لسنا هنا للحديث عن نيتشه ومفهوم الإرادة، ولكن الحديث لن يتجاوز القول بكيف يتمثل العقل الإسلامي الحركي الحضارة،  فقد أصبح من الواجب أن نتحدث في هذه النقطة لكي يصبح بإمكان أي طالب معرفة أو مهتم تأويل ما يصدر عادة عن زعامات الإسلاميين وقيادييهم عن وعي وعن غير وعي . فعندما يصر حزب إسلامي على تحقير الأدب وعلوم الإنسان يصبح من الواجب أن نرد الفرع إلى الأصل ونظهر السبب فيبطل العجب.

عندما يتم الحديث عن ما أنتجه المسلمون قديما في وعيهم وفي لا وعيهم يقال عنه حضارة، ولكن عندما يتم الحديث عن عقل فردي أو جماعة لأفرادها نفس التصورات والنظرة للعالم لا يصح تسميته حضارة. فما أنتجه المعتزلة مثلا يسمى فكرا، وما تقدمه جماعة ما في بقعة سياسية ما يصح تسميته ثقافة، فما أنتجه المغاربة القدامى لا يصح تسميته حضارة إلا نسبة لعقل جمعي يسمى الحضارة العربية الإسلامية، ذلك أن شرط الحضارة عندي التنوع الشديد. ولهذا فأنت عندما تسبح في تراث المسلمين تدرك حجم التنوع والاختلاف والحيوية والتي أجزم أن المسلمين اليوم يفقدونها مجتمعين حين نزعوا للفردانية والأطروحات الأحادية والإيديولوجية خاصة في شقها التنظيمي .

العقل ‘الإسلامي’ هو عقل جماعي بتصور فرداني لا مجال فيه للاختلاف والتنوع،  ذلك أن التنوع والاختلاف ليس محمودا داخل التنظيمات التي تكون في أمس الحاجة للرؤية الأحادية، وهذا أمر مطلوب، بل إن التنظيمات الأحادية غالبا ما تبدو أكثر قوة، وهذه ميزة الجماعات الإسلامية التي تضع منهجا غريبا عن ما ألفناه في حضارة المسلمين من الجدل والاختلاف الكبير، وهذا ما يفسر نزوع هذه التنظيمات للعقل العلمي والتقني ونفورها من العقل الفلسفي والأدبي والشريعاتي  الذي يعتمد الاختلاف والتأويل…فمتى وقع التأويل استحال الإجماع .

العقل السلفي يفضل المعرفة الفقهية بينما يفضل العقل الإخواني المعرفة العلمية

لقد كان موقف الفقهاء قديما في مجملهم من العلوم وما يحيط بها موقفا بئيسا، فالعلماء الطبيعيون الذين افتخرنا بهم متأخرين هم العلماء أنفسهم الذين اضطهدناهم وكفرناهم وحرقنا كتب كثير منهم، بل الغريب في الأمر أن السلفية اليوم لا تزال تحتفظ بنفس مواقفها منهم …بل حتى العقل الإخواني ورغم تقدمه وانزياحه عن العقل السلفي ضرورة سياسية، إلا أنه من الناحية العقائدية يبقى هو هو يحتفظ بجل المقولات التي غالبا ما تم اعتمادها في رمي علماء المسلمين بالزندقة، لكن العقل الإخواني عقل بارغماتي غالبا ما يبتعد من الخوض في جانب العقيدة لهذا لا يواخذ الإخوان بعقائدهم .
إن الضربات الموجعة التي تلقتها العقلانية في الغرب والتي ستؤدي إلى انفصال العلم عن الفلسفة وبالتالي تفريغه من محتواه النقدي والتأملي، هو العقل نفسه الذي ستركز عليه الحركة الإسلامية لبناء مشروع القوة، أي ما معناه : عقل علمي أحادي في خدمة التصور “الإسلامي” الأحادي، وهذه أمور سنناقشها بإسهاب حين حديثنا عن العقل العلمي داخل الحركة الإسلامية.
إن إرادة الحضارة في العقل “الإسلامي” هي إرادة قوة وليست إرادة معرفة، فليس بمقدور” الإسلامي” أن يفرح ببحث قويم تم انجازه في الأدب والفلسفة والجمال، ذلك أنه ليس بمقدور فرد تربى في الحركة الإسلامية ونشأ على أبجدياتها أن يدرك جدوى الأدب ولماذا يصلح، أو ما الفائدة من السينما أو المسرح والموسيقى، فهذه أمور تحتاج لثقافة وذوق تتفرد به النفوس التي تستطيع أن تكون أكثر انفتاحا عن العالم والإنسان، فيكفي أن نذكر أن الجمال ومباحثه إلى حدود نهاية القرن الماضي كان محرما حتى داخل العقل الإخواني المنفتح، بل إن جماعة إسلامية مثل العدل والإحسان كانت إلى حدود بداية الألفية تجيز الطرب فقط بالدف الحجازي، بينما أظهر آخرون محاولات محتشمة بجواز الإيقاعات على طريقة أم كلثوم والسيدة فيروز …فقياديو الحركات الإسلامية  اليوم  رغم انفتاحهم السياسي ضرورة إلا أنهم  نشأوا على التقزز من الجماليات وما يحيط بها، فالجماليات غائبة في العقل الإسلامي للأسف، فما سنقوله بخصوص هذه القضية ولكي لا يفهمني البعض على محمل الغلط : فالجمال أصيل في حضارة المسلمين لكنه دخيل على الحركة الإسلامية وقد يستعمل عادة فسحة منتقاة بعناية درءا لشبهة التزمت. إن العقل” الإسلامي” لا يمتلك الأدوات المعرفية التي تؤهله للنظر في الجانب السفلي من الحضارة، جانب الأدب والفلسفة والجمال والتواصل، فعلوم النقد والفلسفة وما يتصل بهم من العقل والنظر نصيب “الإسلاميين” منه نصيب الضباع من طرائد السباع، فقلما تجد “الإسلامي” يفهم في شيء من علوم النقد والفلسفة لأنهم يخشون أن تزيغ بهم الأقدام على ما تلبسوه حقا وهذه خصلة ورثوها عن العقل السلفي. 
فحتى عندما قامت إيران بدولتها في ما يسمى ثورة أول ما اهتموا به هو صنع السلاح والقنابل، لأن الحضارة في مفهوم العقل المسلم الحركي ليست صناعة الإنسان وإنما هي الغلبة والقوة و”التمكين”، ولهذا فرح المسلمون بدولة إيران لأنها تصنع الصواريخ كما فرحوا من قبل بصواريخ صدام حسين، لأن الموازين مختلة في العقل “الإسلامي” الأحادي والعامي … فصناعة السلاح أولى من صناعة الإنسان .

لقد كتبت يوما جوابا عن سؤال لماذا أهمل الإسلاميون حقيبة التعليم ؟ فإني على ما أذكره فقد بينت كيف أن العقل الديني عموما لا يحضر فيه المعرفي كمكون أساس في ألاوعي وإن كان يظهر في القول زعما، لأن الاهتمام والقراءة التي تحيط برجل الدين لا تبقي تسربات في لا وعيه حول خطر الجهل وضرورة المعرفة، فقدرة المعرفة على صنع كل شيء غير حاضرة بقوة، في حين سنجد أن مسألة الشهوة والتبرج، والعري والزنا حاضرة بقوة في ترسبات ألاوعي في العقل الديني…فالعقل السلفي يفضل المعرفة الفقهية بينما يفضل العقل الإخواني المعرفة العلمية .