هنا كنا قبل خمس سنوات جموعا بلاحصر في مجتمع المدينة الفاضلة.. وهنا جاءوا أنصار مبارك / السيسي..  نفر محدود..  وهذه المرة بلا جمال ولا إطلاق رصاص..  لكنهم جلبوا معهم أشياء أخرى لاتقل قسوة وبلاهة. وهذه وقائع جولة دامت نحو ساعتين بين الحادية عشر صباحا والواحدة ظهر يوم ذكرى الثورة.  

الطريق الى ميدان التحرير لا يمر بمحطة المترو. فقد عادت القبضة الأمنية التي تخشى الناس وتصادر التظاهر السلمي الى اغلاق محطة التحرير قبل ساعات من فجر يوم الاثنين 25 يناير 2016. لكن المشي من محطة الأسعاف المسماة بجمال عبد الناصر الى ميدان التحرير ايقونة الثورة المصرية يعطي فكرة كافية عن نظام مرعوب ومهترئ. وهكذا تعزز المشاهد في الطريق بين الاسعاف والتحرير الانطباع عن الحالة الذهنية والنفسية لسلطة ترتعب من الناس.

 شوارع وسط البلد شبه خالية إلا فيما ندر من المارة.  والمحلات معظمها أغلق ابوابه.  وحتى المقاهي مغلقة. باستثناءات نادرة. ومحل “العبد” للحلويات الذي يتزاحم عليه ابناء الطبقة الوسطي بلا رواد حتى تخال انه هو الآخر مغلق.  مع ان في وسائل الإعلام من يصمم على ان اليوم “عيد”.  غالبية من في الطرق الرئيسية بقلب المدينة هم يقينا من الشرطة، سواء ارتدوا ملابس رسمية او كانوا مخبرين يتخفون في ملابس مدنية.  

 الحضور اللزج للأمن في الشوارع أمام المحلات وعلى نواصي الشوارع يثقل هواء يناير البارد. والشرطة السرية تستوقف بين الحين والآخر شابا هنا وشابا هناك لتتفحص هويته وتفتش متعلقاته ملابسه. وهو أمر لم يعد يثير أي اعتراض او مشاحنات مع ان هؤلاء المخبرين لا يتقدمون بما يفيد إنهم شرطة.  

 في ميدان “طلعت حرب” ظهر رجل خمسيني يحمل معه ورودا حمراء ملفوفة في ورق سوليفان شفاف.  وأخذ يوزع وروده الدموية القانية على ضباط شرطة بملابسهم المدنية.  ووفق اتفاق مسبق كما هو واضح كانت هناك فتاة محجبة تحمل كاميرا تتبع الرجل خطوة خطوة وتلتقط الصور وهو يقوم بإهداءاته مبتسما.  وعند بقعة استشهدت فوقها “شيماء الصباغ” برصاص ضابط ملثم بالسواد لم يتورع الرجل ان يهدي وردة دموية أخرى.  وكنت قد لاحظت عند مدخل ممر بهلر صف سيارات شرطة محملة بأسلحة فض التظاهر.   وفيما أطل من عدد من منها رجال متشحون بالسواد مقنعون كأنهم يأخذون ادرواهم في فيلم رعب. وقد راودني الاعتقاد بأن فردا من هذه القوة المتركزة هنا منذ استيلاء الجنرال “السيسي” على السلطة هو قاتل شيماء في ذات اليوم من العام الماضي.

 وقبل أن أبلغ ميدان التحرير كان يجرح الصمت والهواء الثقيلين صفارات عربات أو مواكب موتوسيكلات شرطة تصرخ برعب في الخواء.  فيما يبرز منها رجال يرتدون السواد ملثمون يشهرون بنادقهم ورشاشاتهم باتجاه الأرصفة على جانبي شارع “طلعت حرب” لتهديد مارة إفتراضيين .  لكن ما أن تقع عيناك على أحد الضباط المتلحفين بالمعاطف فوق الارصفة أو المتحلقين حول واحد من قياداتهم حتى تتخيل ان محصول حقل من الكرنب او القرنبيط يتوزع تحت ملابسهم.  وبخاصة في منطقة الأرداف والبطن.  ولذا فانني ضحكت بيني وبين نفسي عندما اقتحمت الذهن عبارة :” الداخلية تحتاج الى رجيم “.  كما لاحظت ميلا واضحا الى قصر القامة جراء اختراق الرشوة بكثافة لاختبارات “كشف الهيئة” عند الالتحاق بكلية الشرطة. وكأنه لايكفي بلادة المستوى التعليمي وتواضعه.  

 ميدان التحرير من مدخل شارع طلعت حرب يبدو خاليا هو الآخر.  فقط بضع عشرات يلوحون بأعلام حال لون صقورها الصفراء المطأطئة الرؤوس في حزن وخجل. بضع عشرات الى اليسار وبضع عشرات أخرى قرب وسط الميدان. وكلهم في حماية صف من الشرطة وجيش من المخبرين السريين.  يلغطون بعبارات غير مفهومة.  وترتفع وسطهم صور للسيسي وقد استبدل ملابسه العسكرية بأخرى لاتناسبه. والعبارة المتسيدة فوق الصور هي : “كمل يا ريس”.

 أمام موقع الكافيتريا ـ التي كانت باسم ” أسترا” ـ تحلق نفر حول رجل مشوه ربط الى ذراعين مقطوعتين علمين.  كان الرجل يتحدث عن نفسه بلهجة سوقية وبصوت انهكته المخدرات.  فيقول باأنه أول من طبق الشريعة الاسلامية في مصر فوضع ذراعيه هذين تحت القطار في مدينة طنطا كي يتوب عن السرقة.  ثم سرعان ما قفز الرجل الى السياسة مغادرا مربع الدين فأخذ يمتدح مبارك.  لكن رجلين تدخلا لإسكاته ، ولينبهاه الى ان “الرئيس القائد” الآن هو السيسي.  إلا ان الرجل المشوة صاحب العلمين غضب مغادرا الى موقع آخر ، وهو يقول : ” مش كنتم كلكم هنا مع الجمال والحمير وحضرات الضباط علشان مبارك “.  عبارة اضحكت البعض لكنها اشارة كافية تفهمنا  بان الجمع الكريم من “المواطنين الشرفاء ” جاء لفض متظاهري يناير بالعنف يوم 2 فبراير 2011.  وتبعت الرجل الى موقع آخر من الميدان حيث استلقي على ظهره الى الأرض فيما يشبه ألاعيب الحواة كي يلتف حوله نفر آخرون.  وأخذ يهتف باسم السيسي هذه المرة.  

وإجمالا كانت وجوه وسمات المحتفلين في ميدان التحرير في حراسة الشرطة رسمية وسرية خليطا مألوفا من انصار مبارك في زمانه من البلطجية المستأجرة وممن يستعين بهم الأمن في مثل هذه المناسبات فيخرجهم لساعات أو أيام قبل من الحجز ومعهم سوابقهم في السرقة والعنف وفرض الاتاوات. وحقيقة كانت آثار الأسلحة البيضاء في الوجوه اكثر من ان تحصى.  لكن ثمة علاقة رعاية وود  تربط بينهم وبين ضباط الشرطة في الميدان.  وفي كل الأحوال فان اعداد رجال الشرطة كان يقينا أكبر من هؤلاء المتظاهرين المصطنعين المؤيدين للسيسي والهاتفين بحياة الشرطة والأمن والأمان.

 عند مدخل شارع محمد محمود من ناحية الميدان تقاوم ملامح ما تبقي من ذكريات ثورة.  فمبني الجامعة الأمريكية يجرى هدمه وسوره الذي كان لوحة “هايدبارك” لرسوم الجرافيتي الثورية يوشك على السقوط ، حتى ان هناك من وضع سنادات خشبية لتأجيل لحظة الانهيار.  وثمة على الرغم من كل هذا رسومات وكلمات باقية تقاوم من بينها عبارة :” المجد للمجهولين”. وكذا رسم لوجه ضابط مسخ أشبه بقرد يبعده عن فصيلة الشانبانزي حلقات بلاعدد من التطور الداروني.  بدا الشارع الذي يحمل كل شبر وحجر منه ذكرى شهيد من يوم 28 يناير 2011 مرورا بنوفمبر وديسمبر من نفس العام مقفرا بلاحياة ولا مارة.  فقط رجل وأمرأة في سيارة أخذت تقف الى جانب الرصيف.  بادرني الرجل متسائلا :

 ـ ممنوع؟

 لم أعرف بماذا اجيبه.  لكنني كنت قد لاحظت منذ زمن ان الحواجز الحديدية قد زادت وانتشرت في وسط القاهرة على نحو يدعو لأن نطلق عاصمة البلاد والعرب “مدينة الحواجز “.

 لكني تعجبت من السؤال لأن شارع محمد محمود في تلك المنطقة كان خاليا من الحواجز.  وعلى ما يبدو فان ثقافة الحواجز قد غزت النفوس.  

وبعدها كان على أن أحث السير.  فقد بدأت السماء تمطر على ميدان خاوي.  وعبر أسلاك شائكة متأهبة للاغلاق في وجه متظاهرين من نوع مختلف ـ نوع 25 يناير 2011 ـ وفي اتجاه ميدان “عبد المنعم رياض” المجاور بدا ” التحرير” يبتعد وسط سحابه رمادية اللون.

 ومع هذا فقد أخذت استرجع أصواتا قادمة من المستقبل تجاوب صدى وقع ماكان قبل خمس سنوات في ميدان لاموقع فيه لقدم أخرى.  وهو يقلع نحو الأعالي :

“الشعب يريد اسقاط النظام”.