أتذكر قبل سنتين أو ثلاث الشغف الذي كان يظهر في أعين أبنائي الثلاثة وهم يتابعون نزالات المصارعة الحرة على إحدى القنوات العربية، كانوا يتابعون المباريات مأخوذين منبهرين، أذكر صدمتهم حين أخبرتهم أن تلك المباريات تأتي وفق سيناريو معد سلفا وأن كل الخطوات محسوبة بما في ذلك الإصابات والجروح. أبدى أبنائي الثلاثة حينها صعوبة في تقبل ما قلت وأصبحت في لحظة وسط ثلاثة أطفال يوشكون على التهكم مني ونعتي بالمريض بنظرية المؤامرة.

وجه الملك في خطابه الأخير، بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الجديدة، تقريعا حادا لـ ’’النخبة‘‘ باعتبارها لم تعد تقوم بدورها كممتص للصدمات pare-chocs، يبدو ذلك جليا من حديثه عن لجوء المواطنين إليه من أجل حل مشاكلهم. وهذا ما يفسر لماذا الآن يبدو الملك متأففا من ممارسة رعاها وحرص عليها منذ اعتلائه للعرش.

نعلم جميعا أن الزيارات الملكية للمدن والمناطق تعني في التمثل الشعبي والرسمي إجراء عمليات تجميل للمدن ورتوشات على البنية التحتية وتملق السلطات للسكان من أجل استقبال الملك بحرارة، وعلى المستوى الفردي تعني الزيارات الملكية فرصة للظفر برخصة سيارة أجرة أو عمل أو أي امتياز من هذا القبيل، هذه ممارسة حرص الملك على إشاعتها للظهور بمظهر الكريم الذي يحل مشاكل الناس مقابل تقاعس الحكومة والمنتخبين وجهاز الادارة البيروقراطي الرتيب.

الملك حين يقرّع ’’النخبة‘ الافتراضية (حكومة، منتخبين، مسؤولين..) لا يفعل هذا من باب الحرص على خدمة المواطنين (فقد كنا أيام الحسن الثاني نطالب بأن نكون مواطنين لا رعايا، فأصبحنا على عهد محمد السادس زبناء لا رعايا ولا مواطنين) إنما يفعل الملك هذا بسبب تقاعس هذه النخبة عن لعب دور الحاجز الذي يصد الصدمات. 

الكل في المغرب الآن يعلن ويؤكد أن الملك من يحكم، من أبسط مواطن إلى رئيس الحكومة السابق/ المكلف حاليا، هذه الحقيقة أصبحت مرعبة، ولنا أن نتذكر كيف توجه المحتجون إلى الملك مباشرة بسبب العفو عن دانيال كالفان، وهي جريمة لم يستطع الملك أن يتنصل منها رغم إعفاء مدير السجون. آخر حدث يؤكد هذا الكلام هو قصة المغربية التي كانت محتجزة في السعودية، المرأة نفسها توجهت بندائها إليه مباشرة أما الفايسبوكيون والبودكاستورات فقد خاطبوه بلهجة قوية وصارمة محملين إياه مسؤولية المستنقع الذي نعيش فيه. 

حديث الملك عن تحديث الإدارة يأتي للإيحاء بأن القضية مجرد إجراءات، هذه الإدارة المتعفنة البيروقراطية اللئيمة، والتي هي في غالب الأحيان مكان للتعذيب النفسي واستنزاف قدرة وصبر وجيوب المواطنين، لا يمكن إصلاحها بمجرد إجراءات، الإدارة نتاج وانعكاس بنية فاسدة ظالمة طبقية ولكم أن تجروا من الأوصاف ما تشاؤون، لكن لا يمكن إصلاح الإدارة في ظل بنية فاسدة.

حديث الملك عن تحديث الإدارة يأتي للإيحاء بأن القضية مجرد إجراءات، هذه الإدارة المتعفنة البيروقراطية اللئيمة، والتي هي في غالب الأحيان مكان للتعذيب النفسي واستنزاف قدرة وصبر وجيوب المواطنين، لا يمكن إصلاحها بمجرد إجراءات، الإدارة نتاج وانعكاس بنية فاسدة ظالمة طبقية

ملاحظة أخرى لا يمكن إغفالها هو وضع حكومة بنكيران في نفس الكيس مع الحكومات السابقة، فالملك أعطى توجيهاته منذ سنة 2002 ولم تطبق، هذا موقف سيكون له أثر على تشكيل الحكومة/ المحكومة الحالية.

يعلم ’’السياسيون‘‘ المغاربة أنهم يلعبون في مشهد سياسي مصطنع، لهذا فإن صراعهم يشبه إلى درجة كبيرة عروض المصارعة التي ينازل فيها ’’جون سينا‘‘ غريمه ’’أندر تيكر‘‘، دون أن يدري الجمهور الهائج المتحمس أن  النزالات معدة سلفا.

لا يعلم متابعو هذه العروض أن الحكم عبر إشاراته، التي تبدو إنذارات أو تعليمات، يذكر المتصارعين بالخطوة التالية التي على كل واحد القيام بها، فكل مباراة يوضع لها سيناريو محدد ومحكم بمساعدة مخرجين وفنيين تغدق عليهم شركة WWE العملاق المالي والإعلامي الذي يجني ملايير الدولارات من انبهار ملايين المتابعين بينهم أبنائي الثلاثة.

المتابعون لا يعلمون بالتأكيد أن اندر تيكر يحظى بمكانة خاصة لدى شركة WWE  لأنه أوقف الكاسحة التي أطلقتها شركة WCW والتي بدأت في جذب نجوم المصارعة وكادت أن تعصف بشركة WWE لولا تدخل اندر تيكر الذي استغل سمعته مصداقيته في أوساط المصارعين من أجل تقوية هذه الأخيرة. يقول عنه شون مايكلز، أحد المصارعين المعتزلين، ’’أندرتيكر لا يهمه كيف يظهر شكله أمام الناس .. المهم هو أنه يظهر حبه للشركة و احترامه لما يقوم به مهما كانت الظروف‘‘.

في المحصلة الملك يطلب من الحكومة والبرلمان والمنتخبين والأحزاب والنخب والإدارة أن يكونوا ’’البارشوك‘‘ المناسب في المكان المناسب، لأن صدمات كثيرة قادمة بالتأكيد في ظل مشهد سياسي مصطنع ووضع اقتصادي مأزوم وزوال مفعول كل ’’التحاميل‘‘ والمهدئات وحتى القمع الذين أرغموا الناس على العودة إلى بيوتهم ورعاية الأحلام. 

تؤكد الشواهد أن ’’النخبة‘‘ الحالية غير قادرة على لعب هذا الدور في مشهد سياسي بلغ من التردي مستوى سرياليا التردي (حكومة تشكو طول الوقت من عدم قدرتها على فعل شيء وتصر على الاستمرار، ترشح أمين عام حزب على رأس لائحة حزب منافس، إنزال بالمظلة لأمبراطور مالي وفلاحي على رأس حزب، أو السقوط الحر لعدد من المكونات التائهة سياسيا وإيديولوجيا) على سبيل المثال لا الحصر.

لكي تفهم المشهد السياسي في المغرب أنصحك بمتابعة مباراة مصارعة، ستجد الخصمين يصطنعان الحركات وستلاحظ أن الحكم يومئ لهما، في الكواليس يجلس فينس ماكمان مدير الشركة ويرسل انتقاداته وتقريعه مباشرة إلى الحكم الذي يضع سماعات لهذا الغرض. أحيانا يغضب ماكمان فيدفع إلى الحلبة بمصارعين لم يكونوا مبرمجين في المقابلة ليخلط الأوراق على المصارعين أو يؤكد لهما عدم كفاءتهما، يمكنك أن تعود لتجد بعض الفيديوهات لجون سينا يعبر عن عدم رضاه من تعامل ماكمان لكنه في النهاية يبقى أحد موظفيه.