إلى حدود الساعة يستعصي الحديث عن وجود أزمة سياسة أو دستورية في المغرب، لكون الفاعلين السياسيين لا زالوا في مرحلة المشاورات والمفاوضات حول الهندسة الحكومية المقبلة، خصوصا وأن الأحزاب السياسية المعنية بتشكيل الأغلبية النيابية والحكومية لا تختلف حول القضايا السياسية الجوهرية والمرجعية للبلاد، بل فقط حول بعض الجوانب المتعلقة بتوزيع الحقائب الوزارية بينها بما يتناسب مع وزنها السياسي والانتخابي.

 ولعل ما تختلف حوله الأحزاب السياسية هو تحديد العلاقة الملتبسة بين وزنها السياسي، المرتبط بمكانتها داخل الحقل السياسي الوطني ومدى تأثيرها التاريخي على مجريات  الأحداث السياسية وقدرتها أيضا على تعبئة وتأطير أكبر عدد من المناضلين المتعاطفين في كافة أرجاء التراب الوطني من جهة؛ ووزنها الانتخابي الناتج أساسا عن حصولها على أكبر قدر من الأصوات والمقاعد داخل مجلس النواب بعد الانتخابات التشريعية. 

ذلك أن نمط الاقتراع النسبي اللائحي الذي تبناه المغرب منذ سنوات يعقد بشكل جدي عملية التقييم الموضوعي للقوة السياسية للأحزاب ومن ثم لحجمها الموضوعي داخل أي تشكيلة حكومية. فالأحزاب الصغيرة، التي يفترض أن لا وزن سياسي لديها، تستطيع في الكثير من الأحيان الحصول، عن طريق التفاوض، على امتيازات سياسية تتجاوز حجمها السياسي الواقعي. كما أن الأحزاب السياسية القوية، لا تحصل دائما على امتيازات تناسب حجمها وقوتها الواقعيتين، بالنظر لحاجتها الملحة للتحالف مع الأحزاب الصغيرة والمتوسطة لحصولها على الأغلبية. لذلك يصبح تقييم القوة السياسية للأحزاب تقييما غير موضوعي، لارتباطه بقوتها التفاوضية لحظة المشاورات حول التحالفات الحكومية، بدلا من قوتها التعبوية والتأطرية على أرض الواقع.       

 من هذا المنطلق يتوجب، الارتكان إلى قراءة دستورية وسياسية للإشكالية تشكيل الأغلبية الحكومية في المغرب، بعد انتخابات السابع من أكتوبر 2016.

ذلك أن الملك، مباشرة بعد ظهور نتائج الانتخابات النيابية، قام بتعيين عبدالإله بنكيران كرئيس للحكومة قصد تشكيل الحكومة، بمقتضى الفصل 47 من الدستور، الذي ينص  بشكل صريح على أن الملك يعين “رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها”، وحيث أن رئيس الحكومة المكلف لم يستطع تشكيل أغلبية نيابية وحكومية، وفق المقتضيات المغلقة لهذا الفصل من الدستور، التي لا تقبل أي تأويل قد يسمح بتعيين رئيس للحكومة خارج الحزب الذي تصدر الانتخابات. وبما أن الاحتكام على الفصل 47 قد يفشل، في حالة استمرار عجز رئيس الحكومة المكلف عن تشكيل تحالف حكومي منسجم، فإن ذلك من شأنه أن يدفع بالرجوع إلى الملك لحل الأزمة. 

إذا تعذر إعمال الفصل 47 وفشلت كل المساعي لتشكيل الحكومة، ضمن هذا السياق الدستوري فللملك الحق في  “حل مجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير.. والاعلان عن تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لآوانها. 

وإذا كانت صلاحيات الملك بتعيين رئيس الحكومة تأتي من الفصل 47، فإن الصفة القانونية والدستورية المؤطرة لهذه الصلاحيات لا تجد مصدرها في هذا الفصل، بل في الفصل 42، الذي  يقضي بأن “الملك، رئيس الدولة..، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي ..”،  بذلك يشكل الفصل 42 القاعدة الأصلية التي تمنح الصفة الدستورية والقانونية للملك التي تخول له استعمال الفصل 47. ومن ثم لا تستقيم أي قراءة دستورية لمقتضيات الفصل 47 دون الارتكاز على أحكام الفصل 42، التي تمنح الملك الصفة القانونية التي تسمح له بممارسة صلاحياته المتعلقة بتعيين رئيس الوزراء والوزراء. ولعل في إغلاق المشرع الدستوري للفصل 47 وسكوته عن تصور سيناريوهات بديلة له، إشارة واضحة إلى هذه المكانة الدستورية التي يتمتع بها الملك من جهة، وإلى صلاحياته كحكم أسمى بين مؤسسات الدولة في حال تعطلها أو وقوفها عن العمل.  

من هذا المنطلق، وبالرجوع إلى الصلاحيات التحكيمية والتقريرية للملك المنصوص عليها في الفصل 42، فإن لهذا الأخير، في حال تدخله لحل “البلوكاج” السياسي، الخيار في الاحتكام إلى الفصل 47 وعدم الخروج عنه. مما يعني أن له خياران أساسيان: 

-إما الضغط على الأحزاب المرشحة لتشكيل الحكومة وتقديم تنازلات بينها قصد تسهيل العملية، خصوصا وأنه يملك صلاحيات تعيين الوزراء ومن صلاحياته السهر على السير العادي للمؤسسات .  

-إما التسليم بأن تعثر المفاوضات يرتبط بشخص عبدالاله بنكيران، ومن ثم طلبه للحزب الذي تصدر الانتخابات، باقتراح شخص آخر غيره، لإتمام عملية تشكيل الحكومة.

وإذا تعذر إعمال الفصل 47 وفشلت كل المساعي لتشكيل الحكومة، ضمن هذا السياق الدستوري فللملك الحق في “حل مجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير، طبق الشروط المبينة في الفصول96 و97 و98 “وفقا لأحكام الفصل 51 من الدستور والإعلان عن تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لآوانها. كما يمكن للملك، في حال ما تبين له ضرورة تعديل الدستور، الرجوع إلى الفصول 172 و 174 قصد ممارسة صلاحياته في الموضوع وعرض مشروعه مباشرة على الاستفتاء. غير أن هذا الخيار، وإن بدى معقولا من الناحية القانونية والمؤسساتية، يظل مستبعدا في الظروف الراهنة، نظرا لكلفته الزمنية والمادية من جهة، ولعدم جدواه السياسية، من جهة أخرى، ما دامت التجارب الدولية في هذا المجال تشير إلى تصدر الأحزاب الحكومية المنتهية ولايتها لجل الانتخابات السابقة لأوانها، كما لو أن الأمر مجرد تزكية انتخابية لها. 

فيما عدا ذلك، للملك صلاحية إعمال الفصل 42 و تعيين من يراه مناسبا، بصفته رئيسا للدولة و حكما بين مؤسساتها، لتولي منصب رئيس الحكومة. غير أن هذ السيناريو أيضا، وإن كان محتملا وصائبا من الناحية القانونية الدستورية، فإن كلفته السياسية تظل مرتفعة، بالنظر إلى خروجه عن ما اصطلح عليه في القاموس السياسي المغربي بـ”المنهجية الديمقراطية”، مما قد يؤوله البعض على أنه رجوع للوراء و”انقلاب أبيض” على الشرعية الدستورية.

وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أنه، إلى حدود الساعة،  ليس هناك ما يؤشر لوجود أزمة سياسية أو  دستورية، نظرا لعدم وجود أي فراغ دستوري أو مؤسساتي، عند استحالة التطبيق العادي لمقتضيات الفصل 47 من الدستور، ما دام الرجوع إلى الفصل 42 يعتبر المدخل الدستوري الأصلي الذي يؤطر صلاحيات المؤسسة الملكية في السياقات السياسية العادية أو الاستثنائية.