الأعيان والنخبة
حين يثار مفهوم “النخب” وتطرح أسئلته، غالبا ما يتم الانصراف إلى ما راكمته الدراسات التاريخية والسياسية والاقتصادية والأنثربولوجية. في المقابل، قلما يشار إلى الدراسات السوسيولوجية التي انشغلت بالمفهوم، على الأقل في العلوم الاجتماعية العربية عامة، والمغربية خصوصا. وإن كانت العلوم الاجتماعية تنتعش في سياق التحولات التي يشهدها المجتمع، فإن مفهوم “النخبة” لا يُستثنى من هذه الحركية. بهذا المعنى يصير مفهوم “النخبة” منعقدا لما سماه هنري لوفيفر “جدلية المجال والمجتمع”، ويغدو مفهوما إجرائيا في فحص ما تنتجه هذه الجدلية.
آراء أخرى
يشكل مفهوم “النخبة” مفهوما تاريخيا عمليا يمكّن من قياس عدد من الحقائق الاجتماعية. حيث استمد السوسيولوجيون هذا المفهوم من علماء التاريخ، فتم الانطلاق من سؤال تجديد “النخب”. وقد عرّف باريتو “النخب” بقوله: “هي مجموعات اجتماعية مركبة، من أفراد لهم امتيازات خاصة في فروع أنشطتهم”[1]وسعى إلى البحث عن القوانين التي تحكم هذه النخب منذ بروزها وسيطرتها حتى اندحارها. ورد هذا المفهوم في بدايته في حقل العلوم السياسية، ليشكل تعارضا مع التصور الماركسي للتاريخ والدور التاريخي للبروليتاريا والصراع الطبقي. فللماركسية رؤية أخرى لتقسيم المجتمع، ومن ثمة فالمجتمع في هذه الرؤية ينقسم إلى طبقتين، حسب موقعهما من عملية الإنتاج: طبقة بورجوازية مهيمِنة تمتلك وسائل الإنتاج، وطبقة مهيمَن عليها لا تمتلك سوى قوة عملها. وهذا التناقض بين الطبقتين لا يتم تجاوزه إلا باستيلاء البروليتاريا على وسائل الإنتاج وتحقيق دكتاتورية البروليتاريا في أفق المجتمع اللاطبقي. لذلك فمفهوم “النخبة” في هذا التصور مرادف للتفاوت الطبقي.تبرز في هذا السياق مقاربة موسكا حول نظرية الطبقات السياسية[2]. وقد باشر كل من باريتو وموسكا نقدهما التصور الماركسي للطبقة والسلطة، وكذا نقد الديمقراطية الليبرالية في تكريسها للامساواة الأساسية بين الناس. تجلى تعريف “النخب”، حسب هذه المقاربة، في كونها مجموعة تستند في وجودها على ممارسة السلطة. وميزت هذه المقاربة بين نوعين من “النخبة”: النخبة الحكومية أو الطبقة المسيِّرة، وهي التي تمتلك فعليا السلطة، والنخبة غير الحكومية، تلك الطبقة المهيمنة، والتي تتموقع كحلقة وصل بين النخب الحكومية والجماهير، ولا تمارس السلطة.[3]
وقد اعتبرت “النخب” في ذاتها ظاهرة سياسية اجتماعية هامة في التاريخ[4]، في حركيتها وتداولها باعتبارهما عاملين في قوة استمرارها، ومع ثورة مدرسة الحوليات تم تدشين حقول جديدة للبحث استطاعت بذلك تجاوز الانشغال بالتاريخ السياسي “للنخب”، لتشمل الاقتصاد والمجتمع والحياة الفكرية، حيث أصبح يشكل أحد المفاهيم الإستراتيجية الموظفة منهجيا في تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية، ولا سيما القضايا الاجتماعية التي تتصل بالسلطة والطبقة وتوزيع الثروة والتطور الاجتماعي والتنمية.[5]
كان لبيير بورديو أبحاث مؤسسة، حيث تجاوز حقل الخصوصيات الاقتصادية والعمل السياسي للنخب إلى الاهتمام بالأبعاد الرمزية، ذلك أن الدراسات السوسيولوجية اهتمت في هذا السياق بالممارسات التي تستند على التمييز الاجتماعي، انطلاقا من أن “النخبة” متميزة عن باقي المجتمع. ونجحت هذه الدراسات في فهم كيفية توظيف الرأسمال الرمزي والثقافي في استراتيجيات التمييز وإعادة الإنتاج[6]. هذا التمييز هو ما منح لهذه الدراسات تعريفا للنخبة يتأسس على المعايير التي تحددها، وشروط الانتماء إليها، وامتلاك المؤشرات التي تحدد نوعية المجتمع (منغلق أو منفتح).[7]
إن تطور المجتمعات جر معه تغيير معايير تحديد “النخبة”، ليتم الاقتصار على معياري الثقافة والثروة. فالثروة تشكل دليلا على النجاح الفردي ومكافأة على الاستحقاق والموهبة، غير أنها لم تعد المعيار الوحيد في الانتماء “للنخب”، في حين تسمح وحدها بامتلاك معايير أخرى. أما معيار الثقافة فيتدخل عندما يتعلق الأمر بتحولات داخلية أو هيمنة خارجية. [8]
لقد شغل مفهوم “النخبة” حقولا معرفية متعددة من أبرزها التاريخ والعلوم السياسية والأنثربولوجيا والسوسيولوجيا. حيث سعت هذه الحقول إلى محاولة تعريف “النخبة” ومعاييرها ووظائفها وتحولاتها. لقد دشن فيلفريدو باريتو هذا المسعى إلى الإحاطة بهذا المفهوم، وسرعان ما انصب البحث في الحقول المذكورة على مقاربة “النخبة” من منظور نشأتها وموقعها السياسي والاجتماعي والرمزي.
- 1 “النخبة”: يرى غي روشي أن مفهوم “النخبة” قد استقر توظيفه في السوسيولوجيا، وبذلك صار من اللازم النظر إليه بمنأى عن استعماله في الخطاب المتداول. وذلك بفضل التطور الذي عرفه المفهوم وجدواه في البحث. ويعد فيلفريدو باريتو أول من منح مفهوم “النخبة” حق الانتساب إلى السوسيولوجيا. فمن منظوره، تتركب “النخبة” من ميزات استثنائية وكفاءات فارقة في مجال نشاطها. وبعبارة أخرى، فإن من يحسب على “النخبة” يحقق نجاحا باهرا مقارنة بغيره، وذلك بفضل الجهد أو الموهبة. وندين لغايتانو موسكا بتعريف أعمق لمفهوم “النخبة”، من جهة كونها أقلية من الأفراد تمتلك السلطة في مجتمع ما. هذه الأقلية أشبه بطبقة اجتماعية حقيقية، طبقة مسيِّرة ومهيمنة، طبقة يمنحها التنظيمُ والهيكلةُ قوةً وسلطة. إن الروابط التي تصل بين أفراد “النخبة” متعددة، حسب موسكا، إذ تتيح روابط الأبوة والمصالح والثقافة لهؤلاء الأفراد ما يكفي من وحدة التفكير وانسجام الخصائص المميزة للطبقة. فيما بعد سيستلهم ورايت ميلز رؤية موسكا في الاشتغال أمبريقيا على ما سماه: “نخبة السلطة” في الولايات المتحدة تحديدا. وبخلاف موسكا الذي اعتبر “النخبة” طبقةً، فإن “النخب” حسب ميلز ترتبط ببعضها كي تبني وحدة سلطوية تهيمن على المجتمع. ويكشف ميلز أن الروابط التي تصل “النخب” ببعضها البعض تستند على مرتكزات متعددة، بحيث من الممكن أن تتأسس كجماعة توحدها مصلحة السيطرة على الوضع. أما غي روشي فيقدم تعريفا للنخبة على الشكل التالي: “مجموع الأفراد أو المجموعات التي تساهم في الفعل التاريخي، بفضل ما تمتلكه من سلطة أو ما تمارسه من تأثير، سواء عن طريق القرارات التي تتخذها، أو عن طريق الأفكار، أو المشاعر والعواطف التي تعبر عنها أو تبنيها رمزيا”.[9]
2-الأعيان: برز هذا المفهوم مع السوسيولوجيا الكولونيالية، في محاولة لتوصيف صنف من القيادات الشبيهة بالنظام القبلي في مغرب الاستعمار. في هذا السياق عرف ريمي لوفو هذا المفهوم انطلاقا من التركيز على المهام الموكلة لهذه الفئة في فترة الحماية، حيث اضطلع الأعيان بوظيفة الربط بين الأنشطة التي يقوم بها ضباط الشؤون الأهلية وبين المراقبين المدنيين، إذ لم يكن يتسنى للجهاز الإداري القيامُ بأدواره لولا دعم الأعيان وموافقة السكان. ستعرف هذه الفئة، أثناء عملية نقل السلطات، تعثرات في مسارها. ولم يكن فقدان الدور السياسي التحولَ الوحيد الذي شهدته “النخب” المحلية، بل تلاه وضع القواد التابعين للحماية تحت الإقامة الجبرية، ومنهم من تعرض للإذلال والإهانة من طرف ممثلي حزب الاستقلال أو جيش التحرير. ويشير ريمي لوفو إلى أن أغلب القواد والباشاوات، ومرؤوسيهم من شيوخ ومقدمين، قد اكتفوا بالعودة إلى أراضيهم. إلا أن غموض هذه المرحلة لن يعمر طويلا، ما دامت الوضعية الاقتصادية للأعيان لم تتضرر، وسرعان ما ستستعيد هذه الفئة وضعها البدئي. فبفضل الدراية والتحالفات العائلية والقرب من مراكز السلطة، استطاع الأعيان الاستفادة من إعادة الإدماج التي نهجتها السلطة في صراعها مع الحركة الوطنية.[10]
حظي هذا المفهوم بتعريف أعمق عند عبد الله حمودي، عبر صياغته لبورتريه عن الأعيان القرويين. هم من منظوره، الفئة التي ارتكز عليها استقرار النظام وما زال. يبني حمودي هذا البورتريه للأعيان، انطلاقا من كونهم ينحدرون من أسر مارست السلطة المحلية أو الجهوية تحت الحماية. هذا التواطؤ كان محركه النفوذ المادي أو المعنوي الممارس على سكان البوادي. من هذه الفئة من ترجع مكانته إلى الظروف السياسية والاجتماعية السائدة قبل الاستعمار، ومنها أيضا أعيان جدد كانوا نتاج الزمن الاستعماري، وفئة ثالثة استغلت فترة توطيد الدولة بعد الفترة الاستعمارية. إن الأعيان، في توصيف حمودي، ملاك كبار، يعيشون على أراضيهم، ويمتكلون إقامة حضرية، وهم يحافظون دوما على ارتباطهم بالقبيلة أو القرية، يرون في الحملات الانتخابية إقطاعا لهم، والذين يفشلون منهم في ولوج المجالس الجماعية أو الإقليمية، يعوضون هذا الفشل باستثمار المناصب الإدارية المحلية، كما أنهم يشغلون فروع الأحزاب في المكاتب الإقليمية والمحلية. إنهم وحسب عبارة حمودي “موجودون في كل مكان”. ويكتمل هذا البورتريه حين يرصد حمودي سمات هذه الفئة التي تنفر من التجديد، كما أنها تحترم التقاليد التقنية وتُظهر الورع والتقوى في كل الشعائر الدينية. بيد أن هذه السمات لا تكفل لهذه الفئة التصرف كشريحة موحدة، إلا نادار، حتى ليصعب أن نتحدث عن الأعيان باعتبارهم طبقة. ذلك أن فعلهم الجماعي يعبئ نواة محلية أو جهوية، دون أن يتجاوز هذه الحدود.[11]
ولما كان مفهوم “النخبة” محاولة لتعويض التحليل الطبقي، فإن فئة الأعيان في المغرب، وبالقياس إلى التحديدات التي رسمت ملامح “النخبة” ومعايير الانتماء إليها في الدراسات المشار إليها، لا تشكل نخبة. بل إنها لا تجسد مجموعة، بالمعنى الذي ينحته هنري لوفيفر حين يؤكد ضرورة أن تمتلك المجموعة وعيا بالذات واستراتيجيةً وتكتيكا والرأسمال الرمزي والمرجعية الفكرية.. ثم إن ما يعوز هذه الفئة كي تنتسب إلى “النخبة” غيابُ القرار السياسي المستقل، ومن ثمة تظل تابعةً، منصاعة لما يُملى عليها، مكتفية بوضعها كـ”درع طبقي” يمكن أن يتلاشى أمام أدنى اختبار ديمقراطي واع بذاته و بـ”اختياره الثوري” وأفقه السياسي. وقد يسعف تَتَبُّعُ مسارات التحول التي عرفتها هذه الفئة، وفحصُ الإبدالاتِ التي أملتها جدلية المجال والمجتمع، نقول قد يسعف في الكشف عن السياقات التي أفرزت فئة الأعيان الجدد، فئة لا تختلف في شيء عن فئة الأعيان التقليديين اللهم في تباين سياق ظهورهما.
الهوامش:
[1] Raymond Boudon et François Bourricaud, « Élite(s) », Dictionnaire critique de la sociologie, Paris, PUF, 1994 (4e éd.), p. 225-232.
2Alberto Puppo, Gaetano Mosca et la théorie de la classe politique, Une pensée antidémocratique au service de la liberté, publié dans : Dans Revue Française d’Histoire des Idées Politiques 2005/2 (n°22), pages 17 à 31.
3Raymond Boudon et François Bourricaud, « Élite(s) », Dictionnaire critique de la sociologie, Paris, PUF, 1994 (4e éd.), p. 225-232.
4علي أسعد وظفة، مفهوم النخبة، مركز نقد وتنوير للدراسات- الإصدار الأول مايو/أيار
5نفس المرجع
6Frédérique Leferme-Falguières, Vanessa Van Renterghem , LE CONCEPT D’ELITES, Approches historiographiques et méthodologiques. Dans Hypothèses 2001/1 (4), pages 55 à 67.Éditions Éditions de la Sorbonne.
7 ibidem
8 ibidem
9Guy Rocher. Introduction A La Sociologie Générale , édition HURTUBISE, 1992, PP 490-495.
10Rémy Leveau, Le fellah marocain défenseur du trône, Collection Référence, 1985, PP 7-27.
11عبد الله حمّودي .الشيخ والمريد .النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد المجيد جحفة ..دار توبقال .ط 52014. ص 58-61.
[1] Raymond Boudon et François Bourricaud, « Élite(s) », Dictionnaire critique de la sociologie, Paris, PUF, 1994 (4e éd.), p. 225-232.
[2]Alberto Puppo, Gaetano Mosca et la théorie de la classe politique, Une pensée antidémocratique au service de la liberté, publié dans : Dans Revue Française d’Histoire des Idées Politiques 2005/2 (n°22), pages 17 à 31.
[3]Raymond Boudon et François Bourricaud, « Élite(s) », Dictionnaire critique de la sociologie, Paris, PUF, 1994 (4e éd.), p. 225-232.
[4]علي أسعد وظفة، مفهوم النخبة، مركز نقد وتنوير للدراسات- الإصدار الأول مايو/أيار
[5]نفس المرجع
[6]Frédérique Leferme-Falguières, Vanessa Van Renterghem , LE CONCEPT D’ELITES, Approches historiographiques et méthodologiques. Dans Hypothèses 2001/1 (4), pages 55 à 67.Éditions Éditions de la Sorbonne.
[7] ibidem
[8] ibidem
[9]Guy Rocher. Introduction A La Sociologie Générale , édition HURTUBISE, 1992, PP 490-495.
[10] Rémy Leveau, Le fellah marocain défenseur du trône, Collection Référence, 1985, PP 7-27.
[11]عبد الله حمّودي .الشيخ والمريد .النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد المجيد جحفة ..دار توبقال .ط 52014. ص 58-61.