قال الكاتب الجزائري كاتب ياسين يوما إن “اللغة الفرنسية غنيمة حرب”، لكن ما الذي تبقى من صلاحية هذه الغنيمة اليوم؟ إن غنائم الحروب ليست صالحة للأبد، وما غنمته المستعمرات القديمة من المستعمر الفرنسي يبدو مهترئا في عالم منفتح أكثر من ذي قبل، عالم برزت فيه أمم تكلم لغات أخرى وحققت تقدما علميا وتقنيا كبيرا، وإن لم تشارك في الحملات الاستعمارية للقرنين التاسع عشر والعشرين.

إن فرنسا، التي لم تعالج نفسها بعد من مرض الاستعمار ما تزال تحلم بمنطقة حيوية في العالم لتمارس فيها نفوذها، وترى حتى كبار عقولها أسيرة لهذا المرض المزمن. لقد قدم جاك أطالي مثلا في شهر غشت 2014 تقريرا حول “الفرانكفونية والفرانكوفيلية محركا لنمو مستدام” لرئيس فرنسا. لا يقترح هذا التقرير شيئا آخر غير تحويل الشعوب التي غنمت الفرنسية من الاستعمار والشعوب التي تحكمها نخب مفرنسة إلى سوق للشركات الفرنسية.

“الفرانكوفونية هي سادس فضاء جيوبولوتيكي في العالم بسبب عدد ساكنته، وبإمكانها أن تصبح الرابعة في أفق عام 2050. ف 230 مليون شخص يتكلمون الفرنسية اليوم وقد يصبحون 770 مليونا عام 2050”. هكذا يقول أطالي وهكذا تفكر فرنسا اليوم. مواطن آخر يتكلم الفرنسية يعني في حساباتها الجيوبوليتيكية مستهلكا جديدا محتملا لمنتجات شركاتها التي تبحث عن الريع ورأسمالية المحاباة وليس عن المنافسة في الأسواق الحرة. إن الدولة الفرنسية مهووسة جدا بتراجع عدد الناطقين بلغتها في العالم ومهووسة أكثر بتراجع ثقافتها بين شعوب مستعمراها القديمة. لقد أدمنت فرنسا الحلول الاستعمارية ولم تستطع أن تصنع لنفسها موطئ قدم بقوتها الناعمة من خلال دفاعها عن قيم حقوق الانسان والحرية التي قامت عليها ثورتها عام 1789.

في ظل هذا الوضع الذي تعيشه اللغة الفرنسية، سيكون التشبث بها نوعا من العبث وانتهاكا لحق الأجيال الجديدة في الولوج لاضافات المعرفة الإنسانية. لكن النخب البيروقراطية التي تفكر في حفظ مصالحها الخاصة المرتبطة بالمستعمر القديم لا تضع مصالح الأفراد الآخرين فوق أي اعتبار. ولهذا يبقى صوت المثقفين والمدرسين مهما في إثارة هذا الموضوع وفتح نقاش عمومي حوله.

إذا ألقينا نظرة مثلا على مبيعات الجرائد والمجلات العربية والفرنسية، أو إذا بحثنا في إحصائيات الكتب الثقافية التي تباع والتي تلقى رواجا فإننا لن نستطيع أن ننكر تلك الحقيقة الساطعة التي تقول أن الفرنسية لم تستطع أن تكسب مساحات كبيرة في الفضاء الثقافي الوطني

في المغرب لا نعدم الأمثلة على فشل فرنسة التعليم وما تسبب فيه ذلك من تفشي الأمية المعرفية بين من استوفوا مسلسلهم التعليمي من دون أن يتمكنوا من الاستفادة من إضافات المعرفة الإنسانية. إن ضعف الانتاج الفكري والعلمي في بلادنا ليس ناتجا فقط عن ضعف تمويل البحث العلمي وهزالة البنية التحتية من مختبرات وخزانات علمية، ولكنه يرجع أيضا إلى عائق لغوي بالأساس. إن اللغة الفرنسية عائق أما ولوج الباحث المغربي لعدد من المجلات العلمية والأكاديمية وعدد هائل من الجامعات الراقية على مستوى العالم.

وباعتباري باحثا في الاقتصاد السياسي منذ ثانويتي، حيث يدرس الاقتصاد باللغة الفرنسة ووفقا للمناهج الفرنسية في المغرب، فإني أستطيع أن أقدم شهادتي عن كل تلك الطاقات التي تبخرت وضاعت لأنها لم تستطع أن تساهم في الانتاج الثقافي والعلمي في بلد تعد فيه الطبقة الفرانكفونية أقلية قليلة. إني شاهد على كل أولئك الذين ألجمت اللغة الفرنسية ألسنتهم وحرمتهم من القدرة على التحول إلى مثقفين عموميين يساهمون في النقاش العمومي الوطني من منطلق تخصصهم في الاقتصاد.

إن ما لا يستطيع أي مسؤول أن ينكره اليوم هو أن قراء اللغة الفرنسية قليلون في المغرب، وإذا ألقينا نظرة مثلا على مبيعات الجرائد والمجلات العربية والفرنسية، أو إذا بحثنا في إحصائيات الكتب الثقافية التي تباع والتي تلقى رواجا فإننا لن نستطيع أن ننكر تلك الحقيقة الساطعة التي تقول أن الفرنسية لم تستطع أن تكسب مساحات كبيرة في الفضاء الثقافي الوطني بعد قرن كامل من دخول فرنسا إلى المغرب (1912) والتغلغل في بيروقراطيته. إن ما يجعل روائيا مثل محمد خير الدين، الذي يعتبر في نظري أعظم روائي وشاعر مغربي، غير مقروء في بلده هو ندرة وانعدام ترجمات لأعماله الأدبية الرفيعة إلى اللغة العربية.

وبالعودة إلى فرنسا ذاتها، فإن اقتصاديا مثل “جون تيرول” الذي كرمته أكاديمية نوبل عام 2014 بجائزتها في فرع الاقتصاد، بدأ بإصدار بأول عمل اقتصادي له عام 1986 باللغة الانجليزية. وهذا الأمر منطبق على كل كتبه الأخرى (حوالي 9 كتب ما بين 1986 و2010). هذا عدا عن المقالات الصادرة عن المجلات الأكاديمة الاقتصادية العالمية الكبيرة التي لا تتوفر فرنسا على مثيلات لها. إن المرور إلى العالمية لا يمر اليوم عبر الفرنسية، ومن المؤكد أن اللغة الفرنسية فقدت هذا الامتياز في عالم معولم ومتداخل. وليس غريبا مثلا أن بعض الاصدارات تجد طريقها إلى القارئ العربي اليوم قبل أن تترجم إلى الفرنسية.

يبقى السؤال إذن: لماذا نحن متشبتون بها؟ أليس وفاء لمنطق جاك أطالي؟