غابرييل غارسّيا ماركيز فى ذكرى رحيله الخامسة
“مئة سنة من العزلة” يوميّات قرية أسطوريّة
آراء أخرى
بعد إحتفاله بعيد ميلاده 87،فى بلد إقامته المكسيك، غيّب الحِمام فى 17 أبريل (نيسان) عام 2014 ” غابرييل غارسيا مركيز” أحد أكبر الرّوائيين فى القرن العشرين ، الحاصل على جائزة نوبل العالمية فى الآداب عام 1982 ، كان صاحب الأعمال الإبداعية الرّوائية الكبرى فى العالم الناطق باللغة الإسبانية ، والآداب العالمية، مثل ” مئة سنة من العزلة ” التي قال عنها بابلو نيرودا أنها من أعظم الروايات التي كتبت فى اللغة الإسبانية بعد ” دون كيخوته دي لا مانشا” لمغيل دي سيرفانتيس، و” الحبّ فى زمن الكوليرا” والكولونيل ليس لديه من يكاتبه” ” ويوميات موت معلن” ، و” الجنرال فى متاهته”،و”خريف البطريرك” وسواها من الأعمال الإبداعية العديدة فى مختلف المضامين، والمجالات الأدبية الأخرى .
ولد ماركيز فى ” أراكاتاكا” فى 6 مارس 1927 التي كانت ضيعة، أو قرية مغمورة فى الكرايب الكولومبي، والتي تحوّلت فى روايته الشهيرة “مائة سنة من العزلة ” إلى ” ماكوندو”، حيث تترعرع، وتتعايش، وتتآخى ،وتتعانق الحقيقة، والخيال، والأسطورة، والخرافة، والأحلام، والرّغبة، والتطلّع ، لقد فتحت آداب مركيز الباب على مصراعيها للإبداعات الأدبية فى أساليب جديدة مبتكرة ، كان كذلك من أبرز وأهمّ كتّاب “البّوم” الأدبي الشهير للرّواية الإسبانية- الأمريكية فى العالم أجمع،ومن أشهر كتّاب موجة ” الواقعية السّحرية “فى الآداب الأمريكية اللاتينية ،التي إنتشرت وإشتهرت منذ السبعينيات من القرن المنصرم .
كان قد تجدّد الحديث بإفاضة عن ” غابرييل غارسيا ماركيز” قبل وفاته ، حيث نشرت كتب عدّة حوله وهو المثير دائما للجدل فى حياته الخاصّة ورواياته ، وتصريحاته ،أو مع أصدقائه وخلاّنه، أو بخصوص صحّته، وكبريائه،وخيلائه، وعناده ، والمشاكل التي بدأت تنتابه بخصوص الضّعف الذي كان يعاني منه فى ذاكرته، وإلقاء الأضواء على مهنته القديمة والمتجدّدة دائما وهي الصّحافة. ناهيك عن تهافت دور النشر فى إسبانيا ومختلف بلدان أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية على تكريمه وإعادة طبع كتبه ورواياته،وخطاباته التي كانت قد جُمعت فى كتاب مستقل تحت عنوان” لم آت لألقي خطابا”، وكان آخر كتاب نشر عنه يحمل عنوان “غابو..صحافيا” ، وقبله بقليل صدرعنه كتاب آخر تحت عنوان”غابو رسائل وذكريات ” لصديقه الحميم بيلينيو أبوليّو ميندوسا .
كاتب ملأ الدّنيا وشغل الناس
من أشهر روايات ماركيز”مئة سنة من العزلة”..ماذا إذن فى هذه الرّواية ؟ وما هي أهميتها بالنسبة لباقي أعماله..؟ وماذا تخبّئ أو تخفي بين دفّتيها..؟ وماهو سرّ أو سحر نجاحها وشهرتها وإنتشارها ونقلها إلى مختلف لغات الأرض..؟ (ترجمت إلى 37 لغة بما فيها العربية).لقد توّج غابو بهذه الرواية رحلته الطويلة فى عالم الخلق والإبداع بجائزة نوبل فى الآداب عام 1982، كتبها فى “المكسيك “ونشرها فى” بوينوس أيريس”ولم يكن يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين من عمره.وكان أوّل نقد كتب حول هذه الرواية بقلم الناقد المكسيكي “إيمانويل كاربايو”عام 1967 عندما قرأها وهي بعد مطبوعة على الآلة الرّاقنة ، ولم تكن قد صدرت بعد،لقد ذهب هذا الناقد فى ذلك الوقت إلى القول : ” إنّه وجد نفسه أمام واحدة من أعظم الرّوايات فى القرن العشرين “، ولم يخطئ.
خرج ّغابو” من قريته عام 1930، ومن كولومبيا عام1954 إلاّ أنّه ظلّ وفيّا لقريته وللذكريات التي عاشها هناك. وعندما بدأ يكتب قصصه ورواياته قفزت شهرة هذه القرية إلى مختلف أنحاء العالم، ونطقها الملايين.ونظرا للحرارة المرتفعة المعروفة عن هذه القرية فإنّنا نجد هذا الحدث ينعكس على معظم قصص مركيز،وهو يرمز إلى هذه القرية فى هذا العمل الأدبي الكبير باسم “ماكوندو”.
المهاجرون العرب فى هذه الرواية
يتعرّض ماركيز فى هذه الرواية التي تنتمي إلى مدرسة الواقعية السّحرية للمهاجرين العرب الأوائل الذين وصلوا إلى “أراكاتاكا” (ماكوندو) فى الرّواية، وعن مهن التجارة التي كانوا يزاولونها، وعن البّاعة المتجوّلين، وبائعي الحِليّ والمُجوهرات، وهو يستعمل فى تسميتهم مصطلح “الأتراك” (وهو مصطلح غير دقيق سُمّوا كذلك فقط لأنّهم عند هجرتهم كانوا يحملون جوازات سفرمُسلّمة لهم من الدولة العليّة العثمانية التركية) وتبدو فى الرّواية بعض العادات والتقاليد العربية، ف “شارع الأتراك” سيصبح فى الرّواية فضاء سيعرف تغييرات وتحوّلات واضحة سيكون لها تأثير على معظم سكان “ماكوندو” التي يقول عنها مركيز أنّها ” سرعان ما تحوّلت من ضيعة صغيرة إلى قرية نشيطة ذات دكاكين وأوراش للصّناعات التقليدية ،وإلى طريق تجاري دائم من حيث وصل العرب الأوائل” الذين تعاطوا التجارة والمقايضة وأحدثوا فى القرية تنظيماً إجتماعياً أساسياً ، وحياة ثقافية،وحملوا معهم “ألف ليلة وليلة” وقصصها العجيبة وخيالها المجنّح. إنّ وصول هؤلاء المهاجرين إلي القرية وإنتشار مفهوم التجارة فيها قد يكون تلميحاً أو رمزاً لوصول الإسبان إلى العالم الجديد .
بعد قراءة متأنيّة لهذا العمل الإبداعي الرائع قمتُ بإجراء إحصاء دقيق للكلمات العربية أو التي تنحدر من أصل عربي الموجودة فيه فإذا هي كلمات عديدة جدّا لاحصر لها مبثوثة هنا وهناك فى هذه الرّواية منها على سبيل المثال: القطن، المسجد،السّوسن، الضّيعة،الجلباب، المخزن، العقرب،الكحول،الكافور، القطران،الزّيت، المسك، السّوط، الياسمين،الزّهر،الخزامى، ألبركة، السّاقية، اللقّاط،، الزعفران، الزناتي(التي إستقرّت فى الإسبانية بمعنى الفارس)،الكيل ،الثرثرة ، الشراب،القاضي، القائد، البابوش (عربية- فارسية) وسواها من الكلمات الأخرى، ولقد فوجئ العديد من المثقفين والكتّاب الكولومبيين بذلك عندما ألقيتُ محاضرة حول” مئة سنة من العزلة” لمركيز باللغة الإسبانية منذ بضع سنوات خلال أمسية أدبية ب “نادي نوغال” المرموق ببوغوتا ، إذ يصعب فى كثير من الحالات ردّ بعض الكلمات العربية أو ذات الأصول العربية التي إستقرّت فى اللغة الإسبانية منذ قرون إلى أصلها أو أثلها العربي.
فصول مستقلّة
ويشير الناقد “إمانويل كاربايو” أنّ مركيزبأعماله الروائية المبكّرة قد أقام إلى جانب روائيين آخرين أسس وقواعد الرواية الجديدة فى هذه القارة، وقد نال إعجاب القرّاء والنقّاد إلى جانب كتّاب مثل الراحل “كارلوس فوينتيس” و”ماريو برغاس يوسا” الذين إنطلقوا من إلتزامهم باللغة ثمّ عمدوا إلى التحليل العميق لواقع الإنسان الأمريكي اللاتيني، وعالجوا بذكاء أساطير وإرهاصات العالم الذي نعيش فيه ،وتعكس أعمالهم حياة قارّة بأكملها.
ويشير الكاتب أنّ الروائيين الذين يعتبرون إخوة كبار لماركيز وهم “كاربنتيير” و”كورتثار” و”مارشال”و”رولفو” أمكنهم كذلك خلق فنّ روائي جيّد على مستوى القارة. وأنّ ” أوّل قصّة كتبها مركيز لم يكن عمره يتجاوز 19 سنة ونشرها بعد ثماني سنوات وهي” تساقط الأوراق” صدرت فى بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية” الكولونيل ليس لديه من يكاتبه” وهي رواية قصيرة أو قصّة مطوّلة أنهى كتابتها فى باريس عام 1957، ثم ” السّاعة النحسة” التي حصل بها الكاتب على أوّل جائزة أدبية عام 1961، وفى عام 1967ظهرت “مائة سنة من العزلة”، التي تعدّ من أجود الرّوايات التي شهدتها اللغة الإسبانية فى القرن المنصرم .
لقد قدّم مركيز”للرواية الإسبانوأمريكية” ما قدّمه وليم فولكنر” للرّواية الأمريكية”، أنّ قصصه القصيرة هي بمثابة فصول مستقلة لم تجد مكانها فى رواياته، أو ربما كتبت لتنير حياة بعض الشخصيات أو تفسير بعض أحداث هذه الروايات الأكثر إنتشارا فى العالم ، وهي قصص مكتوبة بطريقة تقليدية تجعل بينها وبين الماضي حدّا بواسطة الصّمت الذي يغدو فى أعمال مركيز صوتا مدويّا صاخبا مثل كلماته مائة سنة من العزلة نفسها التي هي سرد لتاريخ شعب.
التاريخ والأدب
أوّل ما يثير الإنتباه بعد إغلاق كتاب “مائة سنة من العزلة” هو عدم تسلسل أحداثها التاريخية، ولكنّ هذا النوع من عدم التسلسل بدلا من أن يصبح عاملا يلغي قيمة الرواية يجعلها تتوفّر على بعض الخصائص التي أهّلتهأ لتحتل مكانا خاصّا بين الأعمال الروائية التي نشرت بعدها، فعلى خلاف الرّوائيين الآخرين المعاصرين لماركيز، إنه فى هذه الرواية يسعى ويحقق مبتغاه فى البحث عن الأصالة بواسطة سبل قد تبدو للوهلة الأولى فى الظاهر رجعية ،وهذه السبل بدلا من أن تتّجه نحو المستقبل فإنها تسير فى إتجاه معاكس للتاريخ وللأدب بغية إكتشاف الماضي،هذا الماضي الذي أسهمت العزلة والوحدة فى تنقيته وتجليته وتصفيته وأصبح يكاد يكون مجهولا ولكنه فى الوقت نفسه هو جديد بالنسبة للقارئ مثل صحيفة اليوم التي بين يديه، فهناك يعثر على ما كان يبحث عنه منذ 1955 عندما صدرت قصّته ” تساقط الأوراق”، فكأنك تلتقي مع رجال يعيشون فى الخيال، وهو هنا نوع من البناء إنطلاقا من الهدم ،الحبّ، القهر، والقسوة، والمعاناة . رجال وعالم يقفان فى الرّصيف المقابل للمعتقدات الإجتماعية والأعراف الموضوعية والأفكار السياسية والمعتقدات الدينية.والمحسوبية والمنفعية ، وأخيرا المخدّرات التي تجعل الحياة ممكنة ومستمرّة فى مجتمع مّا ، كما هو الشأن فى قرية” الكولونيل ليس لديه من يكاتبه”، وفى”الساعة النحسة”،فقد كان من المستحيل الجمع بين التاريخ والشخصيات .إنّ غارسيا مركيزأمكنه أن يجد فى قرية ” ماكوندو” وهوالإسم الذي يرمز إلى إسم قريته الحقيقية “أراكاتاكا” .رجالا وطرائق عيش والصّلات التي تربطهم بعوالم سابقة لوجودهم .فى الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الشخصيات إلى أناس أنانييّن، وأصدقاء وصوليين لا تهمّهم سوى المصالح المادية الآنية ، فقرية ماكوندو هي (الفردوس الأرضي) والفرصة المناسبة الوحيدة المتاحة و الممنوحة للإنسان ليحقق أحسن أمانيه . فى الفردوس لا يمكن لأعداء الرجال إستغلال الفرص لتحطيم وإفساد السعادة التي يوجدون فيها، إنّ (مؤسّسة ماكوندو) التي توازي فكرة أمريكا، حيث أمكن للأوربييّن منذ ” الإكتشاف” تعزيز مواقفهم فيها، واستقدموا معهم فى الوقت ذاته عنصر الإستمتاع بالحياة وكذا زرع بذورالشرّ والكراهية والتحطيم ،التي ستترك القرية فيما بعد شبيهة بقرية متحجّرة أو مصنوعة من حجر. ومثلما ذهب الرّوائي المكسيكي” كارلوس فوينتيس”عندما قرأ مائة سنة من العزلة فوصف هذه الرواية بأنها ” كتاب أمريكا اللاتينية” . يرى “إمانويل كاربايو” كذلك أنّ هذه الرّواية بالفعل هي بمثابة “كتاب مقدّس” فى وصاياه أو عهوده القديمة والجديدة الذي يحكي فيها تمشيا مع قواعد الفن تاريخ شعب مختار،فى قرية ماكوندو منذ البداية إلى حلول الكارثة ،منذ أن وطئ هذه الأرض الغرباء الوافدون، وجعلوا من هذه الضّيعة قرية أسطورية حتى اللحظة التي يهيمن فيها النمل على الأرض، ويلتهم آخروليد من آخر رجال هذه الذريّة والسلالة.
الرواية تبدو للقارئ إنطلاقا من منظور آخر، وكأنّها رواية مغامرات ،حيث تمتزج فيها البطولة بالأسطورة. كما تبدو بالنسبة للقارئ غير النابه وكأنّها قصص ألف ليلة وليلة فى صيغتها الأمريكية التي تلخص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ إستقلالها إلى الوقت الحاضر.هذه اللعبة التي تتطلب بعد التراجع والتقهقر غيرالمعلن عنهما فى النصّ تشير إلى هذه القارّة فى بعض عهودها الغابرة، وهكذا نجد تكهّنات تشحذ الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة وقرن أوعصر الأضواء ويشطح”مركيز” بخياله ، ف “مكياديس” هو العالم الكيماوي فى العصر الوسيط ، ولقد إعترف مركيز أنه قد إستوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ الفرنسي المعروف “ميشيل دي نوسترداموس” وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان فى القرن الثامن عشر ربما لذلك يموت مرّتين، ويحتمل أن يولد من جديد ليدلنا ويرشدنا كيف ستجد “ماكوندو” منفذا أو مخرجا (أي أمريكا اللاتينية) من الموت الذي يحكم به عليها ظاهريا مركيز فى نهاية الرّواية. وهذه الخلاصة تتصادف بشكل يثير الإنتباه فى البداية، فمائة سنة من العزلة تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرجال فى المنطقة لإستيطانها ،وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون لأسباب عدّة من الجبال مثل المرّات السابقة لإستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فسادا. من جهة أخرى “مكياديس” يمكن أن يموت ويولد لأنه يقطن ويسكن أوّلا وأخيرا فى القارة الأمريكية ،حتى وإن كان يجرى فى عروقه الدم الأجنبي ،إنه لا يفرق أو يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت فى هذه المنطقة ،أيّ فى أمريكا التي لا يموت شئ فيها تامّا أو كاملا أو نهائيا (فلنفكر فى النظام الإقطاعي والمذاهب الليبرالية) كما أنّه لا يولد أيّ شئ فيها بالتمام أو فى شكله النهائي.
رواية ” مائة سنة من العزلة” تطرح معضلة وهي:إلى أي حدّ ينبغي للرّواية وباقي الأغراض الأدبية الأخرى أن تعكس الظروف الواقعية وفي هذه الحالة للبلدان السّائرة فى طريق النموّ ؟ أو إلى أيّ حدّ يجوز لنا إذا وضعنا فى إعتبارنا أنّ الرواية هي فى يد الرجال المتدربين مثل الأوربيين والأمريكيين بأن نذهب ونقدّم للقرّاء صورة بنيوية وجمالية حسب ما يحدث فى المختبرات الأدبية الأكثر تقدّما فى البلدان التي تعيش وتستمتع بالإمتيازات التي يوفّرها لها العصر الحاضر..؟ إنّ إجابة مركيز تبدو مقنعة ، فإن” مائة سنة ” تقول:” إن التطوّر والنموّ الإقتصادي لا ينبغي لهما أن يصبّا بالضرورة فى رواية طيّعة أو فى رواية تتجاهل الواقع والإطار التاريخي للقارّة”.
تطويع الأسلوب
إنّ وجهة نظرمركيزلا يمكن أن يعاتب عليها، لأنّه لا ينكر فضل هذه الرّواية الجديدة، ولا الإكتشافات القائمة فى التقليد الأدبي الأمريكي اللاتيني، وهكذا يمكن أن يقدّم بإرتياح للقرّاء عملا أمريكيا ،وهو عمل لا يمكن أن يغبط تلك الأعمال التي تكتب فى أماكن أخرى من العالم. أنّ مائة سنة من العزلة تعتبر من أدقّ وأعمق وأجود الروايات، إلاّ أنّه إلى أيّ حدّ يمكن إستعمال هذا الوصف دون أن ينأى عن الحقيقة..؟
إنّ البنية ، والتاريخ والشخصيات والأسلوب والجوّ الذي تدور فيه الرّواية كلّ ذلك يفي بدقّة متناهية بالغرض، فالرّواية إستعراض فى أرقى مظهره للحياة والألم والمعاناة ،والموت والأمل ،حيث الخيال والعبث وكلّ ما يمكن أن يتخيّله المرء يغدو أمامه حقيقة ماثلة.
إنّ مركيز بعد كتابته لهذه الرواية يمكن أن ينام هانئ البال مطمئنّ الخاطر حتى وإن كان هناك إحتمال مؤدّاه أن هذا العمل الأدبي قد يقصي الكرى عنه كالأرق الذي كانت تعاني منه ” ماكوندو” وستظلّ كذلك ما تبقىّ لها من الأيام. ويشير “كاربايو” إلى أنّه بعد أن أعاد قراءة نقده الاوّل لهذه الرواية الذي نشره عام 1967، ينبغي له أن يتنبّه إلى أنّ التنبّؤات أو قراءة الغيب فى الأدب يمكن أن تبتعد وأن تنأى عن الصّواب” . ففى هذا العرض توقّع الناقد أنّ مركيز مثل رولفو وغيره من الذين بعد كتابتهم لعمل جيّد وممتاز قد يلوذون بالصّمت، ولكنّ شيئا من هذا لم يحدث مع مركيز فقد إستمرّ فى الكتابة والإبداع، فمن سنة 1967 إلى اليوم نشر كتبا كثيرة جديدة.
ويشير الناقد أنّه مع ذلك ليس متيقنّا من أنّ مركيز قد كتب بالفعل أعمالاجيّدة كما هو الشأن فى حينه بالنسبة لمائة سنة من العزلة، وأقلّ منها مرتبة ” الكولونيل ليس لديه من يكاتبه”وهو يرى فى أعماله بعد سنة 1967 نوعا من الحنين نحو عالم ضائع ولا يمكن إسترجاعه. إنّ مركيز الذي جاء بعد (مائة سنة) ليس مكتشف أقطار ومناطق ومواطن أدبية جديدة فى عصرنا ، إنه كاتب صاحب أسلوب قويّ ومميّز ذو مقدرة وطواعية رائعة، ونكهة لذيذة فى مطبخ الأدب ممّا يفضي بالقارئ المبتدئ إلى الوقوع فى الخطأ وعدم التمييز بين “اللقطة” وبين المعاودة والإستمرارية .هناك فقط روايتان بعد مائة سنة من العزلة وهما”يوميّات موت معلن” و”الحبّ فى زمن الكوليرا” يمكن وصفهما بأنّهما عملان رائعان، إلاّ أنهما ليستا روايتين ممتازتين، وهذان العملان فى سيرة أيّ روائي آخرأقلّ موهبة من مركيز يستحقّان الإهتمام والإعجاب، أمّا عند مركيز بالذات فهما عملان يمكن قراءتهما بمتعة، ولكن ليس بنفس المتعة التي يجدها القارئ عند قراءته لأعمال أخرى رائعة للكاتب وفى مقدمتها “مائة سنة من العزلة” .
إغارسيا مركيز كان يبدو لنا وكأنّه يكتب قبالة مرآة ، ويوحي لنا بأنّه كان يتوقف بعد كلّ برهة لينظر إليها ويتأمّل نفسه مليّا وليهنّئها كلما كتب جملة أو فقرة أو إستعارة أو مجازا ،لا يعاتبه ولا يحاسبه أحد على ذلك،إنّه قد ترك وراءه التواضع وكان قبل وفاته يمشي مرحا فى خيلاء وشموخ نظرا لما حققه وأدركه من نجاح وإنتشار وشهرة واسعة.
كتاب أمريكا اللاتينية
قال الكاتب المكسيكي الرّاحل” كارلوس فوينتيس”إنّه تعرّف على غابرييل غارسيا مركيز لأوّل مرّة عن طريق الكاتب الكولومبي “الفارو موتيس” الذي أهداه فى الخمسينيات من القرن الماضي إحدى رواياته الأخيرة منبّها إياه بولادة كاتب كبير. ويشير فوينتيس أنه فى ذلك الوقت كان يشرف على مجلة” المكسيك الأدبية” التي نشر فيها نصوصا مطوّلة عبّر فيها عن إعجابه بأعمال مركيز الأولى التي وقعت بين يديه. وعاد فوينتيس عام 1963 من جولة فى أوربا وكان مركيز فى المكسيك ،ومنذ اللحظة الأولى كان إعجاب فوينتيس بمركيز كبيرا” لخفّة روحه ومعارفه الواسعة” ، ثم توالت لقاءاتهما وإكتشاف مصالح متبادلة بينهما. وهكذا دامت صداقتهما سنين طويلة ممّا شكّل سيرة ذاتية مشتركة. ويشير فوينتيس فى هذا القبيل “إن فصولا كثيرة ممّا كتبه مركيز وفوينتيس يمكن خلطها وتبادلها وإستعمال بعضها الآخرتحت عناوين متباينة مثل” ضائعون فى سوروسكو”و”ربيع براغ” و”شهادات سيّدات عصور مضت”و”ألف آحاد فى سان أنخيل”و”إرتباك صوتين”و”شخصيّات ونصوص” و”العقيد غابلات” الذي تاه عنه فى “موت أرتيميو كروث” ثم عاد فوجده من جديد فى ” مائة سنة من العزلة”، وفى فصل آخر موثوق بخيوط ملوّنة وهو”الجنرال فى متاهته” . ويشير فوينتيس إلى أنّه فى عام 1965عندما وصلته نسخة من الصّفحات الأولى من”مائة سنة من العزلة”وهو فى باريس جلس دون تفكير وكتب :”لقد قرأت كتاب أمريكا اللاتينية” .وإسترجع فوينتيس ذكريات عاشها إلى جانب الكاتب المبدع الذي يفضل أن يسمّيه “غابو” فقط والذي قال له ذات مرّة ” إنّنا نكتب نفس الرّواية الأمريكية اللاتينية ، فصل كولومبي كتبته أنت، وفصل مكسيكي كتبته أنا، وتولّى خوليو كورتاثار كتابة الفصل المتعلق بالأرجنتين، وكتب الفصل التشيلي”خوسّيه دونوسو”وأمّا الفصل الكوبي فكتبه ” أليخو كاربنتيير”.
عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- (كولومبيا).