لم يعد الماضي بالنسبة لعدد من أحزاب اليسار المغربي مجرد صيغة زمنية محايدة وجامدة  أو رديفا لتجارب معينة اكتملت وانتهت صلاحيتها في الزمان والمكان ،بل يمكن القول دون أ دنى مجازفة ،إن اللجوء إلى الماضي السياسي والنضالي  الوطني بات يشكل سمة بارزة  لقوى سياسية  يسارية لمس بعضها عن كثب هول  التصدعات التنظيمية التي أصابتها وعمق الخلافات التي اخترقت صفوف مناضليها وحدة المشاكل  التي سارت تضغط عليها ،وبعضها أدرك حجم الخصاص  والعجز المسجلين  على مستوى العمل الجماهيري والميداني، والتراجع  الملحوظ في الإشعاع الفكري والالتزام والوفاء والوضوح الإيديولوجي .

خلال إحياء الذكرى 50 لاختطاف المناضل اليساري المغربي المهدي بن بركة يوم 30 أكتوبر 2015 بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية ،بدا واضحا  أن الحدث لم يكن عاديا على كافة الأصعدة . فالحشود الغفيرة  المنتمية إلى معسكر اليسار التي حجت إلى مكان احتضان الحدث لدرجة اضطر معها مسؤولو المكتبة إلى تخصيص شاشات عملاقة لتمكين المئات من الحاضرين من متابعة الحفل بعد أن عجزت القاعة عن استيعابهم  ،أثبتت أن تدفقها بتلك الكثافة على مكان يحتضن حدثا رمزيا ودالا ،أظهر الحاجة الملحة إلى ضرورة استنهاض اليسار المغربي والعمل على تجميع مكوناته وتوحيد خطواته وتنسيق جهوده ومعاركه النضالية ،كما كشفت تلك الجموع والرموز والوجوه التي  اجتاح معظمها تجاعيد ومحن  الزمان ،أن السياق السياسي  الحالي بمعطياته وملامحه العامة ليست في صالح قوى اليسار ،لاسيما في ظل انعدام  المبادرات المجمعة والموحدة التي من المفروض أن تقف وراءها قيادات تحظى بالمشروعية السياسية و النضالية والأخلاقية وبالمصداقية  التي تؤمن حدا معقولا من الثقة  والقبول الجماهيري.  وحتى عبد الرحمان اليوسفي  رفيق درب  بن بركة الذي عهد  إليه تنظيم الذكرى والذي قاد أول تجربة تناوب توافقي 1998 -2002 ،هدته سنوات النضال والمنفى وأرهقته المسؤولية الحزبية عندما كان على رأس الاتحاد الاشتراكي بعد رحيل القائد التاريخي عبد الرحيم بوعبيد ،وأخذت منه مسؤولية رجل الدولة الشيء الكثير عندما كان وزيرا أول ،وتبعا لذلك وبحكم عمره المتقدم 9 والمسافة التي أقامها بينه وبين العمل السياسي والحزبي المباشر ،قد لا يمثل     الرجل المناسب الذي يمكن أن يشكل الدينامو المحرك  لأي عملية تستهدف لم شتات اليسار المغربي، بما في ذلك  ترميم بيت الحزب الذي  قاده بحكمة ورزانة قبل أن يستقيل من كل مهامه ،رغم الكاريزما التي تطبع شخصيته  والمشروعية التاريخية والأخلاقية التي يتمتع بها .

   خارج القاعة وبينما كان المتحدثون من مختلف التخصصات والمشارب يشرحون شخصية  قائد يساري تاريخي و استثنائي في  ندوة حملت عنوان  “مكانة الشهيد المهدي  بن بركة في التاريخ المعاصر”  كنت أتحدث بين الفينة والأخرى  مع عدد من نشطاء ورموز اليسار ،عن سر هذا الحضور اللافت  لإحياء ذكرى مرور خمسين سنة على اختطاف المهدي بن بركة، قلت لبعضهم مازحا المهدي بن بركة  يوحد من قبره أحزاب وتيارات اليسار؟ وتساءلت  مع  الكثيرين ألا يكفي أن تخطوا أنتم  الخطوة الأولي في مسيرة  البناء المشترك لمشروع  حزب يساري كبير أو جبهة أو اتحاد، وأن تتنازلوا عن بعض أوهامكم ونرجسيتكم الحزبية ومصالحكم الضيقة ؟ كنت أطرح هذه الأسئلة   على أشخاص أعرفهم جيدا ،وكلهم استنتجوا من خلال ما شاهدوه وعايشوه مساء 30 أكتوبر2015 أن الأغلبية الساحقة   من الذين حجوا إلى المكتبة الوطنية للمشاركة في تخليد ذكرى اختطاف المهدي بن بركة ،تظهر بالملموس أن أحزاب اليسار المغربي ورغم خلافاتها الثانوية تخفي رغبة قوية لتوحيد صفوفها ، وإثبات وجودها واستمرارها ، وهي تحتمي بالماضي وبرموزها وقادتها التاريخيين ، كشكل من أشكال من الدفاع الذاتي، خشية أن تصاب بالاندثار والتلاشي . 

ما يعيشه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من أزمات ،يمكن اعتباره مؤشرا دالا على وجود أزمة  بنيوية عميقة وشاملة  تعاني منها مختلف أحزاب اليسار المغربي والتنظيمات القطاعية و النقابية الموازية لها 

وقبل هذا اليوم احتفلت قيادة  حزب الاتحاد الاشتراكي  للقوات الشعبية بنفس الذكرى لكن في مكان آخر ،علما أن الاتحاد يعتبر المهدي بن بركة أحد شهدائه ورموزه التاريخين،وشدد المسؤول الأول في الحزب السيد إدريس لشكر  على أن أخلص وفاء لذكرى الشهيد المهدي بن بركة وأصدق استحضار لروحه وأروع استلهام للقيم والأخلاق التي ناضل من أجلها هو السهر على تقوية الصف الوطني الديمقراطي والاجتهاد في إبداع أرقى الأشكال الميدانية لتجميع قوى الحزب وتفعيل طاقاته ،وهي نفس النغمة التي طبعت خطاب عبد الواحد الراضي الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد ،حيث دعا رفاقه إلى الحفاظ على وحدة الحزب وأعتبر أن أكبر هدية يمكن تقديمها لزعماء الحزب في إشارة إلى المهدي بن بركة وعمر بن جلون وعبد الرحيم بوعبيد ،هو الحفاظ على وحدة الحزب وتجاوز المشاكل والخلافات التي يتخبط فيها حزبه.إن الاتحاد الاشتراكي مهم أيضا بالنسبة لليسار الذي يعيش وضعية صعبة اليوم .ولا يمكن أن يوحد حزب الاتحاد اليسار إذا لم يوحد نفسه”

ويوم 18 دجنبر 2015  احتضن مسرح عبد الرحيم بوعبيد بمدينة المحمدية جنوب الرباط  ،حفل إحياء الذكرى الأربعين لاغتيال القائد السياسي والنقابي والإعلامي عمر بن جلون. وتكاد الوقائع تنسج على نفس  المنوال  الذي نسجت عليه خلال إحياء الذكرى الخمسين لاختطاف المهدي بن بركة  في المكتبة الوطنية، حيث  غابت القيادة الحزبية وتولى أصدقاء بن جلون وأسرته  إحياء ذكرى استشهاده التي نظمت تحت شعار الوطن والديمقراطية في مواجهة الإرهاب  ، على اعتبار عمر بن جلون هو أول ضحايا التطرف الديني  في المغرب .وحرصت مكونات اليسار المغربي على الحضور والاستماتة في  الاستماع إلى كل الكلمات التي بدورها عزفت على وتر التاريخ وألحت على ضرورة إحياء المشروع الذي دافع عنه عمر بن جلون والذي استشهد من أجله بما في ذلك تأسيس ملكية برلمانية .وعدد المتدخلون  صفات بن جلون مثل ربط السياسة بالأخلاق والالتزام والنزاهة والوضوح  السياسي والفكري والإيديولوجي والعمل الميداني وبناء الأداة الحزبية القادرة على تعبئة الجماهير وتجسيد المشروع الديمقراطي الاشتراكي .وكما تعددت الرسائل  السياسية المشفرة والواضحة في حفل إحياء ذكرى اختطاف المهدي بن بركة ،كذلك حدث في حفل إحياء ذكرى اغتيال عمر بن جلون ،فلم يتردد المتحدثون وفي مقدمتهم محمد اليازغي رفيق درب عمر والكاتب الأول السابق لحزب  الاتحاد الاشتراكي ،في التأكيد على أن مواقفه وأفكاره ونضاله وربطه السياسة بالأخلاق والقيم ،يجب أن تشكل نموذجا يحتذى به  بالنسبة للنخب السياسية والنقابية في الوقت الراهن،كما وجه المتحدثون رسائل إلى الحركات الإسلامية والأحزاب التي تستند إلى مرجعيات دينية ،بتحذيرهم من خطورة توظيف الفهم المتطرف للدين في المجال السياسي بشكل يتنافى مع قيم الحداثة والديمقراطية، وتنبيههم إلى أن عملية الشحن التي يتعرض لها المتشبعون بالفكر المتطرف هي السبب في اغتيال عمر بن جلون .مع التأكيد على أن هزم الإرهاب والتطرف يتوقف بالأساس على القوى الديمقراطية والعلماء المستنيرين. 

ليس المهم في هذا المقال  التوقف عند حدث  الاحتفاء  برحيل الرموز التاريخية وقراءة مواقفها واجتهاداتها المبكرة و تصوراتها الاستباقية حيال العمل السياسي والمفاهيم التي أرستها لتخليص التنظيمات الحزبية من الانحرافات و التضليل والغموض والجمود والإفلاس.فرغم أهمية كل هذا ووزنه الثقيل في الميزان الأخلاقي والفكري والتنظيمي ،فإن مايثير الانتباه في هذا السياق هو العودة الأخلاقية والرمزية القوية  إلى القيادات التاريخية  لليسار المغربي ، خاصة في ظرفية وطنية معقدة  سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا .ومهما اختلفت دوافع وأهداف ورهانات هذا الطرف أو ذاك  تجاه مغزى استحضار وجوه مؤسسة وأساسية صنعت التاريخ  الوطني المعاصر  للمغرب ،فإن الثابت في استنطاق هذا الاستحضار وخاصة بالنسبة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي عادة مايطلق عليه حزب المهدي وعمر ،هو ، أن الحزب دخل في أزمة غير مسبوقة  منذ المؤتمر الأخير  ولم يتمكن  من خلق الشروط الملائمة  لتوحيد ورص صفوفه ،ووجد نفسه وسط خلافات وتصدعات،تمثلت في نزيف تنظيمي بعد أن قرر عدد من الغاضبين تشكيل تنظيم بديل ، وتفكك درعه النقابي وحصول الحزب على نتائج متواضعة خلال الانتخابات المحلية والجهوية الأخيرة .

وما يعيشه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من أزمات ،يمكن اعتباره مؤشرا دالا على وجود أزمة  بنيوية عميقة وشاملة  تعاني منها مختلف أحزاب اليسار المغربي والتنظيمات القطاعية و النقابية الموازية لها .

في حوار  نشرته مجلة “لوبوان” الفرنسية  -عدد2246 شتنبر2015 ،سئل رجيس دوبري  الفيلسوف الفرنسي الذي كان مكلفا بمهمة لدى الرئيس  الراحل  فرانسوا ميتران .هل خسر اليسار معركة الأفكار؟ فكان جوابه”في كل الأحوال، لقد أضاع أفكاره الخاصة به والتي صارت على الهامش. صحيح، أنه جراء خوفه من إصابته بالعطل، صار يفضل مطلقاً السلطة بغير أفكار، والأفكار بغير سلطة، بحيث يمارس الحربائية. بالطبع اللعبة، صعبة، لأنه جوهرياً، لم تعد الأفكار نفسها تصمد أمام الصور. تعود بي الذاكرة إلى حقبة ليست بالبعيدة، حينما كانت للحزب الاشتراكي الفرنسي  مجلاته وجرائده الأسبوعية، ويدبج الأمين العام كل أسبوع مقالة رصينة .

اليوم، يضع فريق التواصل البرنامج… إن يساراً، يشتغل بنفس الوتيرة، ولا يحسم بفعالية في أي شيء، اللهم ما تعلق بالقنب الهندي أو الزواج للجميع، لم يعد له من مبرر للوجود. لسنا متأكدين من الأسوأ، لكنه سيحدث عما قريب على منوال الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها المركز، حيث التأرجح بين الديمقراطيين والجمهوريين، تناوب دون تناوب .