كتابٌ طريف حافلٌ بالعديد من المعلومات التاريخية ،والإجتماعية، والثقافية،والعلمية، والرياضية ،والحياتية المفيدة،والمفاجآت المثيرة حول نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين للباحث الرّوماني” أوجِينْ وِيبَرْ” المعروف بدراساته في التاريخ الفرنسي على وجه الخصوص . كَتَبَ يقول إنّ “شارل بيغوي” يَرَى أنّ العالمَ  قد تغيّر في هذه الحقبة الزّمانية بالذات المحصورة بين القرنين المنصرمين ، أكثر من الفترة الزمانية الممتدّة من ولادة السيّد المسيح حتى عصرنا الحاضر. هذا الحُكم قد يبدو مُبَالَغاً فيه ، إلاّ أنّ “أوجين ويبر” يبرّر ذلك بكلّ بساطة عندما يذكر أنّه في الحقبتين أو الثلاث حقب الموالية لنهاية القرن، كان صاحبُ هذا القول شاهداً على كثير من التغييرات ،والتطوّرات التي طرأت على مختلف وسائل الحياة،  والأنشطة، والتقنيات، التى كانت تميّز،أوتطبع بشكل واضح مظاهر الحياة اليوميّة فى ذلك الأوان، ففى ذلك العصر ظهرت السّينما، والسيّارة،والعديد من المُخترعات الأخرى، وأمكن إستغلال وقت الفراغ بشكل جيّد ، الحركة، الأخبار،الرّياضة،الأنشطة المبتكرة، وسواها من مظاهر الحياة اليومية الأخرى، كلّ ذلك كانت له جذور،وأصول، وتأثيرات مباشرة وفعّالة على التغيير الجذري الذى عرفه عالمُنا المعاصركذلك اليوم فى هذه المجالات برمّتها، وفى سواها من مظاهر الحياة العصرية المُستجدّة ، إلاّ أنه فى المرحلة السّابقة كلّ تلك المُخترعات،والمُبتكرات، والنشاطات، والمستجدّات ظلّت أو كانت محصورةً داخل قطاع خاص مُصَغّر للشعب،وأمّا في الوقت الراهن، فقد تحوّلت إلى مِلك عام للأغلبة السّاحقة من الجماهير.

أصول طرائق العيش

إنّ مؤلّف هذا الكتاب لا يولي كبيرَ أهمّية للسياسة،  بل إنه يمرّ بها مرورَ الكرام ، يفوق قولا،ً وتحليلاً، ورصداً عنها ما خصّه عن ظهور الدرّاجات وإنتشارها ، إلاّ أنّه يقوم بشئ غير مألوف  لدى المتخصّصين في هذا المجال، وهو محاولة التعريف ب: “روح العصر ” ذلك أنه بدون ذلك سيصعب عليه تفسير أصول طرائق الحياة ، وهكذا على سبيل المثال ، فإنّ رياضة الجماهير كان أصلها من فرنسا، وأنّ الواعز الذى أدّى إلى ظهورها يرجع فى الأصل للإرادة الوطنية  فى  تجديد الإيمان في العِرْق، أو الجِنس، او العُنصر الفرنسى إزاء الخطر الألماني الدّاهم.  بل إنّ هناك علامات،وأمارات، ومميّزات أخرى متعدّدة لنهاية هذا القرن. فالتوهّم بالانحطاط  يولّد الشّعورَ بالنهضة  ، وزوال كلّ ما كان يبدو إيجابياً حتى ذلك التاريخ، وبداية تخطّى أو تجاوز كلّ ما لم يكن ممكناً  تخطّيه أو تجاوزه من قبل .

كيف كانوا يعيشون..؟

 وأهمّ ما في هذا الكتاب في الواقع فصلان إثنان وهما :” كيف كانوا يعيشون “، و” الحبّ والكراهية ” إذ أنّ المؤلف يعالج في هذين الفصلين الطريفين أصولَ طرائق  العيش،ومظاهرَ الحياة الإعتيادية اليومية المتواترة التى تبدو لنا اليوم عادية . في حين أنّها بالقياس إلى تاريخ البشرية حديثة العهد بنا جدّا .فعلى سبيل المثال  في أواخر القرن التاسع عشر فقط بدأت تظهر الإنارة الحديثة في شوارع المُدن، وطفقت العناية والإهتمام بالصحّة العومية ، والطبّ، والتطبيب ، ومع بداية القرن العشرين فقط بدأ يُنظّمُ وينتشر النقل العمومى داخل المُدن . ويُلقي الكتاب الضوءَ على العديد من العادات ،والتقاليد ،والعوائد، والممارسات الاجتماعية التى تبدو لنا وكأنّها غارقة في القِدَم ، في حين أنه لم يمرّ عليها في الواقع سوى قرن واحد..!.

  بداية  تحرّر المرأة

 لم يخلُ الكتاب من الإشارة الى التغيير الهائل الذى عرفته المرأة في هذا الأوان، حيث كانت القوانين الغربية  في ذلك الوقت  تعتبر المرأة مخلوقاً ناقصاً ، وفي هذه الفترة مثلاً  تمّت الموافقة لأوّل مرّة بأن تكون المرأة صالحةً لأداء الشّهادة في المحاكم وبدأت تظهر بالتالي إرهاصات لبداية تحرّرها وأنفتاحها على المجتمع،وفكّ بعض القيود عنها فيه.ولابدّ أنّ القارئ يعرفُ جيّداً أنّ مجتمعاتٍ أخرى التي تُنْعَتُ بالمتأخّرة، وغير المتمدينة لم تضع المرأةَ  في هذا الموضع من السّخرية والإزدراء !.

ويُخبرنا الكتابُ كذلك أنه في هذه الفترة أيضاً أمكن للمرأة لأوّل مرّة أن تفتح حساباً مصرفياً خاصّاً بها ، وأن تحصل على رسائل جامعية عليا مثل الدكتوراه . وفي (1900) فقط سُمِح للمرأة لأوّل مرّة كذلك في فرنسا الإلتحاق بكلية الحقوق كباقى زملائها الرجال، ويقول الكتاب إنه مع التغيير الذى طرأ على وضعية المرأة ، ومع الإعتبار الجديد الذى أصبح يُمْنَح لها  وَقعَ أو طرأ تغيير كبير على “الموضة” (أي طرائق،وتقاليع،ومبتكرات،وتفنّن لبس المرأة، وزينتها، وتطريتها).حيث أصبح رداء المرأة بسيطاً يخلو من التعقيدات الهجينة،واالفضفضة المبالغ فيها، والبَهْرَجة المتوارثة التى كان يفرضها عليها العصر، وتقيّدها  بها التقاليد.

إمِيلْ  زُولاَ والمَلِكَةُ الصّغِيرَة..

يتعرّض المؤلف في كتابه إلى الجانب الثقافي في هذا العصر .ولا تنحصر معالجته لهذا الجانب في نطاق  ضيّق، أو لدى صفوة  معيّنة من المفكّرين أو الفنّانين،  بل إنّه يتناول هذا  الموضوع في مجاله الواسع، ويتغلغل في الأوساط الثقافية العامّة ، أو ما يُسمّى اليوم ب:”الثقافة الشعبية “ويوجّه نظرنا الى بعض التعابير الفنيّة ، والموجات الجديدة التى ظهرت،  وميّزت ذلك العصر مثل حديثه عن ” التأثّرية ” أو ” الإنطباعية ” بمعناها الاجتماعي ، وكذا حديثه عن المسرح ، والسينما  اللذين  حقّقا نجاحاً سريعاً، ولقيا  إقبالاً واسعاً،  وإنتشاراً كبيراً من طرف مختلف طبقات الناس.

بل إنّ السينما ذاتها في هذه الفترة كانت قد حقّقت تقدماً ملموساً خاصةً فيما يتعلّق بالحركة، والإثارة،والنطق،والتصوير،والموسيقى،والألوان .

ويشير المؤلف إنّ نهاية القرن شهدت كذلك  ظاهرة إجتماعية أخرى جديدة تتمثّل في السياحة  ففي عام (1900) على سبيل المثال ظهرت لأوّل مرّة  الكتيّبات، أوالمطبوعات، أو الكتالوغات السياحية مثل دليل ” مِيشلين ” الشهير،وبُدِئ في تنظيم الرّحلات السياحيّة المُنَظّمة البعيدة، والقريبة أي على الصعيدين الدّولي والوطني أو المحلّي. ويصفُ المؤلفُ الدرّاجةَ أنّها كانت  “الملكة الصغيرة ” في نهاية القرن، بل لقد بلغ الأمر بالكاتب الفرنسى الكبير ” إمِيلْ زُولاَ ” بأن كتب  في إحدى رواياته أنّ مداومة ركوب الدرّاجات كان بمثابة ترويض دائم للإرادة..!.

وفى عام (1903) بُدِئ لأوّل مرّة في تنظيم سباق السيّارات، كما ظهرت ما يُسَمّى  اليوم ب:”الجَوْلَة حول فرنسا” أو “ سباق أو طواف فرنسا للدرّاجات ” tour de france)) وفي تلك التواريخ وُضع قانون للسّباق ، ومُنِع التبارى في الشّوارع العامّة كعلامة على إنتشار السيارات ، وتفاقم المواصلات، وتكاثر الدرّاجات،وزيادة عدد الرّاجيلن فى الأزقّة والشوارع ، والساحات العمومية، وبُدِئ فى تنظيم المرور، ووضع علامات له، وذلك تفادياً للإصطدامات، وإتقاءً لحوادث السّير .

معشوقة الجماهير

كما عرفت باقي الرياضات تقدّماً هائلاً ،وتطوّراً سريعاً، وتنظيماتٍ محكمة ،وبدأت تنتشر بشكل واسع بين الجماهير وتستقطب إهتمامها. وأصناف الرياضات المستوردة أو القادمة من إنجلترّا هي التي كانت تجد  قبولاً وإستحساناً  لدى الناس.وتتبّعُ هذه الظواهر الحياتية العامّة بالنسبة للمؤلّف هي الأهمّ في نظره من رصد الأحداث السياسية  في ذلك الوقت . ويلاحظ المؤلف أنّ الرياضات  إنتشرت أوإنحسرت حسب الإقبال الجماهيري عليها، أو حسب الأوساط التي تجرى فيها هذه الرياضات .فملاحظات الجمهور،وحماسه، وتشجيعاته، كان لها تأثير واضح وحاسم  على مستقبل هذه الأنواع من الرياضات، فكرة القدم مثلاً  إنفلتت من القيد، أو الشرط الإجتماعي الذي حصر  لعبة  “الرّوكبي” أو “الكرة المستطيلة ” داخل مؤسّسات مدرسيّة،أو نوادي خاصّة  تلك التي غالباً ما تؤمّها الطبقات الرّاقية، بل أصبحت كرة القدم هي اللّعبة الأكثر شعبيةً، والأوسع إنتشاراً في العالم حتى لُقّبت ب:” معشوقة الجماهير” !.

إنّه في الوقت الذي إستقبَلْنَا فيه منذ أعوام قليلةٍ قرناً جديداً آخر، وودّعنا القرنيْن المنصرميْن (التاسع عشر والعشرين) فإنّ قراءةَ هذا الكتاب يطرح تساؤلاً ملحّاً مهمّا وهو: إلى أيّ حدّ تبدو لنا حياتنا اليومية في شكلها ” العادي” أو “المألوف” اليوم بالنسبة لما كانت عليه فيما مضى،أو بالقياس لما كنّا نتوق إليه… ؟ !