الكاتبة والمفكرة المغربية فاطمة مرنيسي(1940-2015)، قبل أن ترحل عن هذا العالم المعطوب بسبب مرضها بالسرطان، نجحت إلى حد بعيد في خلخلة عدد كبير من السرطانات الفكرية والثقافية والإيديولوجية التي تبقى أحد العوامل الأساسية في الانحطاط الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية بصفة عامة. من موقعها ككاتبة نسائية وعالمة اجتماع، قدمت فاطمة مرنيسي عصارة فكرها التقدمي في مجموعة من الكتب حول الإسلام والمرأة والثقافة الذكورية والتطورات الحديثة والفضاء الجنسي معلنة بذلك كفاحا فكريا حرا الهدف  الأسمى منه هو ترسيخ قيم المساواة في المجتمع الذكوري وتقديم قراءات جديدة للنص المقدس، قراءات لا تزال تعرف إلى حد الساعة رفضا من قبل جل فقهائنا وكذا من قبل حكامنا الذين مازالوا، بسبب افتقادهم للشرعية الديموقراطية، يوظفون خطابات دينية متعددة ومعطوبة للحفاظ على الشخير العام ولقهر حرية الإنسان في اختيار نمط حياة يروق لمصالحهم .

لم يكن حلم فاطمة مرنيسي غريبا عن الإنسانية، لكن تمت شيطنته وتصويره من قبل القوات المسلحة الإيديولوجية، كما يسميها محمد منير الحجوجي، كأنه فكر دخيل على مجتمعاتنا “المحافظة” (المحافظة هنا تعني الراكعة لقيم اللامساواة والسلطوية). هكذا يبدو مصير كل مفكر ومثقف في مجتمعاتنا، فهو مصير محسوم سلفا: الرفض والإقصاء وطمس معالم نجوميته أو التضييق عليه نفسيا وأكاديميا ليزج بنفسه في غيهب المنفى بعيدا عن  وطنه المنحط ليعيش في بلاد الغربة حيث يُدَرَّس فكره في الجامعات والمعاهد العليا(محمد أركون ونصر حامد ابو زيد وعزيز العظمة الخ… أحد الأمثلة الحية). إن السياسات العمومية التي تنتهجها دولنا العربية والإسلامية بصفة عامة لم تحسم يوما في مسألة كرامة الإنسان وحريته في التعبير الإبداعي والفكري… فهيكلها سياسات تتعامل مع الفرد داخل المجتمع بصفته كبش لا تتعدى احتياجاته العلف والماء، وفي الحالات القصوى سكن محتشم يضمن للرجل وللمرأة فضاء للتجانس من أجل إنجاب جيل جديد يتم تربيته على قيم الطاعة والولاء وقتل حس النقد وطرح السؤال الذي لا تقبله العائلة أو العشيرة أو الحومة أو المدينة أو حتى الدولة بمفهومها المؤسساتي. فاطمة مرنيسي كانت ترى هذه المجتمعات بعيون عالمة اجتماع تحلم بعالم أفضل مما هو عليه الآن، ولاغرو أنها نجحت إلى حد كبير في إحراج السلطة وإسقاط كل التابوهات وخلخلة ثقافة العبودية داخل المجتمعات الذكورية، المجتمعات التي عملت على تشييئ  المرأة واختزالها في آلة مهمتها الكونية هي إمتاع الرجل وإنجاب جيل جديد يعيش على ثقافة السلف. طبعا لم تكن فاطمة مرنيسي معروفة من قبل الأغلبية في المغرب بقدرما كان يلعلع نجمها في سماء المعرفة  في  أوروبا وأمريكا على حد سواء، إذ لاغرابة في هذا الأمر حيث تجيش كل المدارس والمناهج التعليمية والخطابات الرسمية لتعمل على تغييب الفكر التقدمي الحر الذي يرى في الدين وسيلة لكرامة الإنسان داخل المجتمع وليس وسيلة لاضطهاد هذه الكرامة كما هو الحال عليه اليوم. فوسائل التواصل الاجتماعي تعطينا فكرة بسيطة عن الانحطاط الذي نعيشه، لنأخذ مثلا كل صفحات المفكرين المغاربة والعرب بصفة عامة والتي لا تعرف مستوى كبير من تفاعل الناس معها، في حين  أن الملايين مغرمين بصفحة الداعية الفيزازي وصفحة الداعية العريفي الذي نال ترحيب فئات عريضة  من “المؤمنين” و “المؤمنات” ليقدم فكره اللاإنساني الذي جعل الإسلام مدعاة لسخرية واسعة النطاق. 

إن الاستمرار في حرق أصحاب الفكر التقدمي والحر هو التهديد الحقيقي للأمن والاستقرار إذ يسمح هذا للتطرف بالتغلغل في أوساط مجتمعية تعاني الهشاشة والفقر والإسفاف والأمية بسبب المناهج العمومية الركيكة والتي لا تؤدي إلى تغيير حقيقي يجعل الشعب يرتاح لحاضره ويطمئن على مستقبله.

إن مصير العالم والمفكر والمثقف في العالم العربي والإسلامي هو كما أسلفت  الذكر محسوم سلفا، فمصيره دائما هو التهميش والإقصاء والتشكيك في وطنيته وغيرته على المجتمع. لكن السؤال المخجل هو: كيف يمكن للمفكر أن يغير على مجتمع هو في الأصل خارج سياق التاريخ؟ فإدوارد سعيد يرى في كتابه الشهير المثقف والسلطة(Representations of the Intellectual) أن المفكرين يشكلون قلة قليلة داخل المجتمع ووظيفتهم لا يقوم بها كل الناس، اذ أنهم قلة من الملوك (ملوك الفكر الحر) والعلماء والمتعلمين الذين يتجاوزون الواقع المتعفن بحثا عن قيم العدل والحرية والكرامة الإنسانية. حسب سعيد، مهمة المثقف والعالم تتمثل في  إحراج الكل بما في ذلك الحكومات التي لا تقوى في غالب الأحيان على استقطابه، وهو ذلك الذي “لا يقبل أبدا بأنصاف حلول أو أنصاف الحقيقة”، وهو المقاوم الشرس الذي يتصارع مع القوة بخطاب الحق، هو الذي ينتج فكرا حرا لبني البشر لكي يقاوموا هيمنة السلطة السائدة سواء المادية أو الاجتماعية و الثقافية أو السياسية باعتبار أنه  إذا لم يقم المفكر بهذه المهمة التاريخية، سيصبح خائنا لمهمته الإبداعية والفكرية وهو كما يسميه العالم الإيطالي أنطنيو غرامشي “المثقف المنسِّق” لأنه ارتبط ارتباطا مباشرا مع كل محتكر للسلطة ومنتج لثقافة الاستبداد للحفاظ على مصالحها. فحسب الراحل ادريس بنعلي، “المثقف الذي لا ينخرط في تغيير العالم هو جزء ممن يخربونه”. فالحقيقة التي لن ينساها التاريخ هي أن الكاتبة فاطمة مرنيسي لم تتورط يوما في هكذا خيانة للوطن/للعالم الإنساني الرافض لإنتاج قيم الإنسانية. ما هو جدير بالذكر في حق المفكرة فاطمة مرنيسي  هو أنها لم تنجر إلى أفكار التيار النسوي المتطرف في الغرب في دفاعها عن حقوق المرأة، وهنا أتذكر جملة قالها لي رشيد بوطيب في يوم من أيام الصيف الماضي في برلين، قال لي هذا المثقف المغربي-الألماني أن فاطمة مرنيسي “غادرت الحريم دون ان تغادر الأنوثة”، بل وجهدت في التأكيد على دور المرأة في المجتمع العربي القديم كما في سلطانات منسيات وام تخش الانخراط في الحياة البسيطة للناس كما في السندباد المغربي!

تحرق دولنا وشعوبنا مفكريها ومثقفيها وتتلذذ في إقصاءهم من فضاءات عدة كالإعلام العمومي، تاركة المجال فارغا للانتهازيين والوصوليين وأرباب الفكر السلطاني الذي يقوي قيم السلطوية والظلم في المجتمع. هذا النوع تحديدا من “النخبة” هو الذي جعل الشعوب تفقد المصداقية في الكل، وهكذا اختلط الحابل بالنابل في مجتمعات يقتلها الفقر والجهل والأمية والاستبداد وينخرها الفساد بما في ذلك الفساد الفكري. لم ترض يوما فاطمة مرنيسي أن يكون فكرها أحد عوامل قوة السلطة بكل أنماطها، سواء الاجتماعية أو السياسية أو حتى “الدينية” المزورة لروح الدين وقيمه الإنسانية. ماتت فاطمة مرنيسي، لكن تركت لنا كتبا بالعربية والفرنسية والإنجليزية والاسبانية… موجودة في كل مكتبات العالم . كل هذا  يعطينا مما لاشك فيه أملا في المستقبل، في غد أفضل يحترم فيه العلم والفكر الحر الذي لا يمتثل بل لا يعترف أصلا  بأي قيد من القيود المفروضة من فوق. تركت لنا فاطمة مرنيسي أعمالا سردية وتاريخية وسوسيولوجية – نقدية تميل أكثر لليسار كما تميل للثورة وللتغيير وللصيرورة . والفئة التي فكرت فيها مرنيسي بل جل المفكرين هي الفئة الشابة في المجتمع، الفئة التي سوف تأخذ مشعل التغيير يوما ما والتي لن ترضى أن يستمر الميز والعنف وإهدار الكرامة وتبخيس حرية الإنسان داخل المجتمع. فالمثقف، على حد وصف هللدرلين، هو الذي “يتفهم تطلعات الشباب السامية”.

إن الاستمرار في حرق أصحاب الفكر التقدمي والحر هو التهديد الحقيقي للأمن والاستقرار إذ يسمح هذا للتطرف بالتغلغل في أوساط مجتمعية تعاني الهشاشة والفقر والإسفاف والأمية بسبب المناهج العمومية الركيكة والتي لا تؤدي إلى تغيير حقيقي يجعل الشعب يرتاح لحاضره ويطمئن على مستقبله. وما وقع سنة 2011 من انتفاضات شعبية في دول عربية وإسلامية عديدة لهو أكبر دليل على عدم رضى الشعوب على الوضع الراهن، الوضع الذي مع الأسف الأسيف الأسوف ما زالت فئة عريضة من “المثقفين” تطبل له مقررة عدم المساهمة في خلق دلالات ومعاني تجديدية مختلفة عن التي تؤرق السلطة. واقع الحال هو أن المغرب، كما هو الحال في كل الأوطان العربية والإسلامية، يشهد وفاة مفكريه ومثقفيه واحد تلو الآخر، والسؤال المؤلم هو هل حقا سيكون لنا في العقود القادمة مفكرين ومثقفين من طينة محمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وادريس بن علي وفاطمة مرنيسي…، أم أننا نحضر لما هو آت بانحطاط اجتماعي وثقافي وسياسي يقتل الاجتهاد والتجديد ويقوي ثقافة الولاء للسلطوية بكل أنماطها في الحياة؟

طبعا من واجبنا التخلي عن التشاؤم والتحلي بالإيمان بأن الشعوب قادرة على إنجاب جابري آخر ومرنيسي أخرى، رغم أن الوضع الراهن يبدو جليا حاملا لكل مواصفات الموت والانحطاط، لكن لا ينبغي لنا أن ننتظر من المفكر وأن لا نحمله  أكثر من طاقته  اذ يستحيل لأي نخبة مفكرة داخل أي مجتمع أن تتغلب على الترسانة السلطوية التي تعمل على تجييش  كل منابرها الإعلامية والتعليمية والأكاديمية وكل منابرها الفقهيه بل كل أحزابها وحكوماتها الشكلية من أجل”حولنة” الشعب وتدمير غدده العقلية لثنيه على التفكير والانتقاد والبحث  عن مكامن الخلل.

رحم الله الجابري والخطيبي والمنجرة ومرنيسي، وحفظ لنا ما تبقى منالمفكرين والمثقفين المستقلِّين، أصحاب الوعي النقدي المتجدد والداعي لقيم التغيير والحداثة.