
عدالة القوانين الوضعية

ليست كل القوانين الوضعية عادلة ومنصفة، وليست كلها جائرة وظالمة، وقيمة القوانين الوضعية في مطابقتها للقانون الطبيعي النابع من الطبيعة الإنسانية، قوانين مطبوعة بطابع العيش الكريم وحق الإنسان في الوجود بوصفها مجموع القواعد الاجتماعية، مصدرها الطبيعة، قوانين متأصلة في الطبيعة البشرية كالعدالة والمساواة والحق، وهي مصدر مهم للقواعد القانونية، قاعدة أصيلة تبيح للعقل البشري الحكم وفق مقتضى الحكمة، وصيانة الحقوق، قواعد ثابتة وضرورية للعيش الكريم، وقديما نادى الفيلسوف الروماني”شيشرون” بالحق القائم على مشروعية عقلية وأخلاقية، الضامن الوحيد لإقامة العدالة وإحقاق الحق. وطالما تأسس الحق على مفاهيم غير الطبيعة الخيرة في الإنسان فإن جميع الفضائل تتلاشى، عندما تملى القوانين من جهات فردية أو جماعات نفعية أو من المستعمر أو حفنة من المنتفعين والمستبدين، لن يقوم الحق، ولن تتحقق العدالة كمنفعة عمومية، وبالتالي تنتهك، ويتم نسف التوازن الاجتماعي.
آراء أخرى
القوانين المنصفة ترتوي من حكمة الإنسان وأصالته في الوجود، تشريع القوانين في توافق مع القيم والمصلحة العامة للبلدان دون أن تكون القوانين قهرية في التكميم ومنع حرية التعبير، وعدم القدرة على توظيف الطاقات، والقدرات في سبيل الدفع بالمجتمعات نحو الحرية السياسية وإزالة قيود القهر والظلم والاستغلال . القوانين الجائرة غالبا ما تنتهي بالتمرد والعصيان، كما هو الشأن في دولة جنوب أفريقيا وغيرها من البلدان التي صنع فيها الاستعمار والطغاة في الأنظمة العسكرية الشمولية قواعد للتمييز العنصري، ومبادئ للمفاضلة بين الطبقات في اللون والعرق والجنس، كانت الحلول عملية لما تم الانتقال نحو الديمقراطية والتعددية، وتكريس ثقافة الاختلاف والتعايش. قوانين منصفة بموجب العدالة الانتقالية، وتصفية الإرث الدموي للنظام العنصري، الدولة المغربية بدورها اعترفت بسنوات الجمر والرصاص، فكان الانتقال نحو الديمقراطية واختيار العدالة الانتقالية في تصفية مشكلات الماضي وجبر الضرر، وبداية عهد جديد من التصالح مع الذات، وتوسيع هامش للحريات، والعمل بالحق في أفق تحقيق معالم الدولة الحديثة، دولة القانون والحريات. أثمرت النتائج عن مجموعة من المكتسبات في ولادة دستور جديد، وفي تعزيز الترسانة القانونية، وفي الرفع من الرهانات والتحديات إلى مستوى أعلى في الإصلاح والتجديد من خلال الرقابة والمعاقبة، والحرص كذلك على الحريات المدنية، والاستجابة لقواعد العمل بفلسفة حقوق الإنسان في بعض مبادئها العامة، ولازال الطريق طويلا من أجل الزيادة في جرعة الإصلاح، بحيث أصبح هذا النوع من الخطاب معمما ومشروعا لدى الهيئات والمؤسسات والتنظيمات بأنواعها .
إذا تلاشت الفضائل تحت ذريعة المصلحة الفردية أو مصلحة جماعية معينة فإن الأخطار تنسف وحدة المجتمع وتؤدي إلى ضرب مقومات التماسك، والعيش المشترك، وأفضل ما يؤسس للكونية والمشروعية تحقيق العدالة للجميع والتفاني في نيلها من خلال الزيادة في الإنصاف والمساواة، وبناء على عدالة القوانين الوضعية المنصفة. أن يكون القانون في خدمة الناس، القانون الذي يحدد الأعباء والحقوق، ويرسي معالم التفكير في وحدة المجتمع من القلاقل والأزمات التي يمكن أن تهدد التماسك والتوازن أو السلم الاجتماعي . العدالة تشمل كل الفضائل . والقوانين الوضعية كتشريع إنساني هدفها ضبط العلاقة بين الناس، تنظيم للعلاقات الإنتاجية، إنصاف لقوى الإنتاج، والعمل على ضمان سيرورة العمل وضمان حق المشغل كذلك. قوانين نابعة من التشارك، ومن التشريع المعقلن لكل فعل يروم المنفعة العمومية، يرتقي القانون الوضعي ليمثل كل الشرائح الاجتماعية، والطبقات المختلفة، من الجماعات المهنية، وكل القوى الفاعلة في المجتمع، قوة القوانين الوضعية في الاستجابة للحقوق المادية والمعنوية، وصيانة الكرامة. في توازن الأفراد والجماعات، وسعيهم الدائم نحو إشباع حاجياتهم، وضمان مشاركتهم في السلطة، من منطلق الرفع من فاعلية المجتمع المدني، تلك خصائص الدولة المدنية، ومنبع للسلوك المدني والحضاري، وتأصيل مفيد لما يسمى بالديمقراطية التشاركية، وإرساء لمضامين حقوق الإنسان في بعدها الكوني، واستجابة للمنتظرات في بناء الدولة الاجتماعية التي تتسع لكل أبنائها . بين القصيد في هذا الموضوع يتعلق بقانون 15. 97 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب الذي تنص عليه المواثيق الدولية والمحلية معا، ويؤكد عليه الفصل 29 من دستور 2011، والخطاب السياسي المغربي. هذا القانون الذي تعتبره النقابات مكبل للحريات من خلال مجموعة من المواد والبنود المتعلقة بالغرامات، وسلطوية القرار بيد الحكومة والجهات التابعة لها، وأخرى تتعلق بالمدة الزمنية في الإعلان عن الإضراب، ومواد تتعلق بالصلاحية الموسعة للجهات الحكومية المخولة في الرد والإذعان للإضراب بعد مفاوضات ومشاورات تقيد من الحرية والصلاحية الممنوحة للنقابات في الإضراب. غرامات في حق المشغل، وغرامات في حق من لا يستجيب للمدة الزمنية في الإضراب، وكل من يعرقل ممارسة الأجراء في تجسيد الإضراب، غرامات في حق المضربين، وحق رئيس الحكومة في منع الإضراب أو توقيفه بموجب آفات أو كوارث طبيعية. مواد تنظيمية كان بالأحرى أن تكون خالية من العقوبات، وتبقى العقوبات مسطرة في قانون الشغل، ومن اختصاص القضاء أو تظل عمومية . كذلك الإحاطة بالإضراب ودوافعه. كل دعوة إلى الإضراب خلافا لأحكام القانون المنظم تعتبر باطلة كما ورد في المادة الخامسة، والجهة الداعية للإضراب مطالبة بالإخبار قبل ذلك بأسبوع ناهيك عن المساطر القانونية في حق المضربين، وتأهيل السلطات المحلية للتعامل مع الإضراب علما أن إضرابات المغاربة يطبعها روح المسؤولية والالتزام بالمبادئ، ناهيك عن وعي الجماهير بثقافة الاحتجاج .
يبدأ قانون الإضراب من العام إلى الخاص، وينتهي بالمدة التي يدخل فيها حيز التنفيذ بعد التصويت في الغرفتين ثم المحكمة الدستورية، وبعد انصرام مدة ستة أشهر ينشر في الجريدة الرسمية. الحكومة المغربية ومن خلال وزير التشغيل والكفاءات يونس السكوري تعتبر الإضراب حق مشروع بموجب الدستور والقوانين الدولية، وهو ما تنص عليه المادة الثانية من القانون أن الإضراب يعني كل توقف جماعي عن العمل بصفة مدبرة ولمدة محددة. من أجل الدفاع عن حق من الحقوق أو مصلحة من المصالح الاجتماعية أو الاقتصادية المباشرة للأجراء المضربين . النقابات العمالية استشعرت الخطر في المواد المكبلة لقانون الإضراب، اعتبرت صيغة القوانين مكبلة، لم تتم بالتشارك الملزم، ولم تأخذ الحكومة بكل التوصيات والاقتراحات الممكنة، وصرح الكاتب العام لنقابة الاتحاد المغربي للشغل الميلودي موخاريق أن الحكومة وعدت بالتعديل بنسبة 80 في المائة، ولم تلتزم بذلك مما جعل النقابة المذكورة تنسحب من التصويت، فيما غاب عن التصويت ثلثي أعضاء مجلس النواب، ذلك دليل أن القاعدة القانونية تستوجب الحضور المكثف للنقاش والحوار، إبداء الرأي قبل التصويت، والغياب دليل آخر على عدم تحمل المسؤولية أمام قانون مهم وملزم للمغاربة في الكسب والتنظيم . فمن الضرورة على وضع قوانين خاصة بالحضور والغياب أمام مشاريع قوانين نحتاج من خلالها للتعبير، نحتاج لنقاش جاد في سبيل إخراج القوانين المنصفة.
فكرة التشريع تستدعي أن يكون الكل على قدر من المسؤولية، أن تكون القوانين نابعة من التوازن، تصب في المصلحة المشتركة، أما القوانين عندما تنحرف عن مسارها فإنها تولد صراعات، وتنتهي إلى نفق يؤدي إلى الاحتقان الاجتماعي وبالتالي تهدد السلم الاجتماعي، والثقة المشتركة بين الشركاء الاجتماعيين والحكومة. لنا في النظام الأساسي الخاص بقطاع التربية والتعليم مثالا على الاستفراد والتسرع في التصويت، والنشر في الجريدة الرسمية، وعلى إثر هذا القانون المجحف كان الخروج العفوي والمنظم للأطر التربوية بكل الفئات للرفض والمطالبة بالسحب والتعديل، وما كان على الحكومة إلا الإقرار بقصور التشريع الذي لم يستجب للتطلعات، ولا للتضحيات الجسام في سبيل النهوض بالمدرسة العمومية. لا نرغب في تكرار التجربة، وما تراه الحكومة عين الصواب، تراه النقابات عين الصوب كذلك، الاجتهاد محمود، وارد في الكثير من البنود، والأخطاء أو قصور التشريع واردة كما قال السيد السكوري . روح القوانين أسمى من القانون، روح الشعب، ومبادئ العدالة في التصويب، وإعادة النظر في المشروع على أمل الالتقاء في المصلحة المشتركة بعيدا عن السياسي والأيديولوجي، بعيدا عن التدافع والاندفاع، العودة بالمشروع إلى طاولة المفاوضات دون سقف محدد من قبل النقابات انتصار لروح الديمقراطية، انتصار لشعار الدولة الاجتماعية من أجل الإضافة والحذف والزيادة لما تراه كل الأطراف أنه عين الصواب، ويبقى الإضراب حق دستوري، وأكثر من ذلك دليل على صحة الديمقراطية في مجال سن القوانين بالتشارك والإجماع . الأمل في تحقيق العدالة للجميع تطبيقا للقانون، وإحقاق للحق والواجب، روح الشعوب في المبدأ الأخلاقي، وقيم الجماعة التي فازت بالرهان في إخراج هذا القانون بشجاعة وجرأة . صلاحية القوانين في مدى مطابقتها للدساتير ولأحوال الناس وقدرتهم على التطبيق والامتثال .
لا يمكن أن يكون الإضراب وسيلة للابتزاز والمناورات السياسية في التقليل من عمل الحكومة أو المساومة بدوافع أيديولوجية، ولا يمكن أن يكون الإضراب مطبوعا بالعشوائية، والتقليل من عمل النقابات وإرثها النضالي في مجال الدفاع عن المكتسبات، ولا يمكن أن تكون التنسيقيات بديلا عن النقابات، كما نرغب في عمل الحكومة إخراج تشريع يتعلق بقانون النقابات ينظم نضالها وبنيتها الداخلية. قانون الإضراب تراه النقابات في خدمة “الباطرونا”، بنوده تكبيل للحق في التعبير والاحتجاج، المادة 26 وحق المشغل على الأجراء في المطالبة بالتعويض عن الخسائر، المواد لا تتضمن بما فيه الكفاية تدخل الجهة الوصية، وما يتعلق بمفتشي الشغل، وما يتعلق بالأضرار الناجمة عن تعويض الأجراء من جراء ظروف العمل. إجراءات زجرية تعتبرها النقابات مخالفة للحريات والحق الدستوري. الحكومة بدورها تعترف بالحق في الإضراب، ولا تعتبر هذا القانون تكييليا أو تجريميا بل منصفا بما فيه الكفاية، ونوع من الاجتهاد الذي يصب في مصلحة الكل. لو كان الأمر كذلك، لماذا الإسراع في التصويت عليه؟ لماذا التنصل من جولات الحوار المؤسساتي حتى يكون البيان مزدوجا، وينطوي على الرضي والتوافق؟ .
عدالة القوانين الوضعية في صياغة القانون العادل والمنصف للجميع، العدالة تأخذ بعين الاعتبار الإنصاف والتوزيع المنصف للخيرات على أساس القدرة والمكانة والأدوار، العدالة في جبر الضرر، وتعويض لكل من يتعرض لأدى أو المساس في الكرامة والعيش الكريم. هناك قدر من الحوار والنقاش بين الحكومة والشركاء، يمكن اعتباره نجاحا للحكومة والتنظيمات الاجتماعية في أفق التوافق على الجزئيات والكليات، يعتبر بمثابة نجاح أكثر للمواطنة والدولة الاجتماعية الذي كانت ضمن شعارات الحكومة الحالية إذا أعيد النظر في بعض مواد القانون . الإجهاز على الحق في الإضراب أو المساس بقانون التقاعد المنتظر لن ينتج إلا الأزمة، يشعل شرارة الاحتجاج، والزيادة في الرفض الشعبي، تخرج الجماهير بدون سند قانوني نحو الشوارع ذلك أمر لا يمكن إيقافه، وندخل في دوامة من الصراع والسجال الذي يؤثر على الإنتاج وتوازن المجتمع. المحكمة الدستورية وفيها من الحكماء قادرون على التحكيم وإعادة الأمور إلى طبيعتها، التعديل ممكن حتى يتم التنزيل والتفعيل. لا يمكن إحلال القوانين العادلة والمنصفة إلا بالتشارك والتنازل لأن المغاربة في نضالهم يرفضون انتهاك المكتسبات، بالمقابل يثمنون عمل الحكومات في مخططاتها التنموية الاستعجالية والبعيدة المدى مثل إسقاط الفساد، التقليل من البطالة، معاقبة المتملصين من أداء الضرائب للدولة، ومحاربة الشطط في استعمال السلطة، الضرب من حديد على ناهبي المال العام، والحد من الغلاء عبر المراقبة والمعاقبة للمضاربين والمنتفعين، وكل من يرغب في الاستغناء على حساب جيوب المغاربة، يطالبون بالحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة .