يشرع موقع “لكم” في نشر حوارات مع كتاب ومفكرين ومبدعين ومثقفين وسياسيين وفاعلين جمعويين وشخصيات عمومية، يسألهم عن يومياتهم في فترة الحظر الصحي.  لكن السؤال في مثل هذه اللحظة الاستثنائية وغير المسبوقة يذهب أبعد من الوقوف عند ما هو روتيني في حياتنا للوصول إلى لحظة بوح شفافة تكشف عن تأملات ومراجعات المستجوب في لحظة الحجره الصحي، من خلال قراءاته أو فقط عبر الأفكار التي تراوده في لحظة العزلة الداخلية والضجر من فائض الوقت والإحساس بالتقييد القسري للحرية.

وفي هذا الحوار، لقاء مع الكاتب والروائي والدبلوماسي عبد القادر الشاوي، وفيه يكشف صاحب “مرابع السلوان” (أحدث أعمال الشاوي الروائية) عن تجربته المستجدة مع العزلة التي ألفها نمط عيش في حياته العادية، وجربها عندما فرضت عليه قسرا وعقابا أثناء سنوات السجن في مغرب سبعينات الجمر والرصاص.

وفيما يلي نص الحوار

ماذا يعني لك الحجر الصحي؟

أعيشه على أكثر من مستوى في تجربتي الخاصة هذه الأيام المربكة: الالتزام الطوعي تقريبا بالإجراءات المفروضة التي أوجبتها السلطات العمومية (الصحة والداخلية..) بناء على ما في كوفيد 19 من خطر وغموض ورعب كذلك، وبماء على موجبات الحماية والعدوى خوفا من انتشار الفيروس بحيث لا يمكن السيطرة على انتشاره.

أشعر بنوع من الخوف الشخصي، الذاتي والتلقائي، من الموت طبعا، من الموت في هذه الظروف لا في غيرها. خصوصا وأن الفيروس لا لقاح له لحد الآن، هذا فضلا عن الغموض المحيط به، الأمر الذي يفرض تلقائيا في شروط الحجر والحجز شعورا متواصلا لا يتوقف بالموت (العدوى كذلك) في كل وقت وحين. إننا نخاف من الموت، ولكننا نخاف أيضا من الحديث عنه بالعبارات الصريحة، علما بأنه حالة قدرية ملازمة لنا رغم كراهيتنا أو حبنا له.

وشعوري الخاص بالإضافة إلى هذا أن الحجر إذا كان قاسيا عليّ فهو، في حدوده القصوى، أعنف وأشرس على كثير من الفئات الاجتماعية التي تعاني من الخصاص ومن ظروفها الاستثنائية على المستوى الاقتصادي أو غيره أصلا وفصلا. الحجر الصحي إذن مستويات كثيرة وبعضها مؤلمة، وهو كذلك مستويات وبعض تلك المستويات مرفهة، وهو إلى جانب هذا وذاك، مستويات أخرى وحالات مزاجية لم (يألفها) الأفراد، بالإكراه والتعذيب والحرمان من الحرية، إلا في السجون والأوضاع الاستثنائية عامة.

كيف يقضي الشاوي أوقات الحجر الصحي؟

عموما أنا ميال للعزلة، وأراها في تجربتي الشخصية، في بعض الأحيان، مزمنة لا أستطيع التخلص منها مهما حاولت. ثم إنني أعيش على الهامش تقريبا من كثير من التطورات مند فترات طويلة والأسباب كثيرة، أي لا أشارك في الأوضاع القائمة والجارية إلا بقدر محدود من الإسهام. ولذلك وجدتني في الحجر الصحي أعاني الأمرين: طبيعتي الخاصة، والإكراهات المفروضة بقوة القانون أو بغيره. وأضيف إلى هذا ما ذكرته سابقا من خوف تلقائي… مما يجعلني أعيش وضعية، مع شيء من المبالغة، أكثر استثنائية من الاستثناء نفسه.

لهذا برمجت أيامي على قدر شجاعتي وإمكانياتي المادية والمعنوية.. ما ظهر منها وما بطن، أي ما أعيه وما لا أعيه أيضا… وكل ذلك في محاولة، لا أرجوها يائسة، لتجنب العدوى (الفيروس) والبقاء على قيد الصحة ما أمكن… علما بأنني عانيت من المرض في حياتي وهو أسوأ تجربة، قبل الموت، يمكن أن يعيشها الفرد في الحياة. القراءة والكتابة والرياضة والطبخ والموسيقى… والفراغ والقنوط والأحزان وما شابه ذلك في أيام جميع الناس على اختلاف الدرجات والإمكانيات والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. أنهيتُ رواية (بلد الآخرين بالفرنسية لليلى السليماني) التي لم تعجبني كثيرا لأن نهايتها مفتعلة، ربما ركَّبَتْها على عَجَل.

أقرأ بالإسبانية كتابا حول (تاريخ الانتحار في الغرب لمؤلفه “رامون أندريس”)، ووقعت بالصدفة على مقالات سياسية وفكرية في كتاب (لا لهزيمة الفكر الحر) للروائي النمساوي “سطيفان زفايك” بالفرنسية (مترجمة من الألمانية) وموضوعاته حول الظروف التي مرت منها أوروبا في فترة ما بين الحربين وأفكاره عن التطورات العامة في القارة. زفايغ كاتب أثارني ويثيرني: انتحر رفقة زوجته الثانية “لوط” عام 1942. تعلق بالوحدة الأوربية والسلم فأصيب باليأس، غزير الإنتاج الروائي، ويعتبر من أهم الروائيين في فترة ما بين الحربين.

أقرأ أيضا (الرأسمال والإيديولوجيا)، كتاب ضخم ومتعب، لمؤلفه “توماس بيكيتي”، رغم أنه يضيئ تطورات الرأسمالية المعاصرة بعد أزمتها الكبرى 1929 وتحولاتها إلى إلى يومنا هذا. وقراءات متفرقة في مقدمتها كتاب “المغرب الأسود، حول العبودية في الإسلام” لشكري الهامري، وهو من الكتب الهامة التي صدرت بالمغرب في الفترة الأخيرة.

وماذا عن التأليف والكتابة؟

كنت قد بدأت في ظرف خاص عام 2014 وأنا في الشيلي كتابة نص عن الموت أسميته في ذلك الإبان (كتاب الموت)، فعدت إليه منذ بداية الحجر بالمراجعة والتتميم حتى أنهيته تقريبا في الآونة الأخيرة أو أكاد… هذا إلى جانب كتابة مقالات عامة من وحي القراءة والتأمل. والمهم أيضا أنني عدت إلى ترجمة جزئية كنت قد قمت بها لمذكرات ليون تولستوي عن الإسبانية، وأواصل في هذه الأيام المناسبة تماما إتمام تلك الترجمة بعد أن كنت تخليت عنها. هذا كتاب صغير الحجم رهيب، راجع فيه تولستوي، وهو في سن متقدمة، جميع ما كان قد اقتنع به في سابق عهده وتفكيره ووجوده. فيه خلاصات عميقة عن فلسفة الوجود والاعتقاد من منظور كاتب روسي في القرن التاسع عشر.

كيف تعيش حجر ك الصحي؟

لا آكل إلا ما أستطيبه وهو قليل، وهو من إعدادي لا أدعي فيه معرفة بفنون الطبخ. لست نباتيا، ولكنني قليل الاهتمام بما ليس كذلك، مع ميل للمواد الطبيعية في كل شيء متى ما وجدت. جل مشترياتي، إذا ما خرجت لذلك، من الخضر والفواكه. والباقي في حياتي اليومية أوزعه بين الرياضة في الحدود الضيقة المسموح بها حيثُ أقيم، إلى جانب الموسيقى (محاولات يائسة تقريبا لتعلم العزف على العود والكمان والقيثارة منذ فترة طويلة نسبيا)، وأحتاج في كثير من الأحيان إلى اليوتوب لمواصلة المحاولة.

عشت تجربة السجن واليوم تجربة الجحر ما الرابط والمختلف بينهما؟

ذاك حجر سياسي عقابي إكراهي وفيه الانتقام والتحطيم ولا يحكمه أي قانون إلا (قانون) الإخضاع، رغم أن بعض ظروفه كانت شبه طبيعية بفضل النضالات التي خاضها المعتقلون وحققوا بها بعض المكاسب. أما الحجر الصحي فهو إجراء استثنائي لظروف معينة، قد تكون قاسية وقد تكون مربكة بالمقارنة مع الممارسة اليومية السابقة على الحجر، وقد تكون عنيفة لطبيعة الإجراءات الاستثنائية ولبعض التجاوزات المصاحبة للفرض والإكراه، ولكن العنصر الجوهري فيها، خلافا للحجز داخل السجون في إطار العقوبة المقررة، أنك لا تفقد حريتك بالمطلق، وليس الحجز كذلك بالمطلق إلا بمبررات، والموانع مقننة لا صارمة. ومع ذلك أرى أن التشابه قائم في ما يمكن تسميته بالتآلف والانسجام مع الأوضاع المفروضة، بدرجات مختلفة بطبيعة الحال، حسب الأفراد وقدراتهم على التحمل ومستوياتهم الاقتصادية وتجاربهم الحياتية أيضا. خوفي الحالي أت من أن التطويع قد يكون سببا وجيها بالنسبة لجميع السُّلط، للتشديد على الحرية النسبية وهضم الحقوق المكفولة بموجب قوانين سائدة إلخ.

وأنت تتعايش مع الحجر الصحي. ما هي رسالتك؟

تحية للعاملين في القطاع الصحي وفي غيره من القطاعات المشرفة على تنظيم وضبط الحياة العامة والمرافق التي تضمن مواصلة الحياة العادية حتى لا أقول الطبيعية، ولو أحيانا بكلفة أغلى من الأيام العادية كظاهرة الحروب تماما. أشعر بعطف خاص مصدره العقل مع كثير من الفئات الاجتماعية التي تعيش أوضاعا صعبة على جميع المستويات، وأرى أنه من الضروري أن ننشغل بهذا لأنه من الأوضاع الرهيبة والحادة التي تكشف عن حجم الاختلالات الموجودة في البلاد على جميع المستويات من الصحة إلى العيش الكريم. ما زلت أرى ضرورة التقيد بالإجراءات الإدارية والصحية المفروضة، لأنني أرى فيها، على ما هي عليه بلادنا من أوضاع عامة، العلاج الأمثل للتغلب على الفيروس.

أزمة كورونا كشفت عن ضرورة عيشنا المشترك ومستقبله.، كيف ترى ذلك؟

التوصل إلى إيجاد لقاح فعال لفيروس “كوفيد-19″، كما حصل مع غيره من الفيروسات، هو المبتغى لمواصلة الحياة بصورة طبيعية تقريبا، أي على ما كانت عليه وبجميع ما كان فيها من أوضاع، بما فيها تلك التي تحتاح إلى تغيير جذري. المصابون والخسائر في الأرواح لا تخفى على أحد، والأزمة الاقتصادية، فضلا عن الجفاف الذي صاحب هذا الموسم، واضحة ولعلها ستستفحل في الأمد المتوسط إلخ… هناك نظرات متفائلة راجت بين المتتبعين والقراء تفيد، من باب التوقع، أن تغيرات كثيرة على جميع المستويات سوف تحدث في عالمنا.

قد يكون ولكنني لا أصدق ذلك حاليا. واعتقادي الشخصي، فرضية في مقابل فرضية، أن تغييرات جوهرية لن تصيب إلا في حدود ضيقة طبيعة الأنظمة وواقع الاستغلال الرأسمالي، بل وستستفيد الدول على اختلاف أنظمتها وتوجهاتها من أشكال الضبط والتنظيم والمراقبة الاجتماعية والسياسية والرقمية وغيرها لتعزيز قوتها (القمعية)، من حيث الوظيفة والتحكم بالمعنى العام، إزاء التطورات اللاحقة التي سوف تشهدها المجتمعات البشرية. وأما التغيرات الممكنة على فترات طويلة نسبيا، سلبية وإيجابية، فسوف تصيب بصورة واضحة، فيما يبدو، وهناك تجارب اختبارية في هذه المرحلة من الحجز، ما يمكن تسميته بالبنيات الذهنية والسلوكات والعادات والتقاليد وما هو في حكمها إلخ… الأساس في كل هذا أن التغيير وارد، ولكن المستفيدين منه، بحسب القدرات والأنظمة والديانات كذلك، هم المتحكمون بالفعل والقوة (وبالتحايل كذلك) في الأوضاع، والقادرون منهم، في العصر الرقمي، على استغلالها واستغلال نتائجها في سبيل تجديد السيطرة، ولو كانت ناعمة، وضمان التحكم عن قرب وعن بعدُ وبالوسائل التكنولوجية والرقمية الحديثة… وفي هذا كلام كثير يمكن أن يقال.