الحالة الثقافية و السياسية بين عودة الشعبوية و شروط تجاوزها
1
آراء أخرى
بدأت الشعبوية منذ صعود العدالة والتنمية تجد لها موقعا لافتا في الساحة السياسية و المؤسسات السياسية. و لا يخفى أن المجتمع المغربي الشعبي ظل مفصولا عن سياسة و فكر و ثقافة الديمقراطية منذ انتصار مشروع الدولة المخزنية التي رسخ حضورها استقلال اتفاقية “إيكس ليبان” التي بلورت استقلال المغرب كاستقلال داخل التبعية للدولة الفرنسية (L’Indépendance dans l’Interdépendance) .
وستستمرت الشعبوية, أي سيادة الثقافة الشعبية و السلوك الاجتماعي الشعبي بحمولاتهما و بنياتها الثقافية الخرافية و اللا عقلانية والوعي المزيف , تترسخ وتتمأسس (استيعاب و استمرار النسق الثقافي الاجتماعي الباشا القائد الشيخ الخليفة القوات المساعدة… ترسيخ مكانة الزوايا ومواسم “الصالحين” في الثقافة الشعبية, تشجيع الطابع الفلكلوري الشعبوي للفنون الشعبية ….) خلال حكم الملك الحسن الثاني بالنظر لما كان تشكله الثقافة والوعي العقلانيان, اللذان كانا آنذاك يحركان نضال الجناح الحداثي الديمقراطي داخل الحركة الوطنية و خصوصا توجه جناح المهدي بنبركة, الفقيه البصري, عبد الرحيم بوعبيد. عبدالله ابراهيم, عبد السلام الجبلي, محمد بنسعيد آيت إيدر و آخرين.. رغم الخلافات بينهم , من خطر على مشروع الحكم السلطوي المطلق الذي بلوره الملك الحسن الثاني. وبالتالي استمرت الثقافة الشعبية بحمولاتها الثقافية الخرافية واللا عقلانية والوعي المزيف سائدة داخل أغلب الطبقات الشعبية.
لكن مع ذلك سيستمر خلال هذه المرحلة محاولات ثقافية و فنية نقدية للمظاهر المتخلفة و الرجعية في الثقافة الشعبية .. ومحاولات التعامل مع الثقافة الشعبية برؤية نقدية مبدعة. تجلى ذلك في تجربة المسرح الهاوي ومسرح الطيب الصديقي والطيب لعلج و التجربة الرائدة لناس الغيوان وجيل جيلالة (خصوصا في الاغاني الأولى لهذه المجموعة الغنائية) والزجل الشعري مع رضوان افندي والودان و التجربة الغنائية لسعيد المغربي.. و هي تجارب فنية و ابداعية تعاملت مع الثقافة الشعبية برؤية نقدية مبدعة و تجاوزتها لبلورة ملامح ثقافة و فن شعبيين نقديين و حاملين لملامح ثقافة وطنية شعبية منفتحة على التطور الثقافي والفني العالمي.
2
لا نستغرب لجوء ممارسات و “نخب” و قيادات حزبية اليوم إلى خطابات و سلوكات شعبوية و هي بذلك تهدف إلى توسيع نفوذها الحزبي في فئات اجتماعية شعبية بالنظر لثقافتها الخرافية واللا عقلانية و لوعيها المزيف بمصالحها الوهمية.
وليس اعتباطا أن نخبة متنورة من الحركة الوطنية كانت تهدف من خلال تأسيس المدارس الحرة محاربة الجهل والفكر الخرافي و الوعي الزائف بالنظر لوعيها المبكر أن شعب واعي و متعلم قادر على الانخراط الواعي في بلورة بديل سياسي و مجتمعي للاستعمار و بناء مجتمع جديد يتجاوز التخلف و الجهل. وكان الشهيد المهدي بنبركة في بداية الاستقلال الشكلي يدرك أهمية الوعي في بناء مجتمع جديد يقطع مع جميع مظاهر التخلف والجهل مما جعله يمارس فكر وفعل التوعية مع المواطنين والمواطنات في كل المشاريع التي يبلورها ورفاقه. واتضحت المنهجية التعليمية والتوعوية التي مارسها بنبركة في تحضير وتكوين الشباب الذي أشرف عليه بنفسه وهو يطبق مشروع طريق الوحدة.
3
الخطاب الشعبوي يتسم بالسطحية و بالتبسيطية المبتذلة و بلغة قريبة الى السب و الشتم و يعتمد المزايدات الرخيصة يهدف أساسا الى إبقاء فئات اجتماعية شعبية عريضة و البسطاء , التي هي القاعدة الناخبة المضمونة, في ادنى مستوى معرفي و ثقافي و قتل روح المنافسة و المبادرة لديهم وترسيخ فكرة ان المواطن البسيط و المواطنة البسيطة عاجزين على فهم و ممارسة احابيل و طلاسم السياسة .. و بالتالي فالخطاب الشعبوي لا ينتج سوى المواطن السلبي والمواطنة السلبية لاقتناعهما بعجزهما أو بتنفيرهما من السياسة.
4
ما هي الأشياء وراء تقدم “العدالة و التنمية” بزعامة عبد الإله بنكيران في الانتخابات، و جعلته يكتسب “شعبية” وسط الكتلة الناخبة في واقع سياسي ملتبس ومزيف؟ لا السياسة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية للحكومة و رئيسها التي تثير جدلا و انتقادات وسط النخب السياسية و حتى داخل أوساط شعبية و ما بلورته هذه السياسة من إجراءات تفسر و تجيب عن هذا التساؤل؟
خطاب و إجراء ات رئيس الحكومة و وزرائها اتسما بالتناقض و النفاق السياسي: خطاب “محاربة” الفساد و بالتناقض ممارسة «عفا الله عما سلف»..، خطاب “الديمقراطية” و “الحرية” و “حرية التعبير” و بالتناقض ممارسة التضييق على/ و مصادرة حرية الرأي (مساءلة ومتابعة و محاكمة عدد من الصحافيين والقضاة لأنهم عبروا عن رأي و التضييق على نشاطات الجمعية المغربية لحقوق الانسان. قمع الحق في الإضراب بفرض اقتطاع من أجور المضربين والمضربات في غياب قانون منظم للإضراب.. فرض إجراءات مجحفة على طلبة الطب و الأطباء الداخليين و الأساتذة المتدربين و قمع حركاتهم النضالية ونضالاتهم السلمية.. قمع وهضم حقوق الطلبة الأطباء و الأطباء الداخليين, قمع نشطاء الجمعية المغربية لحقوق الانسان و محاكمة بعضهم لأنهم فضحوا انتهاكات حقوق الانسان و زيف خطاب الحكومة و رئيسها.. قمع عدد كبير من الاحتجاجات الشعبية العفوية و محاكمة بعض نشطائها.. و في نفس الوقت يروج خطاب بنكيران و حزبه و احزاب ائتلافه الحكومي أن البلد يعيش ديمقراطية و احترام حقوق الانسان و دولة القانون!
5
بنكيران و العدالة و التنمية يستعملان خطابا شعبويا يدعي الاعتدال و يروج ان موقفهم المعتدل و المدافع عن إمارة المؤمنين و الاسلام و عدم الخروج الى الشارع مع حركة 20 فبراير هو الذي أنقذ المغرب من الانزلاق إلى العنف الاسلاموي الهمجي كما يجري ذلك في عدد من البلدان العربية. و في نفس الوقت بنكيران يهدد بالخروج للشارع كلما وجد نفسه و حكومته الشكلية في مأزق و تحت نيران النقد من المؤسسة الملكية و من النخب السياسية! و هو يعرف انه يفتقد الشجاعة للخروج إلى الشارع! لأنه يعرف أن ذلك يتناقض مع موقعه على رأس الحكومة و أن السلطة السياسية و الأجهزة الأمنية لن تتردد في قمع نزوله للشارع! و سيكون قد استعدى المؤسسة الملكية و المخزن و كل الفاعلين السياسيين في الواقع السياسي السائد.
واقع الفرجة هذا الذي يغيب النقاش السياسي المسئول حول قضايا الحرية و الديمقراطية بأبعادها الاجتماعية و الاقتصادية والثقافية له علاقة بواقع النسق السياسي التقليدي المتخلف الذي ينتج نخب الفرجة
بنكيران و العدالة و التنمية تدعمهما تيارات إسلامية سلفية و عدد من نشطاء العدل و الاحسان و شيوخ اليوتوب لانهم جميعهم أقرب للتصور الوهابي لكنهم يمارسون التقية بالنظر لأنهم فقط ضعفاء أمام قوة اجهزة الأمن و القمع. و لا يريدون ان يتكرر معهم ما جرى خلال سنوات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان سيما أن السلطة المغربية و القوى العالمية دخلوا في مواجهة التطرف و العنف الاسلاموي, و يظهر أن عدد من السلفيين و شيوخهم توفرت لهم شروط احتوائهم في النسق السياسي السائد و انخرط بعضهم في حزب عرشان. و هذا الوضع في صالح السلطة السياسية و سياسة محاربة الإرهاب الإسلاموي. انها تيارات اسلاموية استوعبت خطة و استراتيجية جماعة “العدل و الاحسان” التي تطرح ان الديمقراطية وسيلة لاقتحام المجتمع و السيطرة فيه بهدف اقتحام السلطة و الانتقال إلى تحقيق دولة الخلافة الثانية (لان الخلافة الأولى وفق المنهاج النبوي توقفت عند آخر الخلفاء الراشدين حسب تصورهم).
ما يسمى “شعبية” بنكيران و العدالة و التنمية ناتجة من جهة أخرى عن ضعف النخب السياسية و النقابية و المدنية الديمقراطية و اليسارية بالمقارنة مع جرأة و عنف الخطاب الاسلاموي المتطرف و الممارسات العنيفة للحركات الجهادية التي تستأثر باهتمام رأي عام شعبوي. فالقوى الديمقراطية و اليسارية لم تستطع بلورة خطاب و ممارسة سياسيين شعبيين مبدعين قادرين أن يشكلا بديلا سياسيا ملموسا مقنعا للرأي العام الشعبي. و كل المبادرات التي مارستها القوى الديمقراطية و اليسارية (إضرابات-مسيرات- خطابات…) لم تستطع خلق طفرة نوعية في تشكل حركة جماهيرية ديمقراطية نشيطة و فاعلة و مؤثرة في الصراع السياسي ضد السياسة و الإجراءات اللا شعبية لبنكيران و لحكومته.
أضف إلى ذلك ان الوعي الديمقراطي الشعبي تراجع بشكل مهول و تسوده بشكل مضطرد النفعية الخاصة و الفئوية بدل المصلحة الديمقراطية العام و الشاملة.
و بنكيران لا يمل وهو على منصة البرلمان من اللجوء الى خطاب المظلومية (اتهام بعض النخب السياسية بالتآمر لاستئصال حزب العدالة و التنمية) و في نفس الوقت إلى خطاب الهجوم على خصومه و اللعب على خطابين: خطاب الدفاع على سياسته المناقضة للمصالح الديمقراطية للطبقات الشعبية و ممارسة إجراءات اجتماعية و اقتصادية و سياسية تضرب هذه المصالح. كل هذه الأسباب ستنضاف الى حاجة النظام السياسي الى حركة “سياسية” «جديدة” لم تستنزفها السلطة المخزنية و لم تتآكل بعد مصداقيتها لدى الرأي العام.
في هكذا واقع تبلورت فرجة “سياسية” شعبوية بطلها عبد الإله بن كيران و انجر لها بعض “القادة” السياسيين لم يشهدها من قبل الواقع السياسي المغربي.
واقع الفرجة هذا الذي يغيب النقاش السياسي المسئول حول قضايا الحرية و الديمقراطية بأبعادها الاجتماعية و الاقتصادية والثقافية له علاقة بواقع النسق السياسي التقليدي المتخلف الذي ينتج نخب الفرجة. و غالبا ما تلجأ المؤسسة المخزنية بممارسة السياسة/الفرجة في التدشينات (تدشين صهريج الماء أو دار الطلبة و الطالبات او ملاعب رياضية بالأحياء …إلخ ) و رعاية مهرجانات مختلفة تتحول فيها الثقافة و الفن إلى مادة فرجوية استهلاكية لا ترقي الذوق و الوعي الفني و الثقافي للمجتمع و لفئاته الشعبية (مهرجانات الفروسية و حب لملوك و الورد و الفلكلور… و المهرجانات الموسيقية…) في حين يتم إفراغ الثقافة المغرية بكل مكوناتها و تنوعها من جوهرها النقدي و من عناصر تطورها المعرفي و الديمقراطي و المواطني. و الهدف هو الابتذال الثقافي داخل المجتمع و الذي لا ينتج سوى ثقافة شعبوية و مجتمع تسيطر فيه الشعبوية التي تستمر في الترسخ في ظل تراجع مهول لدور المثقف الديمقراطي و تراجع مهول لحضور اتحاد كتاب المغرب و الإطارات الحاملة لمشروع الثقافة الديمقراطية و المواطنة في الواقع الثقافي النخبوي و الشعبي.
استغل عبد الإله بنكيران الشعبوية العائدة بقوة مع فشل جناح الحركة الوطنية التقدمية في بلورة ثقافة وطنية ديمقراطية و صعود الفكر السلفي الى الواجهة عالميا, مع ظهور القاعدة و الحركات الجهادية ليقتحم المجال السياسي بتواطئ مع المخزن الذي كان يعمل كذلك على إدماج الحركة الإسلاموية في النسق السياسي السائد و قطع الطريق على التطرف الاسلاموي. و بنى بن كيران و حركته و هم في المعارضة خطابه على استيعاب الثقافة و السلوك الشعبويين الذي يتجاوب مع مشاعر الحرمان و الكبت الذي يتحول في فترات احتداد الحرمان و الظلم إلى عدوانية عبر خطاب يستعمل لغة و يبلور مواقف تبوئ بن كيران مكانة الزعيم الذي يعبر بقفشاته و تماسيحه و عفاريته و الأمثال الشعبية عن المكنونات و المشاعر الشعبوية السائدة في سلوك و خطاب فئات شعبية عريضة.
و الهدف هو الظهور بكونه المنقذ الذي يدافع خطابا عن الطبقات الشعبية لتمرير ممارسة و اجراءات سياسية و اجتماعية تضرب في نهاية المطاف المصالح الديمقراطية الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية للطبقات الشعبية.
و قد مارس هذا الخطاب مهرجاناته الانتخابية حيث يظهر بن كيران كداعية مصلح يخاطب مريدين و مريدات ينتظرون بركاته و يعتقدون أن أوضاعهم و أمورهم ستصلح و مطالبهم ستتحقق كالفقيه التقليدي الذي يعالج زواره الذين يستلب وعيهم تحت تأثير خطاب نفسي غرائبي و ب”البخان” و “الكي”.
و من مميزات خطاب بن كيران تلفعه بخطاب المظلومية مستغلا بذلك مشاعر المواطنين و المواطنات التي ترفض الظلم و تتعاطف مع المظلوم. و هو خطاب يهدف الى جلب تعاطف الفئات الشعبية و غيرها من النخب التي لا تملك الوعي السياسي الديمقراطي المرتبط بالمصالح الديمقراطية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية.
6
و بالتالي, الديمقراطية و السياسة في المغرب لا زالتا مرتهنتين للا عقلانية الثقافة الشعبية و لطبيعة النظام السياسي و نسقه الثقافي التقليدي الشعبوي السائد الذي يحتوي و يستوعب مظاهر و مؤسسات “حداثية” و يستعملها كواجهة للتحكم في توازنات النظام السياسي و تحديات العولمة من جهة و مواجهة اخطار التطرف الاسلاموي و إرهابه. و استمرار هذا الوضع ناتج كذلك عن ضعف القوى الديمقراطية و صعوبة اقناع الطبقات الشعبية بخطابها و ممارستها السياسية و الثقافية الديمقراطية لردم الهوة بينها و بين الوعي الشعبي. و يرجع ذلك في نظرنا إلى عدم بلورة تصور ثقافي ديمقراطي و برنامج و خطة بأساليب و بوسائل عمل ثقافية و سياسية قادرة على بلورة وعي شعبي ديمقراطي و ممارسة اجتماعية و ثقافية نقدية و متجاوزة للثقافة الشعبوية و السلوك الاجتماعي الشعبي بحمولاتهما و بنياتها الثقافية الخرافية و اللا عقلانية و الوعي المزيف.
و لاشك أن تجاوز هذا الواقع الشعبوي في السياسة و الثقافة يتطلب من القوى الديمقراطية السياسية و الثقافية و النقابية و المدنية الوعي بضرورة أهمية العامل الثقافي كعامل استراتيجي للتغيير الاجتماعي و السياسي الديمقراطي مما يتطلب من هذه القوى الديمقراطية بلورة تصور للثقافة الديمقراطية متنوعة، بتنوع ثقافة مكونات التشكيلة الاجتماعية و حاملة لوعي الاختلاف و التنوع و ممارسة ثقافية ديمقراطية شعبية و أساليب عمل لتفعيل الثقافة الديمقراطية في الواقع الثقافي و الاجتماعي الشعبي. و لنا في النضال الثقافي الديمقراطي و اليساري الذي عرفته الساحة الثقافية المغربية في ستينات و سبعينات و ثمانينات القرن الماضي تجارب رائدة في وحدة النضال الثقافي الديمقراطي سواء مع اتحاد كتاب المغرب أو مسرح الهواة أو الإطارات الثقافية الجادة و المجلات (“الاقلام” و “لام أليف” و “الثقافة الجديدة” و “الجسور” و “المقدمة” و “البديل”…) و الاندية السينمائية و المئات من الجمعيات الثقافية الديمقراطية.