” نسمي أبناءنا لأعدائنا “

قول عربي قديم

يطفو على السطح في الثقافة العربية اليوم نقاش ساخن حول معضلات اجتماعية تبدو كأنها من زمن مضى، لكنها، ومع ذلك، راسخة في السلوك وفي الوجدان. من تلك المعضلات الزواج المبكر والزواج الداخلي وتعدد الزوجات والمهر والإرث والحجاب. وهي كلها مؤشرات على عدم المساواة بين المرأة والرجل في المجتمعات العربية والإسلامية.

 فالزواج المبكر والذي تبيحه بعض الفتاوى ليس سوى اغتصابا بدنيا واجتماعيا وحرمانا من التمدرس والتمتع بالطفولة في التحليلات المناضلة. كما أن الزواج الداخلي والذي يغلب على المجتمعات التقليدية أصبح مذموما بل ومحذورا من الناحية الطبية. أما تعدد الزوجات، حتى وإن بدا قليل الوقوع فهو مستبدل أحيانا بالتحايل على الشريعة بأشكال من الزنى المقنعة، دوما في التحليل الحداثي والمناضل. نفس الشيء يقال عن المهر المبالغ فيه أحيانا إلى حد اتخاذه صبغة البيع، وما يتبع ذلك من المس بكرامة المرأة ومنع غير القادرين على تأديته عن الزواج، وما ينتج عن ذلك من “العنوسة” وغيره من الانحراف، أو تدني قدره إلى حد تبخيس الفتاة ورميها في أحضان أول طارق. 

غير أن الحجاب ونصف الإرث للمرأة وحدهما أسالا ما لا حصر له من المداد، بين من ينادي بالبقاء على “شرع الله” ومن ينادي بالاجتهاد والانتصار لنسبية أحكام المعاملات.

الذي يهمني في هذه العجالة هو البحث من أين جاءت هذه الأفعال الاجتماعية؟ وما مصدرها؟ وكيف تشتغل؟ ولمصلحة من؟ 

لفهم القبيلة ونفسيتها الاجتماعية لا بد من استحضار كونها تجمعا يستجيب لحاجات طبيعية بالدرجة الأولى، الدفاع عن البقاء وعن المراعي، وما يلي ذلك كله بنية فوقية، بما في ذلك العرض والشرف والكرم والعصبية.

صحيح أن العوامل كثيرة ومتداخلة، غير أن الحفر التاريخي المنقب يرجعها جملة إلى القبيلة وسلوكها الغريزي شبه الطبيعي، خاصة حالة الحرب.

لفهم القبيلة ونفسيتها الاجتماعية لا بد من استحضار كونها تجمعا يستجيب لحاجات طبيعية بالدرجة الأولى، الدفاع عن البقاء وعن المراعي، وما يلي ذلك كله بنية فوقية، بما في ذلك العرض والشرف والكرم والعصبية. القبيلة وحش طبيعي، تنين متعدد الرؤوس، لكنه جسد واحد شرس يدافع عن نفسه بالعادة والعرف والرمز والأسطورة، لكن بالحرب بالدرجة الأولى. القبيلة حيوان حربي. ودون فهم الحرب ومظاهرها وأنواعها والعادات المرافقة لها والأعراف الضابطة، دون ذلك لا يمكن أن نفهم نفسية أمم العصبيات بتعبير ابن خلدون.

مؤشرات اجتماعية وثقافية كثيرة توضح قيمة الحرب بالنسبة لنمط عيش القبيلة، من قبيل ذلك قيامها لأتفه الأشياء، و تيمة الفخر في الشعر، وكذلك قيمة الفرسان وأسلحتهم وأشكال التغني بها، وكذلك الأعراف المنظمة لها، والقضاء وأنواع الجزاءات …هي ثقافة قائمة بذاتها لم يشمر لها بعد ساعد الجد العلمي بما فيه الكفاية.

 أما أسباب الحرب السياقية فهي مرتبطة عادة بالندرة الاقتصادية وشح السماء، أو تزايد في حجم أفراد القبيلة والرغبة في توسيع الموطن أو رد هجوم من قبيلة أخرى. أما الأسباب المباشرة والمعلنة، فهي النزاع حول الملكية مثل المراعي والماشية، أو الشرف والعرض أو النفس أو الدم أو الثأر.

لنوضح الآن مقصد المساهمة: إن القبيلة عندما تشجع الزواج المبكر إنما هي تخاف من العار ظاهرا، أما في الباطن فهو اقتصاد يساهم فيه كون الزواج يكون داخل أبناء العم، فيعتبر ابن العم جمال ابنة عمه، ويساهم في تسهيل من يرغب فيها فيما بعد، حيث الطلاق في هذا الحال لا يعتبر عيبا، بل مثله مثل الزواج مرور. ولما كانت المرأة ليست فارسة، فمن الأجدى أن تلد الفرسان مبكرا، ولما كانت الأسرة المضاف إليها يد عاملة جديدة هي العروسة، كان لابد بالمقابل أن يرد شيء لأهلها. وهذا أصل تحريمها من الإرث مثل تحريم العبد والخادم والخماس والرباع، لأنهم ببساطة لا يساهمون في الدفاع عن القبيلة. جل نساء قبيلة أيت حديدوالمغربية المعروفة بالزواج المبكر والأعمال الشاقة في الحقول يجبن عن حالتهن بالرضا لأن الرجال يقومون بما هو أهم . أما تعدد الزوجات فلا يفسره سوى العدالة السياقية، لأنه عندما يموت الرجال يفيض عدد النساء، والزوج بأكثر من واحدة يمكن أن يعيد التوازن الديمغرافي، حتى أن تعدد الزوجات في القرآن جاء مقرونا باليتامى” وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.. سورة النساء”

في الأخير الحجاب ليس سوى رمزا لمن لا يشارك في الحرب ويعتبر حرمة، لأن النساء والأطفال والشيوخ لا يؤذون أثناء الحروب. يساهمن في نقل الجثث وتضميد الجراح. أما اللحية فهي الرمز البارز للفروسية وإرهاب العدو بالتكفير والجهاد.

يدخل الأمر كله إذا ضمن نظرية المبادلة الأنثربولوجية، النظرية المرتبطة بالمجتمعات القديمة والقبلية.

لماذا استمر كل هذا؟ لأن الحرب القبلية خلقت لتأبيد تعاليمها ثقافة الإتباع بآليات كثيرة ومعقدة لعل أهمها الجزاء الأخروي، نوع آخر من المبادلة، يصعب اختراقه دون ثورة ثقافية تجتث ثقافة القبيلة من الجذور وتقطع معها.