حاز “العدالة والتنمية” الرتبة الأولى في انتخابات السابع من أكتوبر الجاري. كل المعطيات كانت تشير إلى فوز “الحزب الإسلامي”، بناء على النتائج التي تحصَّلت له في الانتخابات الجماعية. وكما تتبّع المواطنون أطوار الانتخابات، فقد شهدت “الحملة” مُفارقة كبيرة: برودة في التواصل المباشر مقابل سخونة في التواصل الإلكتروني. ويمكن القول إن “الجديد” في الانتخابات، هذه المرة، برز في كثافة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي. وتأكيدا لفاعلية هذه الوسائل، يمكن الإحالة إلى “شكوى” البعض، بخصوص استفادة أطر “المصباح” من تكوين “إعلامي” بالولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من ورود تلك الشكوى في إطار البوليميك الانتخابي، بهدف توجيه الرأي العام إلى كون العدالة والتنمية مدعوما من “الخارج”، إلا أن ذلك لا يمكن أن ينتقص من حقيقة استعمال وسائل الاتصال المتعددة. أما الحديث عن استعمال المال، إضافة إلى “تدخلات” بعض رجال السلطة، فقد صار كل ذلك من “أدبيات” الانتخابات المغربية.. ولا مجال للوقوف عندها في هذا المقال، الذي يواكب مشاورات تشكيل الحكومة عن كثب.

    أضحى “العدالة والتنمية” فائزا بالعدد الأكبر من المقاعد البرلمانية، مُؤكِّدا الزعامة الحزبية التي تربّع على عرشها، ابتداء من اقتراع 2011 الفاصل. وبالإضافة إلى المقاعد التي ظفر بها، يحقّ للحزب الإسلامي “الزّهو”، اليوم، بالنظر إلى تأكيد نفسه “لاعبا سياسيا” كبيرا، على الرغم من الجدل الشعبي الواسع، الذي أثارته “قرارات” بنكيران وخطاباتُه. بطبيعة الحال، يعود نجاح “العدالة والتنمية” إلى تماسك “النواة” القيادية للحزب من جهة، ولامبالاة كتلته الانتخابية المؤيِّدة له بحصيلة التدبير الحكومي من جهة أخرى. وفي محاولة لقراءة المعطى الأخير، يمكن الحديث عن وجود كتلة انتخابية ثابتة للعدالة والتنمية. ويبدو أن من صفات هذه الكتلة/ القاعدة، أنها تظل وفيّة للحزب ولقيادته، بغض النظر عن طبيعة الإنجازات الحكومية المُتحققة. إن الأمر يتعلق بكتلة، لها “عقيدة” إيديولوجية مُستقرّة، ساهم في ترسيخها تلاحم “السياسي” مع “الدعوي” على مدى سنين طويلة.

إن المطلوب من الحكومة، وهي تشرف على تدبير الشأن العام، الأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر مختلف الفاعلين، من سياسيين واجتماعيين واقتصاديين. ذلك أنه مهما تحالفت بعض الأحزاب، في إطار حكومة أغلبية، فإنها تظل “أقلية” بالمقارنة مع الكتل الانتخابية الأخرى

    ليس هناك أي جديد يمكن ذكره، في سياق الإحالة إلى العقيدة الإيديولوجية للحزب الإسلامي. غير أن الجديد يتمثّل، اليوم، في عدم تأثُّر الكتلة الثابتة بالـ “الضربات” التي تلقاها الحزب، وإن كان بعضها يمسّ البعد الأخلاقي للعقيدة المُتبنّاة في الصميم. والحقيقة، إن قُدِّر لبنكيران أن يمتدّ عمره السياسي، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى تلك الكتلة الناخِبة، الثابتة والوفيّة على الدوام. يمكن القول إن عودة بنكيران إلى رئاسة الحكومة، إنما هو أمر قائم بفضل تلك الكتلة، التي لايكاد يبلغ تعدادها مليوني صوت. ولعلّ من مفارقات الديمقراطية، التي يمكن تسجيلها بهذا الصدد، أن تُقرر تلك الكتلة المحدودة عددا، بالمقارنة مع المجموع الإجمالي للمغاربة، في قضايا الشعب برمّته. ومن هنا، ليس هناك من خيار أمام تشكيلة “اليسار” الجديد، في سياق ما غدت تشهده من ديناميكية، غير تحفيز الكتل المُقاطعة على المشاركة بكثافة في الاقتراع المقبل. هاهنا، يبرز مجال واسع للعمل السياسي الميداني، خصوصا في ظل صعوبات مُتفاقمة، تطرح نفسها على الحكومة في ولايتها الثانية.   

    وإذ يبدو وصول “بنكيران” إلى رئاسة الحكومة طبيعيا، بالنظر إلى النتائج المُحصَّلة في الانتخابات الأخيرة، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يستتبعه اتخاذ قرارات مصيرية بشكل انفرادي. إن المطلوب من الحكومة، وهي تشرف على تدبير الشأن العام، الأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر مختلف الفاعلين، من سياسيين واجتماعيين واقتصاديين. ذلك أنه مهما تحالفت بعض الأحزاب، في إطار حكومة أغلبية، فإنها تظل “أقلية” بالمقارنة مع الكتل الانتخابية الأخرى، سواء المُعارِضة منها أم المُقاطِعة من عموم الشعب المغربي. بعبارة أخرى، يقتضي الواقع المغربي الصعب أن تعتني الحكومة المُقبلة بتدبير الشأن العام، في إطار التنسيق مع باقي الفرقاء السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين. إن إشكاليات التنمية التي تعانيها بلادنا، على أكثر من صعيد، تتطلب جهود جميع القوى الحية، وإلا فقد يُكتب للوضع العام بالبلاد التدهور أكثر مما هو حاصل اليوم. لا أتصور أن في هذا الكلام أية مبالغة، بالنظر إلى الانقسام الواضح الذي صارت شقّته تتسع، يوما بعد يوم، في المجتمع المغربي. وإذ تكون الانتخابات قد أفضت إلى ولاية ثانية للعدالة والتنمية، فإن ذلك لا ينبغي أن يعني الاستفراد بالقرار الوطني بتلك الأنانية الفجّة، التي عالج بها بنكيران أهم الملفات الاجتماعية.

    إن كان هناك من حسنات للأحداث السياسية الأخيرة، فإن “الحسنة” الكبرى تتمثل في التأشير على أهمية انبثاق “يسار” مغربي واعد. ولعلّ بروز الفيدرالية في الآونة الأخيرة، في سياق صعود حركات يسارية في جوارنا الأوروبي، يُعزز الأمل بوجود يسار واقعي، فاعل بأفكاره المتنورة والتزاماته الاجتماعية و أخلاقه الإنسانية. ومهما تكن النتائج الضئيلة، المُحصَّل عليها من قِبَل “الفيدرالية”، إلا أن الأخيرة باتت تفرض مُعادلة جديدة على المشهد السياسي المغربي. بكل بساطة، تتلخص المعادلة في أن لا معنى لممارسة سياسية في غياب “يسار”: وطني في حدوده، إنساني في قيمه، نقدي في سلوكه، واقعي في التزامه، نظيف في سلوكه، وواضح في ارتباطاته.