يوم من أيام الله ، طعم القهوة السوداء في فمي.. مرّ يخز لساني كالإبر، وأنا أدس رأسي داخل الجريدة ، يأبى صوت التلفاز إلا أن يصل سمعي و يفرض نفسه صوتا وحيدا، عبثا حاولت أن أتملص من  هذه القبضة العويصة، و لكن الصوت ظل مجلجلا جهوريا … لم أشأ أن أتابع أخبارا ، ألفناها و مللناها حتى ملّها الملل…بالطبع لم أكن أحلم ، و بداهة لم أكن نائما .

 كانت المقهى تغص بخليط من الأصوات، تأتي من الداخل و الخارج،  و من ثنايا الأصوات و الضجيج، تناهت إلى سمعي كلمات، لم أتوقع قط أن أسمعها في هذا المقام :

“توجهتْ  هذا الصباح  حاملة الطائرات “طارق بن زياد”  إلى بحر العرب ، تجوب وتمشط ،  في مهمة روتينية ترقيمها واحد بعد المليون…

معاندا، غمست رأسي بين صفحات الجريدة ، و اعتبرت الأمر محض هلوسة و تهيؤات … و يأبى صوت المذيع إلا أن يكمل متابعا، و هي اللحظة التي وضعت فيها الجريدة جانبا و رمقت التلفاز شزرا، فقد تجاوز الأمر حد العقل و المنطق ، يتابع المذيع :  

” تنطلق غدا ، المركبة الفضائية ابن بطوطة ، في رحلة إلى كوكب ابن رشد…”

قد يكون هذا المقطع حالما أو سورياليا ومعاندا لحكي التاريخ، التاريخ الذي لا يمد أوراقه إلا للذين يمهرونها بطوابع العلم والمعرفة والمداد الأسود الحالك ، الذي لا يمحى.

إن مسألة الأسماء الهائلة التي نتداولها يوميا ، لهي مسألة تثير التساؤل حقا…

هذا الكم الكبير من التسميات الغربية، الغريبة عن ألسنتنا و بيئاتنا وحَنجراتنا وميزاننا الصرفي وتفعيلاتنا، نستهلكه ونستعمله، غير مبالين بما يفعله فينا وفي أعماق ذواتنا وذوات ذرياتنا… 

ترى الواحد منا ، أيا كانت درجته المعرفية أو الاجتماعية،  ينطق أسماء، جاءته من أقصى الغرب و الشرق ،وهو يجدّ في تسميتها وترديدها، لكيلا يفوته قطار الحداثة الجامح.

 من أسماء الهواتف وحتى أصغر قطعة في جهاز الحاسوب أو السيارة. أسماء بدلالات ثقيلة مكثفة تحمل أساطيرهم( الشرق والغرب) العميقة وأسماء عائلاتهم وأبطالهم ، يدخلونها إلى أعماق أعماق بيوتنا.

 سبقونا إلى كوكب المريخ ، ولمّا يطؤوه ، ملأوه بالأسماء والألقاب ، لم يتركوا حفرة واحدة ، إلا وسمّوها و وسمُوها أسماء ، أنزلوا بها سلطانهم على هذه الأرض الحمراء التي لا توجد بالنسبة لنا. ( إلا في الخيال وكتب الأعاجيب).

كما سبقونا إلى أعماق المحيطات، وألصقوا أسماءهم بأول الكائنات، التي تطالها أيديهم ومجساتهم، وجاوزونا إلى الكون الفسيح يسمون كواكبه، شموسه وأقماره ومذنباته…

أكملوا ما بدأه الأجداد أسماء عربية خالصة، بعد أن توقف بنا مدار العلم و الحياة، وعند “زحل” انفلت زمام الحضارة والرقي، وغدونا على ما نحن عليه من اليأس و البؤس والتبعية، ولو منعونا برغيّا واحدا ، لتعطلت آلتنا، وأصبحنا حيارى ندور على أعقابنا.

الحياة صراع من أجل التسمية، ما نسميه انتفاضة واستشهادا وفتحا ، يسمونها ثورة وانتحارا وغزوا…

أنا أسمي ، إذن أنا موجود….أفرض أسمائي وأسماء أجدادي وكل فصيلتي، على الغير، وأبصم تاريخه بتاريخي، رغما عنه مكرها، وأجعله ينطق هذه الأسماء ويستعملها   ويستحضر براءة اختراعي، كلما نطقها، فالسبق لي ، والانتصار في الحرب ، انتصار كذلك باللغة.

أجعل أسمائي تدخل بيتَك وزواياه المعتمة ، أفرضها عليك فرضا قاهرا، أمام الناس  و حتى في خلوتك العميقة تنطقها غريبة عن حَنجرتك ، أو ترطنها ، لا يهم…

أجيء بكل دلالات العالم وإيديولوجياته، وأضعها رهن شفتيك… ، وفي نهاية الأمر ، هي مجرد تسميات ، و لكن العرب تقول : من يلد … يُسمَّ…

بالأمس القريب ، وعلى مقاعد الدراسة ، تلقّى الأستاذ الاستفهام التالي:

“يا أستاذ ! هل من علاقة بين المحيط الأطلسي وبين جبال الأطلس ، أطلسنا الحبيب  البارد ، من حيث التسمية؟!”

صمت الأستاذ برهة، وتابع الشرح مبتسما.

يقول نتشه:” إن الحروب، في نهاية المطاف مجرد حروب من أجل الأسماء…”