ينسب إلى وزير تعليمنا العالي بالله اشتراطه إتقان اللغة الإنجليزية لمناقشة الدكتوراه. وأنا في الحقيقة لم أكلف نفسي التحقق من القول مادمت أدرك بحدسي أن هذا القول ليس غريبا على وزيرنا صاحب الخرجات والتصريحات النارية، فالحدس في هذه القضية أكثر بساطة من الاستنباط بل أكثر منه يقينا كما يقول أستاذنا ديكارت .

فالذي نفهمه من قلب هذه المعادلة هو أن تعلم الانجليزية شرط المعرفة الحقة، وأنه المعرفة على هذا الوجه لا تتحقق إلا بالمعرفة بلغة الانجليز . فنذهب إلى أبعد من هذا ونفترض بداية إن الدولة المتقدمة متقدمة لأن شعبها يتحدث الإنجليزية، فأمريكا قوية لأن الشعب الأمريكي يدرس ويتحدث بالانجليزية . فشرط الحسن الداودي هنا هو شرط صحة وليس شرط كمال .

ينقل جون كوهن كتابه الماتع ‘ بنية اللغة الشعرية ‘ عن جورج مورنان أن المترجم لا يخون قطعا إلا النصوص الأدبية، أما العلمية فتبقى قابلة للترجمة بل إنها أحيانا قابلة للترجمة بشكل جيد، وذلك يدل على أن الفكر كلما تجرد قل التصاقه باللغة …فالذي نفهمه من هذا الاقتباس كما هو عند المهتمين بالتصنيفات والتعريفات يجعلون المعرفة نوعان، معرفة علمية أو تقنية مادية وأخرى معارف إنسانية أو ميتافيزيقية أو لنقل كما قال مارتن هايدغير معرفة حاسبة وأخرى متأملة . فالمدخل إلى مناقشة الحاجة إلى اللغة الانجليزية يجب أن يكون مؤسسا على معرفة علمية نقدية وليس غير هذا، لا بد من إخراج الطرح عن المعرفة العامية. فنلقي سؤالا أو أسئلة من قبيل : هل نحن في حاجة إلى اللغة الانجليزية ؟ هل يصح القول بأننا لم نعد في حاجة إلى المعرفة المنقولة بالفرنسية ؟ وهل يصح القول بأن الفرنسية عاجزة وأن التعليم تخرب يوم تم تعريبه ؟…ما علاقة المعرفة باللغة ؟

إننا لا نحتاج إلى اللغة الانجليزية بتلك الطريقة التي يبشر بها السيد الوزير، مادام أننا لم نتجاوز المعوقات التنظيمية، نحن لم نصل بعد درجة احتواء الفرنسية كلغة معرفية عدا أن تكون حاجتنا شديدة للغة الانجليزية

إنه انطلاقا مما نقله جون كوهن فإن المعرفة العلمية لا علاقة قوية تربطها باللغة مادام أنها معرفة مجردة أو معرفة متحققة، فبالاستناد إلى ما هو واقع فإن طالبا نجيبا في الفيزياء والرياضيات يتحدث العربية هو نفسه طالب نجيب يتحدث الألمانية آو الانجليزية، فالمعرفة العلمية لا تكون في حاجة إلى درجة الإتقان لأن شقا كبيرا منها رموزا أو مفاهيما خاصة أو مفردات تخص كل مجال يصح ربطها وشرحها بهذه المفاهيم حتى بالدارجة، حتى مع إمكانية الحفاظ على المفردات من لغتها الأصلية، فالأصل في لغة العلم هو استبعاد الميتافيزيقا كما عند كارل بوبر ..فإمكان أي بلد أن يتقدم علميا وتقنيا بلغته الأم كيفما كانت درجة اللغة عن طريق الترجمة والإبدال، لكن المهمة تكون شبه مستحيلة بالنسبة للغة المعرفية. إن لغة الأمازيغ اليوم في شكلها الحالي قد تنجح في نقل أدق تفاصيل الفيزياء والميكانيكا لكن لا يمكن أبدا أن تستوعب ما كتبه أفلاطون في جمهوريته ما قبل الميلاد، لأن اللغة لم تألف، والألفة تكتسبها اللغة بالدربة والمراس، ذلك أن اللغة لا توصف في سكونها بالضعف والقوة والتطور، فلا توجد لغة متطورة أو لغة قوية في ذاتها ولكنها تتقوى بقدرة أصحابها على الإنتاج بها ومن داخلها، فاللغة العربية عندما كتب بها المسلمون في العصور الوسيطة تقدمت بتقدمهم لكن لما تخلفوا عن الركب تخلفت، وهو الأمر نفسه بالنسبة للغة الفرنسية في مقابل الإنجليزية التي تحملت ثقل الحضارة يوم كان الفرنسي يصنع النموذج الذي يجعل معرفة ما حكرا على استعمال اللفظ الأصل، لكن لما كف الفرنسيون كفت اللغة .إن قوة اللغة الإنجليزية هي قوة حجم الميزانيات التي تصرف على الأبحاث، إنها قوية مادام أنها قادرة على إنتاج معرفة خاصة، وهذا ممكن لأي لغة.

إن طالب الأدب والعلوم الإنسانية يكون في حاجة ماسة لتعلم الفرنسية والإنجليزية إذا أمكنه من أجل تقوية لائحة المصادر والمراجع في مذكرته، وإلا فهو عالة على الترجمة أو الشروحات والتعليقات على النظريات الأصلية، فما يدرسه طلبة الدراسات العربية اليوم هو في ثمانين في المائة منه مترجم عن لغات أخرى بينما تقف المعرفة النظرية الأصل في حدود القرن السادس للهجرة .

إن القول بالحاجة للغة الإنجليزية كضرب من الخلاص ليس رأيا سليما هكذا، إنه فقط يجعلنا قادرين على الاطلاع على ما كتبه المفكرون بالانجليزية بينما نعود إلى جامعاتنا فنصاب بالنكوص، فلا تعدو معرفتنا بالانجليزية أن تكون مهمة المراقب من بعيد . فإشكالية التعليم عندنا ليست إشكالية لغة بقدر ما هي إشكالية تتجاوز اللغة، فنحن لم نصل إلى مستوى الشكوى من ضيق اللغة. فالذي يسمع قول الوزير يخيل إليه من نبرته أن المغاربة تفوقوا على الجامعات العالمية التي تدرس بالفرنسية . إنه يجعلني أفكر وكأن السيد الوزير أحدث ثورة في المعرفة العلمية لم يعد الطالب المغربي يحس بالرحابة داخل التفكير الفرنسي، والحال أن التعليم في المغرب مشكله عويص جدا لم يتجاوز الإشكاليات التنظيمية، إنه قطاع يسير بلا رؤيا بل هو القطاع الوحيد الذي تنعدم فيه الرؤية وقد كان الأصل يقتضي أن تكون الجامعة هي من يقود المجتمع . فما وصلت إليه الجامعات المغربية اليوم من التردي قد لا يخطر على بال أكثر المتفائلين، فقد يحدث أن يحصل الطالب على الإجازة في شعبة ما وهو لم يقرأ ولا مرجعا واحدا طيلة وجوده في الجامعة بل إنه يعجز عن كتابة مقدمة محترمة لبحث نهاية الدراسة، كما أنك تجد طالبا في شعبة تهتم بالخرائط في عامه الثاني لا يفرق بين روسيا وسوريا أو لا يعرف حدود دويلات مشهورة من الخريطة . وقد حدثني أحد الأساتذة أن طالبا في شعبة الفلسفة هو اليوم أستاذ في الثانوي قال إنه لم يسمع قط بفيلسوف معروف اسمه فرنسيس بيكون . بل إننا في شعبة الدراسات العربية عندما سألنا الأستاذ بالصدفة عن فعل ” نقرأ ” هل هو ماض أم مضارع عجز الكثيرون عن تحديد زمنه . كوارث كثيرة لا يسع الزمان والمكان لسردها فاسألوا الأساتذة في جامعاتنا لتعلموا أين وصل مستوانا .

إننا لا نحتاج إلى اللغة الانجليزية بتلك الطريقة التي يبشر بها السيد الوزير، مادام أننا لم نتجاوز المعوقات التنظيمية، نحن لم نصل بعد درجة احتواء الفرنسية كلغة معرفية عدا أن تكون حاجتنا شديدة للغة الانجليزية . إنها عملية بسيطة أن نجبر الطالب على أن يتحدث الإنجليزية ليكون طالبا نصرف عليه من المال العام ليجد نفسه في المغرب غير قادر على شيء مادمنا لا نتعامل بالانجليزية…إنها ليست إشكالية لغة هكذا وحسب بل لا بد من تحرير الجامعة من الحسابات السياسية. فكلام السيد الوزير هو فقط لدغدغة المشاعر.

لقد كتبت صديقتنا الفيسبوكية هاجر ساخرة من قول الوزير إن المتعلم عندنا في المغرب يدرس اثني عشرة سنة باللغة العربية وثماني سنوات باللغة الفرنسية ليجد نفسه في الأخير مجبرا على مناقشة الدكتوراه باللغة الانجليزية…إنها قمة العبث.