لا شك أن “20 فبراير” من عام 2011، تعتبر محطة تاريخية في مسار التحول السياسي للدولة المغربية الحديثة، فقد أصبح لزاما على المؤرخ والمنظر والمهتم أن يشير بالتفريق إلى ما قبل هذا التاريخ وبعده. فهي وإن كانت انتكاسة باعتبار نتاجها، فإنها على المستوى الرمزي تبقى تجربة ومحطة مهمة ومفيدة يمكن التعويل عليها من أجل بناء رؤى سياسية تتجاوز شيئا من الأخطاء السابقة نحو مغرب يتسع للجميع.

لقد قلت بداية إنه يصبح لزاما علينا وعلى المهتم والمؤرخ أن يشير إلى ما قبل وما بعد، حتى وأن المحطة في نتاجها انتكاسة خالفت المنحنى التطوري الذي تعول عليه الانتفاضات والحركات الاحتجاجية عادة، وهو ما يجعل القارئ يتساءل عن الجدوى من انتفاضة تؤدي بالضرورة إلى صعود حزب إسلامي أبدى شديد الرفض والعداء للحركة وشبابها؟ .. ليس هذا وحسب، بل ما الجدوى من انتفاضة توصل حزبا مناوئا للعملية الدمقراطية في شكل الملكية البرلمانية لاعتبارات إيديولوجية (تحدثنا عنها في مقال سالف) ثم يجهز على كثير من المكتسبات السياسية والاجتماعية والحقوقية، ويطبع مع الفساد والاستبداد بل ويغرق الحقل السياسي في فوضى الشعبوية والتراشق والتمييع ؟

إنني أتفهم جيدا شعور كثير من الشباب المؤمن بمشروع الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة الأرض لا دولة السماء، وأنا متابع جيد لكثير من النقاشات خلال الست السنوات الماضية، وهو ما يجعلني أقول: إن الانتفاضة انتكاسة باعتبار نتائجها لكنها على المستوى الرمزي تبقى مفيدة من أجل استشراف المستقبل.

لقد أبانت الحركة عن فعالية الشارع في قلب حسابات الدولة ودحضت معادلة الفاعل السياسي الوحيد التي استمرت لسنوات، وهي نقطة تحسب للحركة التي تبقى إيجابية إلى حد بعيد رغم الانتكاسة، لكنها بالمقابل أبانت عن حجم الخلل الذي من الممكن أن يؤدي إليه غياب النظام الحاكم. فإنه بالنظر إلى شكل الحركة التي يمكن تأويلها ظاهرا كتعبير ورفض من أجل الديمقراطية، لكن حين ندقق في بنيتها نخلص إلى أنها لم تكن إلا شكلا من أشكالا الرفض لا يتعداه، وأن ما نشر ورفع خلالها لا يعدو أن يكون واجهة لمطالب إيديولوجية مختفية وراء ستارات وشعارات ديمقراطية. لقد كان الجميع يصرخ ضد الجميع في ما يشبه الحالة الطبيعية الأولى لشكل الدولة، وهو ما يمكن تفسيره بأن النظام تخلى عن كثير من واجباته اتجاه مواطنيه، وهو ما يتم التعبير عنه بثنائيتي الفساد والاستبداد، الذي لن يكون الرفض هكذا إلا امتداد له.

لا أحب استعمال كلمة الوداع في وجه حركة مجيدة بشهادة الجميع، ولكن بالمقابل لا نريد أن تتحول إلى صنم نصلي إليه بالحنين إليه. فالوداع إنما هو بحث عن بديل أقل أخطاء وأكثر فعالية بواقع نشاهد تفاصيله كل يوم. فمثالية إسقاط الأنظمة كشكل من أشكال الخلاص لم تعد مغرية بالشكل الكافي في ظل ظروف داخلية سوسيوثقافية صنعتها الأنظمة لنفسها، وأيضا في واقع إقليمي ودولي يتخلى عن واجبه الأخلاقي ويؤسس للدسائس والمؤامرات، بل والتبشير ببدائل تجسد شكل الدولة لما قبل التاريخ.

يقول صاحب الأمير: أجزم أن ممارسة الحكم بالقوة تمثل نصف سلوكنا، لكن أجزم كذلك أن النصف الباقي تقريبا يسمح لنا بأن نظل حاكمين

إن رفع الكف بالوداع للحركة هو إسقاط للأعراض وبحث عن الجواهر التي تؤسس لما بعد الرفض، فالاتحاد ضد النظام لإحراجه أو حتى إسقاطه لم يعد مغريا ولا كافيا مادام أن الدولة في المغرب مرنة بما يكفي لاستنزاف جدوى معارضيها، بل وإحراجهم أيضا بما تتوفر عليه من رصيد قد لا تقدر فلسفة الرفض على فهمه بله الإحلال محله.. يقول صاحب الأمير: أجزم أن ممارسة الحكم بالقوة تمثل نصف سلوكنا، لكن أجزم كذلك أن النصف الباقي تقريبا يسمح لنا بأن نظل حاكمين.

فالرفض ليس له هوية موحدة بالضرورة، ولا يمكن تفسيره بالبديل، ولكن الرفض هو تعبير عن الألم الذي يسببه تخلي الدولة عن واجبها اتجاه مواطنيها. فحركة 20 فبراير لم تكن إلا رفضا بهويات مختلفة منها ما هو رجعي وبئيس أكثر من النظام نفسه، وهو ما لم ننتبه إليه حتى. فلقد جرت العادة أن الذين يقفون في وجه الظلم لا يتركون لنا فرصة أن نمحص نواياهم، وهو ما يخلق مشاكل جمة بعد غياب النظام..فوصول حزب بنكيران للسلطة كان من الممكن أن يكون أكثر امتدادا وإيلاما لو غاب النظام في ظل مجتمع ببنية تقليدية جدا، وهو ما يطرح مشكل الشروط العلمية والاجتماعية لنظام ديمقراطي بمقومات ورؤى حديثة مازال النظام وحده القادر على ضمان كثير منها. بل يطرح حجم وشكل وامتداد البديل الذي نبشر به.

فرغم أن بنكيران في عز حراك “20 فبراير” أعلن رفضه التام للحركة وعارضها، إلا أنه استطاع أن يحظى بثقة واحترام كثير من أعضائها، والغريب في أن بنكيران لم يكتف بهذا بل أعلن رفضه القاطع للملكية البرلمانية ودافع عن الملكية التنفيذية، ورغم هذا لم يفقد تأييد مناضلين من الحركة، وهذا إنما يفسر وجود شكل من المعارضة في المغرب برزت في الحراك لا تمتلك عقلية المعارضة المؤسسة على قواعد بعينها بقدر ما تحمل عقدة عدائية للنظام.

إننا ونحن نودع حركة “20 فبراير” كشكل احتجاجي له ماله وعليه ما عليه، يجب أن نفكر كما قلت آنفا خارج فلسفة الرفض إلى فلسفة البديل المدني الذي ينتصر على أخطاء النظام وليس على النظام نفسه؛ أي ما معناه أن سقوط الأنظمة لم تعد غاية في حد ذاتها وهو ما عبر عنه أستاذنا المفكر السوري آدونيس بالقول :  كل تغيّر في أي ميدان لا يمكن التعويل عليه، إذا لم يكن صادراً عن إعادة نظر جذرية، وعلى نحو شامل، في هذا الأساس. هذا، إذا كانت الغاية من التغيير بناء مجتمع جديد، لا مجرد اختزال يتمثل، على الطريقة التقليدية السياسية في “الإطاحة بالنظام سريعاً وبأي ثمن”.