البلدان العربية تنتظرها سنوات عجاف وسيناريو سورة يوسف على الأبواب..
كان في نيتي إستكمال مقال “ما خلفيات النقاش الدائر بداخل اكبر جماعة سياسية بالمغرب “جماعة العدل والاحسان”، هل هو مقدمة للمشاركة في اللعبة السياسية؟ أم مقدمة للإنشقاق؟ وما سبب رفض الجماعة المشاركة السياسية؟ وإلى متى سوف تستمر هذه المقاطعة؟”، لكن من خلال الحوارات و متابعتي للنقاش الدائر، قررت تأجيل الموضوع إلى حين كشف بعض الخيوط و إدراك جوانب الغموض، حتى لا أكون أداة يمكن استغلالها لتحقيق “غاية في نفس يعقوب”، فدوري كإعلامي أو أكاديمي هو طرح كل وجهات النظر وتحليلها بموضوعية بعيدا عن التحيز أو الاستغلال ولدي مسافة واحدة من كل الأطراف..
آراء أخرى
وما يدفعني إلا القيام بمبادرة أو محاولة تقريب وجهات النظر أو الدعوة لوحدة الصف بغض النظر عن الاختلافات الفكرية أو الأيديولوجية أو السياسية ، هو الانتماء للوطن و الخشية على هذا الوطن من القادم ، فالقادم أسوأ ، القادم نذرة في الموارد المالية و الموارد الغذائية و الموارد المائية ، القادم مزيد من التضخم الذي ينذر بمجاعة قادمة، و حتى أسد باب المزايدة لأن مقالاتي المنشورة برأي اليوم اللندنية يتم استغلالها بشكل غير بريء من قبل بعض الجهات المعادية للمغرب، أقول و بصدق أحد أهم ما يميز المغرب أنه لم يكن يوما خاضعا لديكتاتورية عسكرية، و الشعب المغربي قادر على التعبير عن رأيه و الدفاع عن حقوقه، و الدليل أني أكتب بحرية و انتقد من داخل البلاد، و عندما أنتقد الوضع في بلادي فهذا نابع من حرصي على التغيير و أومن بأنه ممكن ، و ما يعانيه المغرب تعانيه باقي بلدان الجوار العربي “فليس بين القنافد أملس”…الوطن قاسمنا المشرك و هذه قاعدة يمكن البناء عليها، لأن في نجاح الوطن نجاحنا جميعا و فشله فشلنا جميعا..
لا يعتقد أحد أنني عندما أتحدث او أكتب أعبر عن ضرر شخصي أو معاناة شخصية على العكس، لكن بدوري أدرك طبيعة التوازنات و الحدود التي لا ينبغي تجاوزها حماية للمصلحة العامة ، فأوطاننا من المحيط إلى الخليج مهددة بمزيد من التفتت و سفك الدماء و التدخل الأجنبي و نهب الثروات الوطنية، فيكفي أن شعوب المنطقة من أكثر الشعوب تضررا من الأزمة الروسية الأوكرانية ، و أغلب البلدان العربية بدأت تتناقص احتياطاتها الإستراتيجية من المواد الغذائية الأساسية، و الأزمة لازالت مستمرة و ليس هناك مؤشرات لإنفراج قريب، نريد أن نكون أداة للبناء لا للهدم، خاصة و أننا نرى أن الظروف الداخلية و الأجيال الصاعدة تفتقد في الغالب للتأطير و الوعي الكافي ..كما أن الظرفية الدولية تشجع على الفوضى و نحن لا نريد ان تكون بلداننا العربية و الإسلامية حطبا في لعبة شطرنج دولية.. و أنا في الوقت الذي أدين فيه تصرفات النظم السياسية الحاكمة أدين أيضا المعارضة غير المسؤولة أو معارضة السب و القدف و تخوين المخالف.. المعارضة تقتضي توحيد الصف و تغليب منطق البناء بالتدريج و البناء بالتراكم ..
ما تعانيه البلاد من أزمات لا يتحمل النظام وحده المسؤولية فيها، بل حتى المعارضة في الداخل و الخارج ، الاختلاف و التدافع السياسي أمر طبيعي و لكن الخطير هو الانجراف خلف التطرف “تطرف” المعارضة و تطرف الاستبداد، فالوسط أصبح شبه مفقود و مهمتنا كعقلاء و محبي لهذا الوطن أن نجد أرضية للتوافق و ترتيب الأولويات ووضع خارطة طريق للخروج من النفق المظلم ، القادم أسوأ و الأمر اخطر مما يعتقد أغلبنا..نحن في مرحلة تقتضي رجال دولة و عقلاء محركهم مصلحة الوطن و الشعب..
و في هذا السياق أثار انتباهي تعليق د. محمد مراح ـ-الجزائر- على المقال السابق و قال فيه بالحرف : ” هل يمكن للدكتور طارق ليساوي أن يضع لنا المعالم الرئيسة لمشروعه الفكري الكبير؟ وما هي مجالاته؟ وما هي المؤسسات العلمية والبحثية التي ستدعمه بالمال اللازم له وبالقوى البشرية البحثية المتخصصة للمساعدة و المساهمة وإعداد المعطيات والبيانات المتفرقة في آلاف المواقع والمصادر والهيئات الوطنية والإقليمية والدولية، وماهي أداوات التحليل المنهجية التي اختار استخدامها؟ والنماذج التحليلية والقياسية والمؤشرات والنظريات الكبرى للنمو والتطور التي يرشحها للاستخدام في إنجاز المشروع الكبير؟ وكيف يربط ويصل المجالات الكبرى للتنمية والتطورالمعاصرين بينها على ضوء ما تعرفه من تخصصات جزئية لكل ميدان يبلغ بها الآلاف من التخصصات الفرعية والجزئية، والمناهج المتوالدة بقوة وسرعة رهيبة حسب تطور وتسارع المعرفة الإنسانية والعلمية ؟ وما هي علاقة هذا المشروع بالتطور العلمي الذي يفوق الخيال والتصور سرعة ونموا ودقة وخبرات ؟ وما دور الذكاء الاصطناعي في هذا كله؟”
بصدق شديد عندما قرأت التعليق أصابني نوع من الذهول، لأن هكذا إمكانيات لا يمكن أن تتوفر لأي شخص بمفرده مهما علا شأنه ، فكيف بفرد ضعيف مثلي جل ما تحركه هي إرادة الإصلاح ما استطعت، لأني كمسلم ملزم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حسب الاستطاعة، فقد قال الرسول عليه الصلاة و السلام : “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان” و طبعا الله تعالى يحب المؤمن القوي و يحب المؤمن عالي الهمة، كما أن الدال على الخير كفاعله، فالنبي محمد عليه الصلاة و السلام و هو خير الأنام ما كانت تتوفر له هكذا إمكانيات، ألم يكن فردا واحدا ؟ ألم يتهم بالجنون؟ و لكن ألم ينجح في تغيير مصير ملايير البشر؟ ألم يخرج عرب الجزيرة من الجهل و التخلف إلى النور و التقدم، و رسالته لا زالت هي الأمل لإخراج البشرية من مأزقها الوجودي و الحضاري …
أحيانا يصعب إيجاد الكلمات للتعبير عن واقع الحال…فإذا كانت حكومات بما لديها من ثروات و أموال طائلة عاجزة عن تحقيق إنجاز يذكر في أحد القطاعات.. برغم ما تحت يدها من مؤسسات وملايين الكوادر و الثروات الوطنية …هل من المعقول أن نطلب من فرد واحد و بقدراته الشخصية المحدودةأ ينجز ما لم تستطيعه معظم البلدان العربية بثرواتها و حكامها و شعوبها و هلم جرا..
لكن إثارتي لمضمون التعليق الغاية منه التأكيد على أن الحلول الفردية انتهت و التغيير جماعي و بتكاثف جهود الأغلبية، صحيح أن التغيير يحتاج لنخب تنظر و ترسم خريطة الطريق ، لكن مهما كانت عبقرية الاشخاص و إمكانياتهم فهم عاجزين عن تحقيق أي تأثير ما لم تكن بيئة حاضنة…لو أحضرنا أرفع العقول في العالم و عبر التاريخ و في شتى الميادين، فإنها عاجزة عن تحقيق تغيير الأوضاع القائمة في عالمنا العربي ما لم تتحرك الشعوب و تنتفض لتغيير واقعها …
نحن لن نخترع عجلة التقدم والتنمية بل كل دول العالم المتقدم والنامي مر من الظروف التي نحن فيها الأن، وأمامنا نماذج لا تعد ولا تحصى وأقرب النماذج لنا ثقافيا وتاريخيا طبعا النموذج الماليزي، الذي صاغه و أثر فيه “رجل بأمة” محمد مهاتير، كذلك النموذج التركي الذي لعب فيه أربكان دور بالغ الأهمية ، و النموذج الصيني الذي لعب في شياوبنغ دور محوري ..
وقبل ذلك تجارب دول أوروبا الشرقية وباقي دول أمريكا اللاتينية، وحاليا أوغندا وأثيوبيا ودول شرق وغرب إفريقيا التي تمشي بشكا حثيث بإتجاه الترسيخ للدمقرطة والتنمية… و كلمة السر هي الدمقرطة أي ربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل حقيقي.. من هنا تبدأ كل النجاحات!! أما ما أورده د. محمد مراح-الجزائر فهو نتيجة التقدم والنمو والمؤسسات التي تتولد عن ترسخ حكم المؤسسات في بلد ما كما هي دولة المؤسسات في أمريكا أو غيرها من البلدان المتقدمة …
وما يقال على وطني المغرب يشمل باقي بلدان المنطقة، نحن أما موجة انتفاضات قادمة لا محالة، و من الخطر الاستمرار بنفس السياسات، اليوم بلداننا مطالبة بتعديل أولوياتها الاقتصادية و الأمنية و الزراعية.. أصبح من الضروري تبني الإجراءات والتدابير التي تبناها يوسف عليه السلام لإدارة أزمة السبع سنوات العجاف..
للأسف كثير من المسلمين وخاصة في العالم العربي لا يؤخذون من الإسلام إلا القشور، الشكل لا الجوهر، المبادئ العملية التي وضعها الاسلام في جانب الإقتصاد والإدارة لم تصل لها البشرية إلا بعد جهد جهيد، ونحن على أبواب مجاعة محتملة، علينا الاستفادة من منهجية يوسف عليه السلام في إدارة الأزمة الغدائية الحالية و التي ستزداد سوءا في الأشهر القادمة…
وسورة يوسف عليه السلام نموذج حي لإدارة الأزمة، وبداية إدراك الأزمة المستقبلية بدأ برؤية للملك قال تعالى في محكم كتابه؛” وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّىٓ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَٰتٍۢ سِمَانٍۢ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضْرٍۢ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٍۢ ۖ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى رُءْيَٰىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ” ..
ومن خلال رؤية الملك تنبأ يوسف عليه السلام من خلال تفسيره للرؤية ، تنبأ بدورتين اقتصاديتين، “دورة رواج” (سبع بقرات سمان) تتبعها “دروة ركود”(سبع بقرات عجاف)، ووضع الخطط المناسبة لمواجهة دورة الركود القادم، وتبعا لذلك، أدار بكفاءة موارد “دورة الرواج” عبر تبني سياسات إدخارية حكيمة، مع الحرص على تقليص الإنفاق الأني، إلى أقصى حد ممكن مع التوسع في بناء البنية التحتية التي تساعد على إدارة أزمة “دورة الركود” ، فقد حرص على بناء الصوامع لتخزين الحبوب بسنبله أي بدون درس و في ذلك حكمة ربانية، لأن هذا الأسلوب يمنع من فساد الحبوب و أيضا للإنقاذ الدواب أيضا من خلال إستغلال التبن كعلف للمواشي.. و لولا سياسة التقشف والتوفير لكل دورة ووضع الخطة و العمل على تنفيذها، لهلك الناس في دورة الركود وحلت بالبلاد كارثة عظيمة، لأنها كانت ستتوسع في الإنفاق وتسرف في الاستهلاك مع ارتفاع الفوائض في دروة الرواج…
و يبدو لنا من خلال السورة الكفاءة الإدارية ليوسف عليه السلام ، لكن الذي لا نركز عليه كثيرا هو دور الملك “رأس السلطة” ، فالملك توفرت لدية الإرادة السياسية في الإصلاح فسعى إلى يوسف صاحب الاختصاص، للاستعانة بعلمه وكفاءته ومّكنه من حل الأزمة، فهم الملك الأول المصلحة العامة…و بعدها قال يوسف عليه السلام “اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، والمقصود بعليم كما فسره بعض المفسرين المعاصرين هو علم التنبؤ بالمستقبل، التنبؤ الاقتصادي على وجه الخصوص.. فصلاح الرأس يقود إلى صلاح باقي الجسم الاجتماعي..و لعل هذا ما أشار إليه رئيس وزراء سنغافورة السابق “لي كوان يو” ..
فيوسف عليه السلام لديه علم بالمستقبل من تفسيره لرؤيا الملك، ولذلك كان هو “أعلم” من غيره بمدى الحاجة لاتباع سياسات تقشفية في دورة الرواج، وهذا كان سبب طلبه للمنصب..و قياسا على ذلك أجاز بعض علماء الفقه والأصول للرجل الذي يملك الكفاءة و الأهلية لتولي أمر المسلمين جاز له طلب المنصب..
ومن خلال تحليل أسلوب إدارة يوسف عليه السلام للأزمة، يتبين لنا أن يوسف هو أول اقتصادي نعرفه استخدم سياسات معاكسة للدورة الاقتصادية، أي تقشف في دورة الرواج، وهي سياسات غير مفهومة، لكن يوسف كانت لديه القدرة على الإقناع وتنفيذ هذه السياسات لعلمه بتبعاتها، وهذه السياسات يدعو لها في وقتنا الحالي بنك التسويات الدولية واقتصاديون مرموقون، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 لتجنب تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلي أثناء فترات الرواج التي تقود لأزمات لاحقا.
وخلاصة القول، فإن تحقيق السيادة والأمن الغذائي في المغرب و باقي البلدان العربية يقتضي تبني سياسات عمومية مغايرة لما هو سائد حاليا، و من ذلك :
أولا – تشجيع الأساليب الفلاحية المحلية التي يمتاز بها كل بلد ويقابله في ذلك رفض السياسات الزراعية التي تأتي من الخارج والتي تعتبر غير مناسبة للثقافة الزراعية المحلية.
ثانيا-هي دعم وتوسيع الفلاحة الإيكولوجية وذلك من خلال استعمال البذور المنتجة محليا، وليس التي يتم استيرادها من المخابر الأجنبية والتي تكون غالبا محورة جينيا، مع الاعتماد على الأسمدة البيولوجية التي تضمن محاصيل زراعية صحية ونظيفة.
ثالثا- إعطاء الأولوية للفلاح الصغير من خلال تقديم الدعم اللازم الذي يحتاجه، وتوفير كل التسهيلات التي يطلبها خاصة فيما يتعلق بالحصول على الأراضي وضمان توزيع منتجاته دون عراقيل وهي المشكلة التي تعاني منها الكثير من الدول المتخلفة.
فالأزمة القادمة أزمة مياه و أزمة غداء و لا يمكن الخروج منها إلا بإعادة التوزيع العادل للأراضي الفلاحية و التوزيع العادل للثروات المائية، و إدارة هذه الموارد بعقلانية و كفاءة، مع تشجيع الزراعات المعاشية التي توفر الأمن الغدائي والسيادة الغدائية للشعب المغربي و باقي الشعوب العربية…أما الاستمرار في السياسات المتبعة، فلن يقود إلا باتجاه ثورة جياع و أزمة عطش… و سنحاول في مقال موالي إن شاء الله تعالى إستكمال هذا النقاش… و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة.