تأملات بصدد أحداث ما قبل 10 يونيو من الزمن الكوروني
انتهى الزمن المخصص لحالة الطوارئ الصحية بالمغرب (10 يونيو 2020)، لتنطلقبعده مرحلة أخرى من التمديد، أي إلى غاية 10 يوليوز 2020. وماذا بعد ؟
آراء أخرى
لكن قبل ذلك، لا بد من الوقوف على جملة تأملات، بدت لي ذات أهمية على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهي تأملات مرتبطة بأحداث وقعت طيلة هذه المدة الفاصلة بين بداية الحجر الصحي إلى 10 يونيو 2020.
(1)
قرارات السلطة و الانخراط الشعبي: من التفاعل إلى التحايل
لا مجال هنا للتذكير بقرارات السلطة المغربية إزاء جائحة كوفيد 19، فهي معروفة ومتداولة بين الناس. وهي قرارات ذات طبيعة استباقية واحترازية، شعارها الأساس: الإنسان أولا…
ولتحقيق هذا المبتغى الاستراتيجي، عملت الدولة، بمختلف أجهزتها وآلياتها، على التعامل مع هذا الوباء، بحكمة وحذر واضحين، ولا أحد يشك في ذلك، مهما كانت الانتقادات والمواقف التي هي أقرب إلى ردود أفعال منها إلى بحث عميق، مبني على معطيات وإحصائيات. كما أن بعض الممارسات التي تلجأ إليها أجهزة الدولة، لا تعكس بالضرورة التصور العام للدولة، بقدر ما هي ناتجة عن سلوكات فردية ومتفرقة. وأحيانا تكون انعكاسا خفيا لعدم التنسيق بين القطاعات المعنية، بشكل أو آخر، في اقتراح الحلول الممكنة للخروج، ولو نسبيا، من هذه الأزمة الشاملة وتداعياتها.
لكن ما يهمنا في هذا الإطار تحديدا، هو تلك العلاقة بين هذه القرارات وبين تفاعل المواطن، و التي يجوز توصيفها بكونها علاقة ملتبسة، يصعب معها تحديد بنياتها، وفهم مكوناتها. ويمكن إجمال هذه العلاقة، وفق تطور الأزمة، منذ الإعلان الرسمي عن حالة الطوارئ إلى اليوم (10 يونيو 2020)، إلى ثلاثة مكونات أساسية:
1- مكون تفاعلي: برز هذا المكون منذ انطلاق القرارات الأولى لإعلان حالة الحجر الصحي، حيث تفاعل المواطن، بشكل كبير وايجابي، مع هذه المظاهر الجديدة عليه، والتي تبدو في شكلها وممارستها متراوحة بين اللين والقسوة، بين الالتزام والإلزام.
2- مكون تواصلي: يتقاطع هذا المكون مع المكون التفاعلي، مما منح لهذه العلاقة بعدا مواطنيا بامتياز، حيث عبر المواطن في كثير من حالاته عن استعداد مسؤول، باحترام تام للتعليمات الرسمية، في شقيها: النظري والعملي. بل برهن المواطن على انخراطه، جزئيا وكليا، في مواجهة الأزمة، على الرغم من الإكراهات المرتبطة بالمعيش اليومي، وأيضا بالجانب النفسي. كما أن السلطة هي الأخرى، مع استثناءات منفلتة، استطاعت تدبير حالة الطوارئ بمنهجية تواصلية فعالة، تفاعل معها الناس، وقد عبروا عن ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي.
وبالرغم من هذه الايجابيات، لا بد من تسجيل ضعف الدولة على مستوى التواصل الاحترافي، سواء من قبل رئيس الحكومة أو مسؤولي القطاعات المعنية بالأزمة، ونعني بذلك، غياب تصور واضح، واقعي وفعال، للإجابة على أسئلة المجتمع، من قبيل: ماذا نفعل؟ كيف الخروج من الحجر الصحي؟ وأي أفق للعودة إلى الحياة الطبيعية؟ هل من مخرج وطني لتجاوز المشكلات الاجتماعية والاقتصادية؟
وما يزيد الوضع التواصلي تأزما، ما لاحظه الجميع من ارتباك على مستوى معالجة بعض القضايا، منها على سبيل المثال لا الحصر: قضية المغاربة العالقين بالخارج، أو أولئك المهاجرين الذين ظلوا بالمغرب طيلة فترة الحجر الصحي. حيث تضاربت الآراء والتصريحات هنا وهناك..
3- مكون تحايلي: في ظل المعطيات التواصلية السابقة، سيبرز مكون آخر، أشد وطأة من المكونين السابقين، حيث ظهرت على السطح ممارسات وسلوكات من قبل مواطنين، لم يعد يعنيهم قرارات الدولة، من قريب أو بعيد، إلى جانب بعض التراخي من السلطة ذاتها في ضبط النظام العام، حسب ما تمليه اللحظة الراهنة. وكأن التعاقد بين الدولة والمجتمع على الانخراط الوطني والمسؤول اتجاه هذه الجائحة بدأ يتجه نحو الانفلات، وبالتالي بروز ممارسات فردية، وجماعية أحيانا، تسيء إلى هذا التعاقد الرمزي، بفرض سياسة التحايل، بدلا من التفاعل والتواصل..
(2)
`المغرب والخليج: اختلاف الفوائد و تعميق المكائد
يعتبر حدث الإنزال الالكتروني الخليجي على المغرب خلال الزمن الكوروني من الأحداث التي لا يمكن، بأي حال، تجاوزها، ذلك أن العلاقات بين المغرب والخليج العربي، وتحديدا دولتي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، كانت دوما علاقة تاريخية، متميزة ونموذجية.
صحيح أن هذه العلاقات لم تعد هي ذاتها التي اعتدنا عليها منذ عقود خلت، وصحيح أن الخلافات بين الطرفين أضحت واضحة في المنطلق والمنتهى، لكن أن تصل درجة الخلاف إلى مستوى منحط، أخلاقيا وسياسيا، حين عمدت أجهزة إعلامية، مدعمة من الطرف الآخر(الإمارات والسعودية)، إلى الشك في قدرات المغرب، الرسمية والشعبية، على تجاوز الأزمات، بما فيها أزمة كورونا، بل ذهب بعض عملائها، ذوي العقليات الوسخة والمتسخة، إلى القذف في أخلاق العباد والبلاد، والسخرية من اختيارات المغرب الاقتصادية والسياحية…
لمزيد من فهم علاقة المغرب بالنظامين السابقين، لا بد من التذكير بأن وصول حزب العدالة والتنمية، كحزب أول في الحكومة، لم يكن بداية تأزم العلاقة تلك، بل انطلقت منذ الإعلان عن حكومة التناوب التي ترأسها الراحل سي عبد الرحمن اليوسفي، حيث تضايقت تلك الأنظمة الخليجية من تلك اللحظة الفارقة في الحياة السياسية المغربية، بل عملت، في أكثر من اتجاه، لعرقلة المسار الديموقراطي الذي انخرط فيه المغرب، ومع الأسف، كان يتم ذلك بتواطؤ مكشوف مع بعض الجماعات الإسلامية وبعض رجالات الدولة.
وخلال العهد الجديد، بدأ المغرب يتخذ لنفسه مسارا مغايرا في علاقته بالخارج، دفاعا عن الوحدة الترابية، وتنويع الشراكات الاقتصادية، والانفتاح على القارة الإفريقية، كأفق استراتيجي للتنمية المشتركة. وانطلق المغرب أيضا في مراجعة علاقاته التقليدية مع دول، شكلت سندا تاريخيا لقضاياه، ولم يكن أحد يعتقد أن الأمور ستسير في منحى آخر، بسب حكمة المؤسسة الملكية التي لا يمكن أن تزايد على السيادة الوطنية، وأن الآخر يجب أن يستوعب ذلك جيدا، وأن أي قرار إزاء قضية وطنية أو إقليمية أو دولية، إنما هو قرار سيادي، لا رجعة فيه، مهما كانت النتائج التي لن ترضي أولئك الذين صنفناهم في خانة الدول الشقيقة وذات العلاقات التاريخية، أما الآخرون الذين لا يرضيهم المغرب أصلا، فلهم النسيان…
أن تلجأ بعض هذه الأنظمة الخليجية إلى أسلوب قذر في التواصل، وأن تسيء إلى رموز البلاد ونسائها ورجالها، وفي زمن الجائحة، فذلك حقد وانحطاط ومحاولة تخريب منهج وإشاعة فتنة بين مكونات البلاد. وكان الرد شعبيا، في انتظار أن تحسم الدولة في طبيعة هذه العلاقات ومستقبلها، بالحكمة المعهودة، والنضج السياسي، والعمل الدبلوماسي الرزين.
إن ما قامت به جحافل الذباب الالكتروني وغير الالكتروني القادمة من أنظمة، ترى أن وضعها الاقتصادي كفيل بتناسل الأتباع، لن يؤدي إلا إلى مزيد من المقاومة الوطنية ضدا في التبعية وتجلياتها، والتي يمثلها بعض منا، بانتهازية مبطنة، وانتماء لمصالح شخصية. لقد بات من المؤكد، أن المغرب لن يرهن أفقه الاستراتيجي باختيار نموذج خارجي ما، ولعل تجربة الزمن الكوروني أثبت لنا أولا، وقبل العالم، أن المغرب قادر على ضمان أمنه، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، معتمدا في ذلك على قرارات ملكية شجاعة، و كفاءات وطنية، وانخراط شعبي. وبإمكانه تحقيق نموذجه الخاص، متى توفرت الشروط الحقيقية لإقلاع ديموقراطي، يعيد النظر في الأخطاء الداخلية، ويقيم اختياراته الخارجية، من أجل أن يضع له قدما في هذا العالم الذي لن يكون كما كان بعد الآن..
(3)
المغرب والجزائر: بين استمرار العقدة و اجترار الهدنة
حدث ثالث خلال الزمن الكوروني، هو الآخر، يحتاج إلى وقفة تأمل، نظرا لحساسيته وطبيعته، و التي ألفنا مبناه ومعناه، إنه الخطاب الجزائري الرسمي. قد يقول قائل: إن هذا الخطاب طبيعي بحكم الخلافات البينة بين البلدين، لكن اليوم، أصبح الخطاب ” زايد نغزة بزاف “، حيث تفاقمت العقدة المغربية، إلى درجة تطابقها و حكاية ” سقطت الطائرة في الحديقة..” .
انطلق مسلسل هذا الخطاب، كما هي عادته، بتصريحات رسمية معادية للوحدة الوطنية؛ تلتها رسائل عسكرية مشفرة؛ واستدعاء السفير المغربي؛ وإقحام مفتعل للمغرب في علاقات الجزائر بدول أخرى (فرنسا على سبيل المثال..)، ثم بعد ذلك، نشر الأخبار الزائفة عبر وكالة الأنباء الرسمية، إلى جانب القنوات التلفزية التي كثفت من حملتها المسعورة اتجاه المغرب، وتحميل هذا الأخير كل المشكلات الداخلية والخارجية للجزائر.
أمام هذا المسلسل التصاعدي، الذي لا نعرف مداه، حيث تختلط الكوميديا بالتراجيديا، لا بد من وضعه في إطار تحولات قادمة، داخلية وإقليمية، قد تعصف بكثير من المسلمات، وقد تزيح عقليات بائدة.
بالنسبة للتحولات الداخلية، هناك الحراك الشعبي الذي ستزداد حدته، وقد يأخذ مسارا آخر، عماده المواجهة الفاعلة، بالرغم من أنها غير مهيكلة. كما أن تداعيات الزمن الكوروني على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لن تكون رحيمة بالدولة الجزائرية، وبالتالي لن تستطيع، وفق المعطيات الواقعية والمؤشرات المقبلة، تدبير الأزمة الداخلية، ناهيك عن الصراع الخفي بين رجالاتها، وأجهزتها، إلى جانب حالات الارتباك والالتباس التي قد تعصف بالمشهد كله.
أما بالنسبة للتحولات الإقليمية، فيجسدها اليوم محور ليبيا، كفضاء معقد، تتصارع داخله دول وجيوش ومصالح، كما تتنازع حوله قوى وايديولوجيات، ذات اليمين وذات الشمال. الجزائر معنية بهذا الفضاء، بشكل أو آخر. لذلك، لا بد أن تنعكس نتائج الواقع الليبي على منطقة شمال إفريقيا عامة، والجزائر خاصة.
وقد نضيف تحولات أخرى، ذات بعد عالمي، والتي لن يستثنى منها أحد، في سياق التجاذب الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وربما قد تظهر قوى صاعدة، تسعى إلى تمرير ايديولوجيتها وبضائعها في السوق السياسية والاقتصادية، باستراتيجيات جديدة، وتقاطبات منفعية، لفرض هيمنتها وحضورها في الخريطة العالمية، وبخاصة داخل مجالات هشة، تفتقد أنظمتها لبناء ديموقراطي متين، قادر على تحصين الذات. ودون أن نغفل بعض القوى التقليدية التي عادت إلى الواجهة، بحكم تجربتها، وأيضا بسبب تغيير أفقها الاستراتيجي (روسيا، مثال على ذلك).
بناء على هذه التحولات، سيجد النظام الجزائري نفسه، أمام خيارات صعبة، بالرغم من ادعائه، بكونه تجاوز خياراته السابقة خلال فترة بوتفليقة، أي ترتيب أولوياته الداخلية والخارجية، كمحاولة تعديل الدستور، ومحاربة الفساد، وتنويع شراكاته وشركائه، و نهج سياسة استباقية ..الخ. وهي اختيارات مرحلية، أساسها العقدة المغربية في تجلياتها التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية. ولعل ما يؤكد ذلك، تصريحات رئيس الدولة نفسه، في مناسبة أو غيرها، والتي لا تليق بنظام جديد- قديم، يسعى إلى الاستجابة لمطالب الحراك الداخلي، وهي مطالب تضعه في المحك الحقيقي لمشروعيته وشرعيته. عوض ذلك، يلجأ هذا النظام إلى تكثيف الخطاب العدائي للمغرب، بجرعات إضافية، وتكييفه لتغطية عثراته الداخلية وتعثراته الخارجية. وكان الأجدر فيه، والعالم يعيش جائحة كورونا، أن يتفرغ لإنقاذ شعبه من تداعيات هذه الجائحة، وهذه من مسؤولياته، بدلا من تحريك أجهزته الإعلامية، الرسمية منها وغيرها، ضد المغرب ، وكان آخرها تصريح الناطق الرسمي باسم الرئاسة الجزائرية ، الذي يسير في اتجاه ترسيخ العقدة المغربية، بل اعتبر بأن التوتر الأخير بين بلاده وفرنسا، إنما هو نتيجة لوبيات فرنسية معروفة بارتباط مصالحها ” بأطراف موجودين في المنطقة تكن حقدا للجزائر”.
(4)
رحيل اليوسفي: بين تقدير لتراثه و تبخيس لمنجزاته..
لم يكن حدث رحيل المناضل الكبير عبد الرحمان اليوسفي حدثا عابرا، بالرغم من ظروف الزمن الكوروني، بل كان مناسبة للتذكير بخصال الرجل وتاريخه وأهميته في تاريخ الزمن الراهن بالمغرب. لكن ما يهمنا في هذا الحدث تحديدا، هو فعل التبخيس الذي بدأ يسود ثقافتنا السياسية والإعلامية، أما على المستوى الاجتماعي، فحدث ولا حرج.
فمنذ الإعلان عن وفاة الراحل، عبر العديد من المغاربة، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال مقالات صحفية، وغيرها، على تقديرهم لشخصه، واحترامهم لشخصيته، بل جعلوه رمزا وطنيا استثنائيا، قل نظيره في تاريخ المغرب الراهن، بحكم زهده وتواضعه وتضحياته. لكن، وأمام هذا الاعتراف بمنجزات الراحل، حتى قبل توديع جثمانه، انطلق البعض في تبخيس تاريخ الرجل، محاولة منهم تمييع مساره النضالي الوطني. لن أدخل في جدال مع هؤلاء، فمن حق الناس التعبير عن آرائهم، مهما كانت قاسية، لكن الذي أود التأكيد عليه هنا، هو أن غياب سي عبد الرحمان اليوسفي، خلق ردود فعل، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة توجهات:
• توجه حداثي : يرى في هذا الغياب يتما وطنيا، حيث لم يعد بالمغرب اليوم رجال سياسة ودولة
في قامة الراحل، وبالتالي فهو نموذج نادر في التاريخ السياسي للمغرب الراهن ، كما أن أثره سيظل موشوما في الذاكرة الوطنية.
• توجه محافظ : لا يريد من هذا الغياب مناسبة للتذكير بمرحلة سياسية مفصلية من تاريخ المغرب
الراهن. وقد ذهب البعض من هذا التوجه إلى التشكيك في مصداقية الراحل وانتمائه الايديولوجي، كما ربط البعض الأخر اسم الفقيد باسم آخر، تحمل هو الآخر مسؤولية رئاسة الحكومة، دلالة على أن فرادة اليوسفي غير ممكنة. وهي محاولة من هذا التوجه، أو البعض منه، التشويش على لحظة رحيل زعيم سياسي كبير، يمكن أن تساهم في إعطاء نفس جديد لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومعه تيارات يسارية أخرى. أو بالأحرى استثمار تراث سي عبد الرحمان، على المستوى الإنساني و الأخلاقي و النضالي، ليكون دافعا رمزيا ، قادرا على تجاوز الفراغ السياسي والصراع المصلحي ، وبالتالي تمييع المشهد السياسي.
• توجه شعبوي: يتراوح بين التوجهين السابقين، تمثله ردود فعل مواطنين على وسائل التواصل
الاجتماعي، بعضها تعكس الاحترام التام للراحل، ليس لنضاله أو قيادته لحكومة التناوب التوافقي أو لتجربته السياسية، بل لزهده و لنظافة يده، أي باعتباره رجلا صالحا، قل نظيره في هذا الزمن المغربي. أما البعض الآخر لتلك الردود، فقد ركزت على كونه من أهل اليسار، بكل ما يحمله هذا التوصيف من الصورة النمطية التي تتمثلها الذاكرة المشبعة بالفكر الوهابي. وهناك من لا يعتقد بهذا الجانب أو ذاك، شباب لا علاقة لهم بالمشهد السياسي، ينظرون إلى الواقع برؤية سلبية، لا يهمهم من المشهد كله سوى العثور على عمل أو الهجرة إلى الخارج. ولهذا لن تستبعد مسؤولية تخريب النصب التذكاري لاسم الراحل لهذا التوجه. و في انتظار التحقيق القضائي في هذه الواقعة، نؤكد مرة أخرى على أن ثقافة التبخيس التي بات أصحابها، بوسائلهم التواصلية المنظمة، يلجؤون إليها كلما أصابتهم مصيبة..ويجرون وراءهم العوام، لأهداف ايديولوجية، وأحيانا لأهداف خارجية، بوعي أو بغير وعي، خدمة لأجندات معينة، ستكشف الأيام عن مصادرها، حتى وإن كشفوا عن هوياتهم..
أما اسم عبد الرحمان اليوسفي، فسيظل خالدا في الذاكرة الوطنية، وغيابه هو حضور في التاريخ السياسي المغربي الراهن، وصمته بلاغة ، ومقاومته للزمن الرتيب هو قدرته الإنسانية العالية للانتصار لقيم المواطنة والعدالة والحداثة، وكفاحه الطويل منبع أصيل…
ومن يسعى إلى نكران تراثه، مهما اختلفت التأويلات، فهو ضد التاريخ والذاكرة و الإنسانية.
(5)
العثماني وبنموسى: سجال بين الانتماء و الولاء
نشرت سفيرة الجمهورية الفرنسية بالرباط تدوينة، عبرت من خلالها عن شكرها للسيد شكيب بنموسى رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، لإشراكها في التقرير المرحلي لعمل هذه اللجنة. أمام هذا التصريح، الذي تناقلته وسائل الإعلام الوطنية، وتداولته وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن أحد يتوقع تداعياته، الايجابية أو السلبية، على المشهد العام، إلى درجة الاتهام المباشر لرئيس اللجنة بالخيانة. فانقسمت الآراء، بين مؤيد ومعارض، بين من أراد الانتقام لطبيعة عمل اللجنة وهندستها، لأهداف شخصية وسياسية، فوجد في تدوينة السفيرة مناسبة لتقديم رئيس اللجنة كبش فداء. وهناك من عاب على هذا السلوك بكونه لم يلتزم بواجب التحفظ في مشروع ملكي، له خصوصيته السيادية. بينما ذهب البعض إلى تحميل المسؤولية للسيدة السفيرة التي لم تلتزم، هي الأخرى، بمقتضيات العرف الدبلوماسي. وبالرغم من تصريح رئيس اللجنة، الذي اعتبر لقاءه بسفيرة فرنسا، إنما يندرج ضمن سلسلة لقاءات بممثلي دول أخرى أثناء فترة الحجر الصحي في إطار المجاملة، إلا أن ذلك لم يشفع له، فبالنسبة للمعارضين، يرون بأن هذا العمل، هو من اختصاص وزير الخارجية والتعاون، وبالتالي على السيد السفير مغادرة منصبه ومحاسبته على هذه الزلة.
في الطرف الآخر، والذي يجد في هذا الهجوم على رئيس اللجنة مبالغة وتحاملا غير مبررين، فإنه يعتبر بأن المسألة عادية، وبخاصة مع فرنسا التي يشكل التشاور مع ممثلتها بالرباط تقليدا دبلوماسيا، لا أقل ولا أكثر. وبالتالي فالمؤيدين لهكذا لقاء، ينزهون رئيس اللجنة عن ولائه لفرنسا، بل يؤكدون بأن الهجوم عليه، وعلى عمل اللجنة، إنما مصدره تصريف حسابات سياسية وشخصية.
هكذا تناسلت ردود الأفعال بشأن حدث بنموسى، الذي أعاد إلى الأذهان حكاية ” ماما فرنسا”، بين مدافع عن الهوية، في أقصى درجاتها وحالاتها، وبين انتماء فرانكوفوني، تتقاسمه المنافع والمصالح، في الاقتصاد والثقافة على حد سواء. وبينهما أسئلة كثيرة، ترتبط بالمغرب الراهن: أي مغرب نريد ؟ بأي أفق ؟ هل نتائج التقرير الشامل للجنة النموذج التنموي الجديد تحمل في طياتها أجوبة على التحديات والاكراهات والرهانات ؟ في انتظار ذلك، لكل حادث حديث، ولكل مقام مقال…
حدث آخر، ليس ببعيد ، في إشكاليته، عن الحدث السابق ذكره، ويتعلق الأمر بالتصريح الصحفي الذي أدلى به السيد رئيس الحكومة لإحدى وسائل الإعلام القطرية (عربي بوست) عن خطة الحكومة
للخروج من الحجر الصحي. لكن ما أثار سجالا واسعا حول هذا التصريح، كونه يأتي زمنيا قبل يوم
الأربعاء 10 يونيو ، حيث لقاء رئيس الحكومة بنواب الأمة بالبرلمان، قصد عرض المنهجية المتبعة
في تدبير الحجر الصحي. ولعل هذا ما جلب على السيد العثماني الكثير من الانتقادات ، منها ما هو مرتبط بالارتباك بين قطاعات حكومته، على مستوى التصريحات المتضاربة، مما يدل على غياب التنسيق والعمل المشترك، المنسجم والمتكامل. ومنها ما هو متعلق بطبيعة تواصله مع المواطنين، ليصل أوج هذا الانتقاد إلى خطورة منح سبق صحفي لمنبر إعلامي أجنبي على حساب المنابر الوطنية، أو بالأحرى المؤسسة الدستورية (البرلمان).
إذن، سنعيش الحدث نفسه الذي وقع لرئيس لجنة النموذج التنموي الجديد، ولو بدرجة أقل من حدث رئيس الحكومة، في ما يخص السجال حول ثنائية الانتماء للوطن والولاء للآخر.
كلا الحدثين يشي بأزمة تواصل حقيقية، وصراع سياسي خفي، وتضارب مصالح ايديولوجية واقتصادية، كما أنهما انعكاس لمشهد مغربي، مرتبك وملتبس، ازداد تأزما بفعل الجائحة وتداعياتها. وبات هذا المشهد عرضة لردود أفعال، متسرعة ومتناقضة، استئصالية وعدمية، لا تستثني، مع الأسف، حتى الذين يفترض في ذائقتهم القدرة على التحليل والحكمة. وعوض التفكير العميق في أسئلة الزمن الكوروني، والبحث عن حلول واقعية واستشرافية لما بعد الجائحة، سنبقى رهائن مشهد سوريالي بامتياز، كل فريق يوجه أتباعه ومريديه لاصطياد الأخطاء، مهما كانت النوايا، في سبيل تقديم طهرانية مفتعلة ومتعالية. أما العامة من الناس، فالتيه هو المسكن والملجأ والمصير. فلا زيارة بنموسى لسفيرة دولة صديقة، ولا تصريح رئيس الحكومة لصحيفة دولة شقيقة، قد يشغلهم عن سؤال وحيد: أين نحن من هذا الذي يقع ..؟ فأما الضجيج فيذهب جفاء…