الشعبية التي اندلعت يوم 21 يناير، كانت تتهيأ منذ فترة طويلة. لديها الكثير لتفعله أمام المعارضين البروتو– فاشيين الواقفين خلف ترامب، الذين لا يرحمون. إن ما أثار الخوف والغضب لدى الملايين من الأميركيين، هو الطابع المذهل للوزراء الذين عينهم الرئيس المنتخب، من برجه في الجادة الخامسة، لقيادة وزارات حكومته.
في الواقع، إن الرئيس التنفيذي ونجم برنامج تلفزيون الواقع “المبتدئ“، جمع حوله حفنة من المتطرفين تتألف من أصحاب المليارات (من بينهم أربعة شركاء لـ “غولدمان ساكس“)، ومنهم من لا يملك أية خِبرةٍ حكومية. بالإضافة إلى ذلك، هناك أربعة جنرالات (وهذا رقم قياسي) وأصدقاؤه وأفراد عائلته (والشركات العائلية التي يرفض ترامب الكشف عن مدى توسعها الدولي). إنها أغنى حكومة في تاريخ الولايات المتحدة، وكلها مشكلة من البيض.
من الواضح إذن أنها قطيعة مع الوضع الراهن لليبرالية العالمية الجديدة لعهد كلينتون وبوش وأوباما والاتحاد الأوروبي. إننا ندخل اليوم عصر “المحسوبية الرأسمالية” القومية والسلطوية. ما المحسوبية الرأسمالية؟ خلافا للإجماع الرأسمالي “الديمقراطي” حول حكومة برلمانية، يتعلق الأمر بسلطة استبدادية لزعيم مؤثر يحيط به “أصدقاء” – مفضلين وزبناء، تربطهم بـ“رب العمل” علاقات مالية ومصالح شخصية تتجاوز مصالح الأمة.
نعرف منها مُسبقاً بعض الأصناف الآسيوية في أندونيسيا وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية والفلبين. وبالمناسبة فترامب يُظهِر علنا تعاطفه مع الرئيس الفلبيني “دوتيرتي“، الذي يدير شخصيا “كتائب موت” قتلت مؤخرا عدة آلاف من المواطنين يشتبه في أنهم من مدمني المخدرات. كما لا يجب أن ننسى تركيا ومصر والبرازيل. إنها أنظمة سلطوية وشعبوية وقومية وعنصرية ودينية مرتشية. هناك أيضا أصناف أوروبية كبولندا، وهنغاريا، وأوكرانيا، وروسيا. ستكون هناك أنظمة من أوروبا الغربية إن نجحت الأحزاب اليمينية في الاستيلاء على السلطة في النمسا وهولندا وفرنسا.
هل يمكننا الحديث منذ اليوم عن “محور شر” جديد، وطني–رأسمالي مع الثلاثي، بوتين ولوبان تحت قيادة ترامب؟ إن الوقت مبكر لتأكيد ذلك، لأن أعضاء الحكومات الثلاثية تميل دائما للقتال فيما بينها، ومع أنظمة أخرى وطنية–رأسمالية، كالصين على سبيل المثال. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يستنتج أن الأمر لم يعد يتعلق اليوم فقط بـ “إجماع واشنطن“، المتألف من الدول المتقدمة الرأسمالية الليبرالية الجديدة المنخرطة معاً في العولمة من خلال المعاهدات الدولية.
ولكن لا يجب أن ننسى أننا لا نزال إزاء الرأسمالية، ويجب على اليساريين، الذين لم ينددوا سوى ب “الليبرالية الجديدة“، أن يعيدوا التفكير بجدية في نظرياتهم.
من الواضح أن رأسمالية القومية والمحسوبية الاستبدادية هذه، يمكن أن تتحول بسهولة إلى الفاشية، من خلال هذه الأزمة التي خلقها زعيمها ترامب على سبيل المثال، لم نصل إلى هذا المستوى بعد. لعل الجبهة الموحدة الجديدة للمقاومة تهدف بالضبط إلى قطع الطريق على مثل هذا السيناريو. إن ما يفتقر إليه اليوم نظام ترامب الشعبوي، هو حركة شعبية قاعدية عدوانية ومنظمة بالتعاون مع الشرطة الرسمية، قادرة على تخويف المعارضين والحركات الاجتماعية. دعونا نُعدّ أنفسنا، على كل حال!
حكومة شرِسة تريد التراجع إلى الوراء
للعودة إلى تركيبة نظام المحسوبية الرأسمالي، إليكم القاسم المشترك الآخر لهذه الحكومة الجديدة الغنية البيضاء والرجعية: جُل الأصدقاء الوزراء تقريبا هم أعداء معلنون للمهام الرسمية لوزاراتهم. إن مهمتهم الحقيقية هي تفكيك الوظائف المفيدة “للحكومة” (كلمة تحقيرية باللغة الجمهورية) من أجل الاحتفاظ لهم بالدولة فقط (جهاز القمع). لنبدأ ب “بيتسي دي فوس“، المقترحة لمنصب وزيرة التربية والتعليم.
● دي فوس، وريثة المليونير “أمواي“، شقيق المرتزق “إريك برنس“، الرئيس التنفيذي لشركة “بلاك ووتر“. مسيحية يمينية، تريد بكل بساطة خوصصة المدرسة العمومية، فقد قامت منذ مدة طويلة بحملة لفائدة “المدارس المستأجرة” (مدارس خاصة تستفيد من منح وفصول في المدارس العمومية) واستثمرت الملايين في سلسلة من المدارس ذات أهداف ربحية.
● تم تعيين “سكوت برويت“، حاكم الولاية النفطية أوكلاهوما، على رأس وكالة حماية البيئة، وهو المتابع أزيد من خمسين مرة أمام العدالة، بصفته ممثلا سياسياً للمصالح النفطية. كما أنه ينفي دور البشر في ظاهرة الاحتباس الحراري.
● تم تعيين “ريك بيري“، حاكم تكساس السابق، على رأس وزارة الطاقة، والذي سبق وطالب بإلغائها. بالنسبة له فإجماع العلماء حول المناخ ليس سوى “فوضى من الأكاذيب والتلاعبات“.
● في الشؤون الخارجية، فقد عيّن ترامب “ريكس تيلرسون“، “ملك” النفط والرئيس التنفيذي لشركة “اكسون موبيل“، المفتقر إلى أدنى تجربة حكومية. يعتبر تيلرسون أحد المُقربين من بوتين، حيث قاد شخصيا ولمدة طويلة، العلاقات التجارية لاكسون موبيل مع روسيا، بما فيها مجموعة شركات للاستغلال الثنائي لجميع حقول المنطقة القطبية الشمالية، التي واصلت أنشطتها بعد غزو أوكرانيا على الرغم من العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد روسيا. ألا يعد هذا تضاربا للمصالح؟
● أما في المالية، فنجد “جولدمان ساكس“، البنكي النّصاب، الذي “نسي” التصريح بمائة مليون دولار من الأرباح لفائدة لجنة مجلس الشيوخ، ناهيك عن دوره كمدير لصندوق استثماري بإحدى الملاذات الضريبية.
● وفي التجارة، هناك “ملك الإفلاس“، المُضارب “ويلبر روس“، المتخصص في إعادة شراء المِلكيات الصغيرة المدمّرة خلال أزمة “الرهن العقاري” في مرحلة ما بعد عام 2008.
● وأخيرا، يقترح ترامب “جيف سيشنز“، عضو مجلس شيوخ من ولاية ألاباما، المعروف منذ زمن بعيد بعنصريته الرجعية، كوزير للعدل. على الأقل هذا الأخير لا تنقصه الخبرة القضائية، فهو مدعي عام سابق لولاية ألاباما، بل وتم اقتراحه في محكمة جنوب ألاباما عام 1986 – وهو أمر نادر – إلا أنه تم رفضه من قبل مجلس الشيوخ (معظم أعضائه من الحزب الجمهوري) بعد شهادة زملائه حول العديد من تصريحاته العنصرية في العمل. عندما انتخِب عضواً في مجلس الشيوخ، صوت “سيشنز” ضد كل قوانين حماية الحقوق المدنية للسود والمهاجرين والنساء والأقليات الجنسية. وصرّح خلالها أنه يعتبر كل من “الرابطة الوطنية للسّود بأمريكا[7]” و“الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية“، المدافعين القانونيين عن حقوق السود والحريات المدنية، بأنهما “غير أمريكيين” بل و“شيوعيين“.
على اعتبار أن الظلم العنصري يُعد بمثابة المشكلة الرئيسية للحضارة الأمريكية، كان آخر تعيين في حكومة ترامب كصب البنزين على النّار.
وبمناسبة جلسة استماع أمام اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ – شيء لم يسبق له مثيل في مبنى “الكابيتول” – جاء “جون لويس“، النائب القديم المنتخب 14 مرة في جورجيا، والناشط في مجال الحقوق المدنية للسود، الذي يُقارَن أحياناً بمارتن لوثر كينغ، للادلاء بشهادته، وهو الذي أصيب بجروح خطيرة من قبل الشرطة ألاباما أثناء مسيرة نحو “سلمى” في عام 1965. جعلته اللجنة (الجمهورية) ينتظر حتى نهاية الجلسة الطويلة، وكان على لويس الإدلاء بشهادته في غرفة شبه فارغة، تماماً “كأسودٍ مُجبرٍ على البقاء في الجزء الخلفي من الحافلة إبّان الفصل العنصري في ولاية ألاباما“، على حدّ تعبير بعض الملاحظين.
يتساءل الذين يدعمون القضاء العادل في مجتمعنا إن كانت دعوته لـ “القانون والنظام” سيكون لها اليوم نفس المعنى الذي كان لها في ولاية ألاباما خلال فترة شبابي، عندما كانت تستعمل لانتهاك حقوق الإنسان المدنية للفقراء والمعدمين والسود… نحن بحاجة اليوم إلى وزير عدل سيدعمنا ويُحابينا معاً، وليس البعض منا.
علاوة على ذلك، وصف الثمانيني، في مقابلة تلفزيونية، انتخاب ترامب بـ “غير الشرعي“. وكالعادة، ردّ ترامب عن طريق بعض التغريدات المُهينة والكاذبة والحاطّة بالكرامة، وهذا ما فهمه الجمهور. إن العدالة هي العنصر الرئيسي في الدولة. هي من تقمع وتوقف وتقاضي وتسجن. إنها أيضاً من تحمينا، فهي الوصية على حقوقنا وحرياتنا. يمكن للمرء أن يتصور ما ستكون عليه تحت حكم ترامب و“سيشنز“. لا نملك سوى أن ننظم صفوفنا والاستعداد لصراع طويل المدى. لكن، وكما قال مايكل مور، ” الخبر السّار هو أننا أكثر عدداً منهم“.
فلنبق متحدين وإلى الأمام! رغم كل ذلك، فالمقاومة الأميركية كانت موجودة مُسبقاً.
___
* مؤرخ أمركي وأستاذ سابق بجامعة كولومبيا وناشط اشتراكي أممي منذ عام 1958
* قام بترجمة المقال إلى العربية كل من عبدالصمد عياش وهشام المنصوري
* كتب هذا المقال خصيصا لموقع “لكم”.
[1]https://www.nytimes.com/interactive/2017/01/22/us/politics/womens-march-trump-crowd-estimates.html
[2] https://www.thenation.com/article/welcome-to-the-fight/
Voir aussi : https://aplutsoc.wordpress.com/2016/11/13/contribution-usa-bienvenue-a-la-lutte/
[3] Voir https://blogs.mediapart.fr/vincent-presumey/blog/071216/usa-la-banalisation-du-mal-par-richard-greeman-new-york
[4] لقد قدم ترامب للعاطلين عن العمل في أمريكا، المهاجرين (الصينين والمكسيكين) كأكباش فداء. في الواقع، لقد استمر نمو الإنتاج (والأرباح) في الصناعات الأمريكية، النظام الألي قام بكل بساطة بإلغاء العديد من فوائد فرص العمل. الأشغال العامة في مشاريع ترامب كما فنادقه، هي حيل مصنوعة لإثراء رفاقه باستخدام العمال الأجانب!