يقول توماس كارليل، بأن الرأي العام، أكبر كذبة في التاريخ، نسجها البعض، لغايات في نفس يعقوب، كما يقول العرب، هم أدرى بها، تدخل في إطار ما يسمى “صناعة النقاش العمومي”، وسلسة قنوات إنتاجه الطويلة، عبر لوبياتْ نخبويةْ، هدفها الأساسي، توجيه أنظار العامة، نحو نقاشات معينةْ، وعن سبق تخطيط محكم وجيدْ، إذ لا يمكن في الغالب، لأشخاص عاديين، أن يصنعوا تلك النقاشات، وإنما لابد من توفر العديد من الخصوصيات لدى هذه الشريحةْ، بين التكوين الأكاديمي، والإرث التاريخي، والأكثر من ذلك علاقات اجتماعيةْ رفيعة المستوى، تلك التي تؤشر أدوار هذه النخبة، في سلسلة لامتناهيةْ، تؤسس عبر شبكة مصالح متبادلةْ، يسعى كل طرف لخدمة الأخر، بما يضمن الاستقرار النسبي لاهتمام العامة حول قضايا بعينها دون غيرها.

منذ إصدار المجلس الوطني لحقوق الإنسان، تقريره السنوي الموضوعاتي حول العديد من القضايا، التي يراها المجلس، تدخل ضمن انشغالاته، ومن بينها على سبيل المثال، قضية المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، والتي قدم فيها المجلس توصية، تفجر على إثرها نقاش عمومي، بين مؤيد ومعارض، وفي خضم ذلك انشطرت أطراف المجتمع بين مؤيدين مدججين بأسلحة الحداثةْ، ومحافظينْ محميين بطبيعة المجتمع وأصوله الدينيةْ.

التوصية تختلف تمام الاختلاف عن القرار، فالتوصية لا تعتبر إلزاما، يؤخذ بها أو لا يؤخذ، أما القرار، فهو عكس ذلك، ويعتبر لزاما، وبما أن المجلس دستوريا غير مخول بذلك، اكتفى بذكر توصية، إلا أن تلك التوصية، اخذ حجما كبيرا، وسقطت كالنار في الهشيم، الشيء الذي جعلها تحتل واجهة انشغال الرأي العام الوطني، الذي أضحى يستأثر مع كامل الأسف، بشتى أنواعْ النقاش ويدخل في صلبها، دون أدنى ذرة شك واستفهام حول دواعيها. وفي الغالبْ، ما تبنى مواقف شرائح واسعة من أبناء الشعب، على مقالات ، تتضمن مواقف، تخص أصحابهاَ، إلا أن البحث في العادةْ، وكي يكون سليماً من كل انحياز إيديولوجي، يجب أن يكون ذا منهجية علمية بحة، إذ لا يمكنْ في الأخير، أن يرهن موقف عامة الشعب، لنخب دون غيرها، تميزها الوحيدْ، الذي يمنحها تلقائيا صلاحيةْ، الحديث ب “ن” الجماعة، ولو في غير مواضعها, وجودها على واجهة المجتمعْ..

قضية المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة بالمغرب، لا تغدو كونها، فصل قصير من فصول النقاشات، التي يمكن اعتبارها من باب البرستيج السياسي والحقوقي، إذ ما مسحنا الغبار عن عيوننا

وفقا لدستور المغربي المعدل سنة 2011، المغرب دولة إسلامية، وعليه، تبدو مسالة الإرث محسومة سلفا، بالنظر إلى وحي القوانين، التي سنها المشرع في هذا الصدد، وكما أن النقاش الحقوقي النسائي، لم يتوقف بعد على المسألة، بالقدر ما استأثرت اهتمامه قضايا العنف والتمييز بما له علاقة بما هو وظيفي واجتماعي، ومنه يبقى الإشكال، من له مصلحة في تفجير قضايا من هذا الشأن، وكما التوقيت، أي لماذا اختار ساسة التحكم عن بعد، هذا التوقيت بالذات.

في الجهة المقابلة، وحتى نجيب نوعا ما، عن إشكالية التوقيت والمصلحة، لابد أن نستحضر على سبيل الاستئناس، ما يعيشه المغرب اليوم، وخلال الأيام والأسابيع الماضية، وبادئ البدء، معركة الأمعاء الخاوية التي يخوضها، المؤرخ المغربي المعطي منجب، والذي يبدو انه قطع نصف طريقه نحو الشهادة، قضية المعطي منجب، استرعت اهتمام الرأي العام الدولي ومنظماته وهيئاته، مما وضع مغرب العهد الجديد في موقف اختبار حقيقي لشعاراته الرنانة، في علاقته بالحقوق والحريات، هذه القضية وحدها، تكفي لان تتجند لها القوى، التي تشكل ما يعرف، بأدوات النظام التقليدية، وامتداداته العميقة داخل المجتمع المغربي،ورغم صدور إشارات في هذا الصدد، وبضغط العديد من الجهاتْ، ارتأى السيد منجب المعطي، إلى تعليق إضرابه عن الطعام، ورغم ذلك بقيت القضية معلقةْ، إذ أن الإعلان يظل غامضا ومبهماً، بنظر إلى طريقة تصريف ملف المنع من السفر، الذي يطال العديد من الصحفيين.

كما لا يخفى على احد، ما عاشته مدينة طنجة خلال نهاية الأسبوع الماضي، والتعبئة الشعبية الواسعة، التي عرفتها، معركة الشموع في مواجهة بطش التيار أن صح التعبير، تلك المسيرة الطويلة، أعادت إلى الأذهان مسيرات طنجة الحاشدة، خلال الحراك المغربي سنة, 2011  حيث تربعت المدينة على عرش التظاهرات بمجملها، كأكبر مدينة عرفت أضخم المسيرات خلال مختلف أطوار الحراك المغربي، الشيء الذي يبدو انه أرعب البعض، وأعاد إلى أذهانهم ساعات المخاض العسير، الذي وان بدت نتائجه عكس المتوقع، كسرت على الأقل شوكة الخوف، التي ترسبت إلى وجدان المغربي، عبر سنوات الجمر والرصاص.

وقضية فاجعة منى، التي كادت أن تفجر سخطا شعبيا، بسبب هول الفاجعة وضريبتها الباهظة في أرواح المغاربة، والاسوء حالة الصمت الرسمي، التي تلت أطوارها، وظهور كواليس الحج والكيفية الحقيقية، التي يدار بها هذا الملف مغربي، بين المنعم عليهم، وبين آخرين تركوا, ليواجهوا مصيرهم، في ظل الفوضى العارمة، التي عمتْ احد فصول هذا الركن من أركان الإسلام،، لا ندري كم من الوقت الجهد، كلفهم حجز تذكرة رحيل بلا عودة، معناه في عمق مشاعر التعبد، المغاربة لا يتساوون, ولازالت أنباء الوفيات، تظهر إتباعا على نشرات الأخبار الرسمية، والتي بلغ ضحاياها 42 وفاة.

قضية المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة بالمغرب، لا تغدو كونها، فصل قصير من فصول النقاشات، التي يمكن اعتبارها من باب البرستيج السياسي والحقوقي، إذ ما مسحنا الغبار عن عيوننا، لنواجه حقائق الشعب ومواطنيه، كما انه مبدئيا، لا يمكن أن تمنح للإنسان يخت باذخ، بينما هو لا يملك البحر، فكيف لهُ، أن يدركَ قيمته ومزاياهْ، إذ أن البحر الحلقة الأساسية داخل هذه المعادلة غير موجود، الشيء الذي يجعلها معادلة بدون حل ومحل، مواطن لازالت تقض مضجعه فواتير الكهرباء والدواء، هذا في أحسن حالاته، إذ ما وجد عملا، يسد به رمق حياته، مواطن لا يملك كرامته الاجتماعية، ولا تحقق العدالة حقه، لا يمكنه، إلا أن يستحيي من هذه النقاشات، ويطفئ نور مصباحه، فالنوم المبكر، أهون بكثير من فواتير الكهرباء، وأعظم بجلال من أن يتكبد عناء متابعة فصول حكاية، من فرط تكرارها، أضحت مكشوفة، والأكثر من ذلك مملة.

ومنه يبدو أن المسألة معقدةْ أكثر بكثير، وتتجاوز حدود النقاش الظاهرْ، لتمتدَ بذلكَ، إلى عمق تفاصيلْ حياة المغاربة اليومية، ليكون الاستفهامُ واسعاً، هل هي قضية أولويات أم ضروريات أم ثانوية أم استعجالية، أم أن المواطنْ العربيِ، من فرط سعيهِ وراء المجتمع الغربيِ، أباح القفز الطوليِ على أمهات القضايا موهما نفسهُ ببلوغ الحلم الغربيِ، إلا أننا في الواقعْ، نحتاجْ إلى  اعتراف ضمني وإقرار علنيِ بفشلنا في عيش تخلفنا بتعاسةْ، وفشلنا في عيش ازدهار الآخرين ، ولو على سبيلْ الوهمْ، ذاكرة الشعب ليست قصيرةْ، كما يبدو للكثيرين، فهي حتما أطول بكثيرْ وحيةْ، ويتجددْ نورهاَ، بشموع أبناء هذا الوطنْ، من يحترقونْ تدريجياً لأجل تلك الذاكرة وقضاياهاَ.