
الهوِيَّة أَسَاسُ الإِنتمَاء لِلوَطَن

من وحي إحتفالات مكناس الأخيرة بالسنة الأمازيغيّة 2968
آراء أخرى
إزدانت العاصمة الإسماعيلية الفيحاء مكناس مؤخراً بهندام رشيق يليق بتاريخها التليد، وتراثها العتيد وذلك بمناسبة الإحتفالات السنة الأمازيغية الجديدة (2968) حيث عمل “مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم” الذي يرأسه الباحث عبد السلام بوطيّب – كما هو دأبه كلّ عام- على أن تحتضن هذه المدينة التاريخية العريقة أيام 26-27-28 يناير2018 هذه الإحتفاليات بعقد ندوة تأسيسية في موضوع: حوار الثقافات وأسئلة الهوية” كان الغاية من هذه الندوة صياغة المبادئ العامة لإعلان خاص بدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط سيتمّ إعتماده في إختتام ندوة دولية أخرى ستتنظم فى مطلع شهر مايو المقبل من العام الجاري بمدينة الرباط في نفس الموضوع،على أن يتوسّع العمل لاحقاً على مناطق محيط دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ،وتخلل هذه الإحتفالات تقديم أشرطة سنيمائية، وعروض وثائقية ذات أبعاد تاريخية، وثقافية،وإبداعية ، وتكريم شخصيات وازنة حيث حظي المفكر المغربي عبد الله ساعف بتكريم خاص خلال هذه الاحتفالات التي إختتمت بتقديم عروض موسيقية صاخبة بمشاركة فرق معروفة تألق فيها نجم الأغنية الأمازيغية الذائع الصّيت الجزائري ” يدير”، والمطربة الأطلسية سعيدة تتريت، وكذا بإطلاق الشّهب الاصطناعية .
إعلان مكناس
وانبثق عن ندوة “حوار الثقافات وسؤال الهوية”، “إعلان مكناس” الرافض لمختلف أفكار الغلوّ بمقولات التفوّق والتعصّب، و اعتبار الثقافات منتَجاً بشرياً وإنسانياً عاماً، والتأكيد على تحديث المجتمعات، وترسيخ قِيَم المواطنة وحقوق الإنسان، ونادي الإعلان بضرورة.إصلاح الحقل الديني فى البلاد،والحاجة الماسّة فى إسهام النخب المُفكّرة بجرأة في الدّفع بالتصوّرات إلى حدها العقلاني المتنوّر، وضرورة إعادة قراءة التاريخ بروح علمية منصفة (موضوع هذا المقال)،وترسيخ هوية منفتحة ومتسامحة،واعتبار التعدّد الثقافي مصدراً ثريّاً إيجابياً للبلاد، وأكد الإعلان على ضرورة تأكيد العلاقات بين مختلف الثقافات، والتنوّع والتعدّد الثقافي بمختلف مستوياته وصوْن قيم المواطنة، والسلام، والتسامح ،والعيش المشترك.
الاحتفالات إبراز للهويّة الأمازيغيّة
يؤكّد “الحسن بن محمد الوزّان” المعروف ب “ليون الأفريقي” صاحب كتاب “وصف إفريقيا”،وسواه أنّ لفظة “الأمازيغ” تعني (الرّجال الأحرار)، وهم مجموعات سكنية تقطن المناطق الممتدّة بين واحة سيوة (غربي مصر) شرقاً ،إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن شمال البحر الأبيض المتوسط، إلى جنوب الصّحراء الكبرى ، وقد إحتفل الأمازيغ يوم 13 ينايرالجاري2018، فى مختلف هذه الضّيع ،والأرباض، والمناطق،والنواحي،والجهات، والبقاع، والأصقاع بهذا اليوم الموافق لفاتح السنة الأمازيغية الجديدة التي تصادف هذا العام الذكرى 2968، وحسب جلّ الرّوايات (والعُهدة على مَنْ روى!) فإنّ هذا االإحتفال يُقرن بانتصار الأمازيغ، بقيادة ملكهم “شيشنق” أو “شيشونغ” على فرعون مصر عام 950 قبل الميلاد. ولطقوس ومظاهر هذه الإحتفالات صلات وثقى،وعلاقات وطيدة بخصوبة الأرض، وتطلّع الأمازيغ بأن تكون السّنة الأمازيغية الجديدة سنة فلاحية،خصبة،خيّرة،جيّدة ،معطاءة حافلة بالمنتوجات،والخيرات التي كا ن لها دائماً إرتباط وثيق بالأرض، ومن ثمّ ينبع حبّهم للأرض،ويتولّد تشبّثهم بها ، ودفاعهم عنها، كباقي السكّان من مختلف الأجناس، والأعراق، والإثنيات فى مختلف أنحاء المعمور.
ويرى الأستاذ محمد حنداين، رئيس كونفدرالية الجمعيات الأمازيغية في المغرب:” أنّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة يدخل ضمن أساليب النضال الأمازيغي من أجل إقرار الحقوق الأمازيغية، لأنّ الاحتفال بهذه المناسبة هو أحد الرّموز الأساسية التي إستثمرها الأمازيغ لإبراز هويّتهم الذين ما إنفكّوا يطالبون الحكومةَ بإلحاح فى مطلع كلّ سنة أمازيغية، و فى كلّ مناسبة لإقرار يوم فاتح السنة الأمازيغية من كلّ حَوْل يومَ عطلة رسمية مُؤدّى عنها وذلك تناغماً، وتماشياً مع إعتراف الدستور المغربي (2011) باللغة الأمازيغية كلغةٍ رسميّةٍ للبلاد إلى جانب اللغة العربية .
المغربُ نموذجاً
يؤكّد الدّارسون أنّ تاريخ المغرب الزّاخر، وتراثه العريق مستوحيان من ينابيع مغربية أصيلة، وروافد وافدة متداخلة متعدّدة، وإن إختلفت مصادرها، وتباينت ينابيعها،وتعدّدت لغاتها،وألسنتها بين أمازيغية بربربة، وعربية إسلامية، وصحراوية حسّانية، وما فتئت العديد من النصوص، والوثائق، والمظانّ، وأمّهات الكتب والمخطوطات، والأشعار، والآداب، والفنون، والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء، و شعراء، ومؤلفون مغاربة أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، فى هذا الرّبع القصيّ الجميل الكائن فى الشمال الغربي الإفريقي ، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور،والقصور،والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تُبهر الناظرين،التي شيّدت وبنيت شامخة فوق أرضه الطيّبة، فضلا عن العادات والتقاليد المغربية الحميدة التي تأصّلت في أعراف وذاكرة الشعب المغربي في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال شاهدا إلى اليوم على مدى الأوج البعيد الذي أدركه الإشعاع الحضاري فى هذا البلد. فهذا الغيث الفيّاض المنهمر والمتنوّع من الإبداعات الرفيعة في مختلف الميادين لا يمكنه أن يحيا و ينمو و يزدهر من لا شئ، أو داخل حدود ضيّقة أومنغلقة، بل إنّه ظهر وترعرع وإزدهر ووقف مشرئباً،شامخاً إعتماداً على نبعه الأصيل، وإغترافاً من معينه الأوّل وهو تاريخ المغرب التليد، وتراثه العريق ، وثقافته المتميّزة، وموروثاته الحضارية ذات الّرّوافد الثقافية المتعدّدة والمتنوّعة الثريّة .
بحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميّز كحلقة وصل، وآصرة وثقى، وملتقى الحضارات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب يعتبر المغرب من البلدان التي حباها الله موقعاً ممتازاً على الصعيد الجغرافي، ممّا خوّل لها أن تضطلع بدور تاريخي وحضاري وثقافي مرموق فى الشمال الغربي الإفريقي.، والتميّز بهويّة يطبعها التعدّد والتنوّع والغنى والثراء منذ أقدم العهود السحيقة حيث تعاقبت عليه،وظهرت على أديمه – مثله مثل سائر جاراته البلدان المغاربية الأخرى- دول، وحضارات، وثقافات قديمة على إمتداد التاريخ ، منها الحضارات الفينيقية، والبونيقية، والموريطانية، والرّومانية،وصولاً إلى الفترة الإسلامية التي تميّزت بإعتناق ساكنة هذه البلدان للإسلام. ويشير العلاّمة المرحوم عبد العزيز بنعبد الله – فى حالة المغرب على وجه الخصوص- إستناداً إلى مؤرخين ثقات من أمثال ابن خلدون،وابن الخطيب، والبكري،وسواهم :” أنّ الحِمْيرييّن بقيادة صالح بن منصور الحِمْيَري هم الذين نشروا الإسلامَ بين الأمازيغ في منطقة الرّيف المغربي وأقاموا إمارة نكور أو إمارة بني صالح ، وكانت بالتالي هي أوّل إمارة إسلامية ظهرت فى المغرب سنة 710م ببلاد الرّيف ” . ثم أسّست بعد ذلك أيّ بعد إنصرام 78 سنة من هذا التاريخ دولة الأدارسة سنة 788م. وكان مؤسّس هذه الدّولة – كما هو معروف- هو المولى إدريس الأوّل ابن عبد الله، الذي حلّ بالمغرب الأقصى وإستقرّ بمدينة وليلي الرّومانية المعروفة باللاّتينية : ب (Volubilis) حيث إحتضنته قبيلة آوربة الأمازيغية، ودعمته حتى أنشأ دولته.ومعروف كذلك أنّ دولاً أخرى تأسّست قبل وصول الإسلام إلى هذه الرّبوع من أمثال (نوميديا ،موريتانيا، تنجيس )،وتعاقبت على المغرب بعد كلٍّ من إمارة بني صالح بالنكور،بالريف ، والأدارسة بوليلي بالتوالي دولُ المُرابطين، والمُوحّدين، والمَرينييّن، والسّعديين، وصولاً إلى الدولة العلوية الحالية.
تعدّد الإثنيات
المغرب إذن بلد متعدّد الأعراق والإثنيات، وهو يزخر بثقافة متنوّعة، وحضارة ثريّة. تمتدّ جذورها فى عمق تاريخه الطويل، بالإضافة إلى سكّانه الأصليين من الأمازيغ ، فقد توافدت عليه العديد من الهجرات المتوالية القادمة من المشرق، ومن جنوب صحراء إفريقيا، ومن الشّمال، وكان لكلّ هذه المجموعات والفئات البشرية أثر كبيرعلى التركيبة الإجتماعية للمغرب التي عرفت معتقدات سماوية منذ أقدم العهود ، كاليهودية، والمسيحية، وأخيراً الإسلام. ولكلّ منطقة من المناطق المغربية خصوصيّاتها التي تتميّز بها عن سواها من المناطق الأخرى، وقد أسهمت هذه الخصوصيّات في صنع فسيفساء الثقافة المغربية، ووضع الإطار المتميّز والمتنوّع للإرث الحضاري المغربي،الذي أصبح ذا طابع معروف فى العالم أجمع.
للتنوّع الثقافي والحضاري المغربي خصوصيّات ، وعناصر متعدّدة مكوّنة لنسيجه الإجتماعي على إختلاف مناطقه وجهاته، ومن أبرز هذه المكوّنات والعناصر التي تطبع هذه الأنسجة الحضارية الثريّة ذات الألوان الفسيفسائية المتنوّعة العنصر البشري ،واللغوي، والثقافي ،حيث تنطوي تحت هذه العناصر برمّتها مكوّنات فى العديد من المظاهر الثقافية،والحضارية التي تطبع المغرب بطابع خاص ومميّز.
يرى البعض أنّ المغرب يعتبر دولة أمازيغية- عربية . ويصرّ آخرون بإلحاح على الهويّة الأمازيغية – الإفريقية للمملكة المغربية ، ويعترف العديد من المغاربة بالهويّة الأمازيغية للبلاد،. إنطلاقاً وتأسيساً على اللغة،والعرق،والجنس،والأصل، والعادات، والتقاليد، والثقافة، كلّ أولئك يكوّنون الهويّة التي تميّز كلّ منطقة عن أخرى .فعلى الرّغم من أنّ الأمازيغ قد اعتنقوا الإسلام،وتعلّموا اللغة االعربية وأجادوا وألّفوا وأبدعوا فيها ، إلاّ أنهم صانوا، وحافظوا على إرثهم الثقافي المتواتر ، وتقاليدهم ،ولغتهم وعاداتهم،وأمثالهم،وحِكَمهم،وفنونهم، وعوائدهم التي يتباهون ويتغنّون فيها بالحياة الكريمة،والحريّة، والكرامة. ويعترف الدستور المغربي بالعربية والأمازيغية كلغتتين رسميتين للبلاد، ولقد إستعملت لغة الضاد بدون إنقطاع فى مختلف مناطق المغرب وأرجائه فى الفقه،والتشريع،والأحوال الشخصية، والتدريس، والتأليف، والتدوين، والتصنيف،والمراسلات الرسمية، وفى مختلف فروع وحقول العلوم على تباينها ، فضلا عن إستعمالها فى والإدارات،والبلاطات على إمتداد العهود التي تعاقبت على تاريخ المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم .
العمارة إبداع وإبتكار
يعتبر فنّ العمارة فى المغرب من الفنون الإسلامية التقليدية العريقة، التي كانت ولا يزال لها أبرز الأثر في كثير من المظاهر الحضارية، والمآثر والإبداعات العمرانية منذ مئات السنين وإلى عصرنا الحاضر، وتقف هذه المآثر فى مختلف ربوع المملكة شامخة بكل ألون الإبداع والفن والإبتكار، و من أبرز تلك المعالم الإبداعات المغربية الخلاقة فنون العمارة التي تنتشر فى مختلف مدنه، وحواضره الألفية، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر صومعتي الكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط .إلى جانب أختهما التّوأم الثالثة “لاخيرالدا ” الكائنة بمدينة إشبيلية بإسبانيا.والتي هي من بناء الموحّدين المغاربة كذلك ، وما فتئت هذه الصّوامع الثلاث تستقطب إهتمام السياح من كل صوب وحدب،ومن مختلف أرجاء المعمور، وتحظى بإعجابهم ، وإنبهارهم إلى يومنا هذا سواء فى المغرب أو فى إسبانيا. بالإضافة إلى العديد من المعالم المعمارية والمآثر الحضارية الأخرى نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر كذلك المدرسة البوعنانية بفاس، ومقابر السّعديين بمراكش، و سواهما من المعالم والمآثر،والمباني والقصوروالقلاع، والحصون،والأبواب الشامخة، والأضرحة والمساجد الكبرى التاريخية منها والحديثة الكثيرة التي تملأ مختلف ربوع البلاد . وتتميّز هذه المباني المعمارية،والمآثر العمرانية وسواها بطابعها المغربي الخاص المتميّز ذي الأسقف الخشبية المنقوشة، كما يتجلّى هذا الطراز المغربي المعماري بشكل جليّ فى الأثاث، والأسقف ، والأعمدة الرخامية، والزلّيج الملوّن أو الأبواب، وإستعمال الموزاييك ذي الرسوم، والألوان، والخطوط البديعة الزاهية، التي تقدم تنوّعا رائعا من الأشكال التي قد توحي للناظر إليها بأبهى صور الطبيعة، وروعة جمالها. ومن المثير أن كلّ هذه القِطَع تجمع واحدة ، واحدة، وتثبّت بالإسمنت والجير لتكوّن لوحات من الفسيفساء التي غالبا ما تزيّن جدران القصور،والدّور، والمساجد، والحدائق ،والجوامع، والصوامع، والأعمدة،والأقبية، والأحواض، والنافورات إلخ. ولا تزال تحتفظ مختلف هذه البناءات بهذه الخاصّيات المميّزة فى فنّ النقش على الجبس في المغرب إلى يومنا هذا . وتشترك أو تتقاسم هذه المعالم العمرانية فى الرّوعة، والبهاء،والحُسن الفنونَ المعمارية الأندلسية التي إزدهرت، وتألّقت هي الأخرى بشكل مثير للإعجاب على إمتداد الأحقاب خلال الوجود العربي والأمازيغي الإسلامي فى شبه الجزيرة الإيبيرية فى إسبانيا بشكل خاص.
التعدّد تنوّع وثراءٌ
من المظاهر الحضارية الرّاقية التي تميّز التعدّد الثقافي المغربي فنّ الطبخ الذي يعتبر منذ القدم من أكثر المطابخ تنوّعا وشهرة في العالم. ويرجع الفضل فى ذلك إلى تفاعل المغاربة على إمتداد التاريخ مع العالم الخارجي منذ قرون بعيدة خلت . ويتميّزالمطبخ المغربي بثرائه،وتنوّعه،وإبتكاراته وإبداعه، وتعدّد مصادر تكوينه فهو مزيج من المطبخ الأمازيغي الأصيل، والأندلسي، والعربي، والمطبخ التركي العثماني، والمغاربي، والشّرق أوسطي، والأفريقي.وهو يستقي أصوله وتأثيراته كذلك ولا شكّ من مختلف الحضارات المتباينة التي نشأت، وترعرعت،وسادت فى حوض البحر الأبيض المتوسّط، والتي تعاقبت على المغرب منذ أقدم العصور،والدهور. واشتهرت العديد من المدن المغربية الكبرى منها والصّغرى على إختلافها بفنون الطبخ، وإعداد أشهى الأطعمة ، والحلويّات التي بوّأت المغرب منزلة عليا بين الأمم ،وشهرة عالمية فى هذا القبيل .
الفنون الشّعبيّة
ويحفل المغرب بثراء واسع بمختلف الفنون الشعبية، والعديد من المهرجانات الفلكلورية على إمتداد رقعته الجغرافية المترامية الأطراف ، حيث تقدّم عشرات الفرق داخل الوطن المغربي وخارجه لوحات رائعة، وتعكس هذه الفنون الإبداعية الفطرية والفنية على إختلافها، وتنوّعها، وتعدّدها بشكل جليّ غنى وتنوّع هذا التراث الزّاخر، و مدى عراقة الشعب المغربي وتعدّد إثنيياته وثراء فنونه ، والفلكلور المغربي زاخر بالمواهب ، حافل بالأصالة وهو يعتمد فى الغالب على النّغمات والإيقاعات الرّخيمة والمتناغمة، التي تستقي مادتها الأولى ،وعناصرها الأساسية من الفنّ الشعبي المرتبط بالبيئة ،والأوساط القروية،والبوادي ، والمداشر ، والضّيع،والأرباض، والمجتمع كيفما كانت أنواعه وأنماطه. الشيء الذي يزيد من أهميته وغناه من حيث الكمّية والنوعية،والشكل والمضمون فى آنٍ واحد، وهكذا نجد رقصات،ولوحات فنية مثل: طرب الآلة، والطرب الأندلسي، والغرناطي، والموشّحات،وفنّ الملحون، والأمداح، والفن الأمازيغي، وللاّ بويا، ورقصة وغناء اكناوة ورقصات أحيدوس، والركادة ،وغيرها من الفنون والرّقصات الشعبية الأخرى المعروفة التي لا حصر لها .
لباسُك يرفعك..
ويحتلّ اللباس القليدي المغربي مكانة مرموقة فى عالم الموضة فى مختلف أنحاء المعمور، وهو جزء لا يتجزّأ من التراث المغربي الأصيل الذي يعتبر أحد المقوّمات البارزة للحضارة المغربية، وهو من أبرز المظاهر الحضارية لبلادنا ورمز رقيّها وتميّزها ، كما أنه إنعكاس واضح للتعدّد والتنوّع اللذين يميّزان الثقافة المغربية الأصيلة .
ويعتبر”القفطان” المغربي من أقدم الألبسة التقليدية وأرقاها فى المغرب، ويؤكّد المؤرّخون أنّ ظهوره يعود إلى عصر المرينييّن، وكان هذا االزيّ منتشراً كذلك فى الأندلس، ويعتبر المغاربة قفطانهم رمزاً بارزاً من رموز ثقافتهم التقليدية الشعبية الأصيلة ، ومهما تنوّعت أصناف الألبسة المتوارثة، وتعدّدت أشكال الأردية التقليدية، تظلّ للتكشيطة الغلبة بخاصّيتها التي لا منافس لها فى عالم الأزياء، بل إنها تعتبر مفخرة النساء المغربيات فى كلّ مكان وزمان اللاّئي ما فتئن يفضّلن إختيارها وإرتدائها كزيّ تقليدي عريق وأصيل، بدل التصميمات والتقليعات العصرية الحديثة الوافدة التي تقذفها الموضة العالمية كلّ يوم. وتتميّز كلّ مدينة أو منطقة فى المغرب بأسلوب خاص بها إنطلاقاً من أقصى شمال المغرب إلى أقصى جنوبه ،ومن شرقه إلى غربه ،حيث تتباهى المرأة المغربية فى مختلف المناطق، والأقاليم،والجهات،والضواحي، والأرباض من جهة، بلباسها التقليدي الأصيل وتعتزّ به إعتزازا كبيرا، حيث تتنوّع، وتتعدّد أساليب الخياطة والإبتكار، وأنماط الطرز،والحياكة، والإبداع فيه من جهة إلى أخرى .
خزائن الذّاكرة
وتختزن المتاحف المغربية المنتشرة فى العديد من المدن المغربية مختلف المظاهر الحضارية والثقافية التي تعاقبت على البلاد منذ أقدم العصور حفاظاً على الذاكرة الجماعية لمختلف جهات ومناطق المغرب ، وتضطلع هذه المتاحف بدور حيوي في حماية الموروثات الثقافية وحفظها، وصونها والتعريف بها ،إلى الجانب دورها التثقيفي، والتعليمي، والترفيهي والسياحي، وقد أنشئت فى البلاد العديد من المتاحف فى مختلف حقول المعرفة، وفروع العلم والإبداع. والصناعات التقليدية . وتتعدّد المتاحف من أركيولوجية، وإثنوغرافية، إلى متاحف متخصّصة وهي تقدم برمّتها على تنوّعها لزوّارها، وروّادها وللطلبة والدارسين والمتعطشين للعلم والمعرفة صوراً،وأشكالاً، ولمحات تسلسلية عن تاريخ المغرب، وتطور فنون الإبداع ، وتواتر العادات، وتوارد التقاليد فيه عبر العصور، إلاّ أنه تنبغي الإشارة فى هذا الصدد أنّ هناك مناطق عديدة فى المغرب ما زالت تفتقد وتفتقر إلى متاحف من هذا القبيل لحفظ موروثاتها، وصَوْن تاريخها، وصَقل وتخزين ذاكرتها الجماعية المشتركة وشحذهها، وتجديدها،منها منطقة الرّيف الشاسعة التي لا يوجد بها حتى اليوم مُتحف واحد من هذا النّوع.
والمغرب، بعناصره التعددية والمتنوّعة يتوفّر على أرضية ثريّة فسيحة أسهم فى رسمها تاريخ البلاد ممّا جعلها تتميّز بشخصية خاصّة ذات كيان قائم الذات منذ قرون عديدة خلت ، ومركزَا هامّا من مراكز الإشعاع الحضاري الذي يسهم بقسط وافر في التطوّر الإنساني على مستويات الفكر والإبداع،الثقافة، والعلم والعرفان، والأخلاق، والعمران، فى تلاؤم وتناغم متكاملين بين مختلف العناصر والمقوّمات والمكوّنات الأخرى التي تجعل منه بلداً ذا شخصيّة متميّزة متفرّدة فى المنطقة المغاربية والعالم العربي وإفرقيا .
معاودة قراءة التّاريخ
الحديث عن التعدّد الثقافي والتوّع الحضاري فى المغرب يحلو و يطول، والتاريخ لا يُقرأ في هنيهة، إنّ الزّائر الذي يأتي لهذا البلد يلمس التاريخ حيّا نابضا قائما في كل مظهر من مظاهر الحياة فيه، دراسة هذا التاريخ، والتعمّق فيه وإستخراج العناصر الصّالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه، ينبغي أن يُولىَ أهميّة قصوى ،وعناية فائقة ، من طرف مختلف الجهات العلمية والتاريخيىة التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهم ليكون المستقبل الذي يتوقون إليه مستقبل رقيّ وأوج،وإشراق وتلاق بين ماض عريق، وحاضر واعد ، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيدا وتجسيما للعهود الزّاهرة التي عاشها الأجداد على إمتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي البّاهر الذي شكّل وما يزال جسرا حضاريا متواصلا بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والإثنيات ،والملل، والنحل، والديانات فى هذا الصّقع القصيّ الجميل من العالم.
هذا ومن العلامات المضيئة لهذا الإنفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي والتثاقفيالذي عرفته البلاد فى ماضيها المشرق، العديد من العلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والشّعراء، والفنانين، والموسيقيّين الذين عاشوا فى الأندلس ثم إنتقلوا إلى المغرب و العكس صحيح ، والأمثلة كثيرة وافرة، والأسماء لا حصر لها فى هذا القبيل، وحسبنا أن نشير فى هذا المقام إلى إسمين بارزين فى التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما الفيلسوف الجهبذ، الفقيه العلاّمة إبن طفيل صاحب ” حيّ ابن يقظان”، وتلميذه قاضي إشبيلية ،وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها الذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد اللذين إستقبلتهما مراكش بحفاوة منقطعة النظير ، وبوّأتهما أعلى الأرائك، وأرقى المراتب،وأرفعَ المنازل، وملكتهما من أعنتها وقيادتها فاستطاب لهما العيش فيها واسترغداه، وأصبحا صاحب الأمر فى البلاد، ولقد وافتهما المنية فى مدينة مراكش .
الخلاصة
والخلاصة، فإنّه فى بلدٍ مثل االمغرب، لا يمكن تقوية الحوار ، وإحترام التنوّع الثقافي، والتعدّد الإثني،كما لا يمكن لهما أن يصبحا واقعاً حقيقياً ملموساً على الصعيدين المحلّي،والعالمي إلاّ إذا أمكن تبنّي مبدئيهما، وترسيخهما، وفسح المجال لتحقيق أهدافهما،ومراميهما النبيلة من طرف كلّ مواطن،ومواطنة. و ذلك إنطلاقاً من الموروثات التاريخية المتعدّدة العريقة والأصيلة فيه، وَصَوْن هويّته العريقة القائمة على تواصل التفاعل الإيجابي، وتجدّده بين مقوّمات الوحدة والتنوّع، والمزج والتآلف بين روافد،ومنابع ،ومناهل هذه الهويّة ، والتشبّث بالقيم الإنسانية والكونية.وترسيخ ميثاق حقيقي لضمان وتأكيد الحقوق،وتبيان الواجبات، وتأصيل الحريّات الأساسية،والتشبّث بقيم،ومبادئ الإنفتاح، والإعتدال،والتسامح،وتأصيل الإحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات، ونشر الحوار، والتفاهم المتبادل بين مختلف الثقافات، والحضارات الإنسانية، فضلاّ عن تلاحم وتنوّع مقوّمات الهويّة الوطنية الموحّدة،وانصهار،وتمازج كلّ مكوّناتها، العربية الإسلامية ،والأمازيغية الأصيلة، والصّحراوية الحسّانية، الثريّة بروافدها، ومنابعها الأفريقية، والأندلسية ، ومن فيض مختلف روافد ،وينابيع حضارات، وثقافات حوض البحر الأبيض المتوسّط.
ومُجملُ القول إنّ واقعنا المُعاش فى الوقت الرّاهن يحتّم علينا المزيد من التعارف، والتآلف، والتقارب،والتداني، والتصالح،والتصافح، والتكتّل والإندماج،وإقصاء،ونبذ،وتجاوز كلّ منظور فكري ضّيق،ومعتم يعتبر المجتمعات مجرّد دول،وشعوب، وجماعات، وأجناس، وإثنيات،متفرّقة، مشتّتة، متباعدة، متنابذة، تتعايش، وتتبارى، وتتنافس فيما بينها، والتّوْق إلى تبنّي،وإقرار،وتأصيل،وتأثيل،وترسيخ،وتأكيد مفهوم أوسع فضاءً، وأنجع ثراءً،وأفسح معنىً ،وأكثرشمولية،وأجدى إيجابية يجعل من هذه الشعوب ،والمجتمعات، والجماعات، لبناتٍ ثابتة،وجذوراً راسخةً، ومتنوّعة لكيانٍ واحدٍ مشتركٍ، ومتماسكٍ، قائمِ الذّات،تتجلّى، وتتبلور،وتتجسّم فيه أحلى، وأجلى،وأرقى،وأنقى، وأبهى،وأروع معاني الإنسانية،والتوحّد،والشمول،دون التهميش،أوالتناسي،أوالتفريط قيد أنملة فى الحقوق المُصانة، والمطالب المشروعة لأيِّ مكوّنٍ من هذه المكوّنات الأساسيّة برمّتها للوطن.