تضع التقارير الدولية المتعلقة بالإرهاب وعلى رأسهم تقرير المركز البريطاني للأبحاث “بوي”، المغرب كثالث دولة مصدرة للإرهابيين -بعد السعودية وتونس- لمناطق الصراع بالشرق الأوسط. وحسب تقرير “Foreign Fighters” لـ(مجموعة صوفان /The Soufan Group) الصادر في 08 دجنبر من العام 2015، الذي يرصد تزايد تدفق مهاجري الموت إلى مناطق الصراع منذ تقريرها في يونيو 2014، إلى تزايد هجرة مهاجري الموت بالمغرب حسب الأرقام الرسمية إلى أكثر من 1200 شخص. مع تنامي ظاهرة تزايد مهاجري الموت يختلف كثير من المراقبين والدارسين عن تحديد أسباب ودوافع الشباب إلى هجرة الموت، بين مرجح لدواعي اقتصادية أو ثقافية أو مؤامراتية.

التحليلات ذات الخلفية الثقافية تدافع عن وجود أسباب كامنة في ثقافة وقيم ومعتقدات مجتمعية هي المحركة لسلوك التطرف العنيف، وتتسم هذه الرؤيا من طرف البعض بنوع من الراديكالية حين ترجع أسبابه للدين الإسلامي والثقافة العربية. فيما يعزيه بعض المعتدلين لهيمنة خطاب مستحدث يؤول الدين بطريقة متشددة تم نشره بقوة المال والإعلام في الأوساط التي ينتشر بها الجهل وعند الفئات الأقل تعلما في الأقطار العربية. ويعتبر تقرير اتجاهات الجهاد “Jihad trends” الذي أصدرته مؤسسة كويليام (Quilliam foundation) البريطانية – وهي مؤسسة متخصصة في دراسات ومكافحة الإرهاب – من بين أهم التقارير التي وقفت على أنواع المؤسسات التي يتم تعبئة الأفراد فيها كالمسجد -غير التقليدية- والسجون والإعلام والمواقع الإلكترونية لسلوك التطرف العنيف.

بيْد أن تحديات وقصور هذه الرؤية تتجلى في صعوبة فهم دوافع أصحاب الشواهد العليا من أساتذة ومهندسين وأطر تقنية لتبني خطاب التطرف العنيف وهجرتهم لمناطق الصراع.

في المقابل تنحو التحليلات ذات الخلفية الاقتصادية إلى إرجاع أسباب الظاهرة، لمشاكل الفقر والهشاشة والبطالة والدخل الفردي. غير أن استقراءً سريعاً للحالات الاجتماعية لمهاجري الموت، تضعنا أمام حالات متعددة قادمة من طبقات متوسطة وأحيانا من أسر غنية ومتنفذة اجتماعيا.

فيما تذهب التحليلات المؤامراتية إلى أن هذه الظاهرة التي أضحت عالمية، ساهمت في تقويض أحلاف وتدمير دول وإنعاش اقتصاديات البتروكيماويات وصناعة الأسلحة. وبدا المشهد العالمي مقسما بين من يصدر الموارد البشرية (مهاجري الموت)، وبين من يوزع السلاح والمعدات، وبين من يوظف قضايا الهجرة واللجوء والأمن في مزايدات سياسية. 

نجد صدى هذه القراءة التي ترى أن الإرهاب ومظاهر الخوف والصدمة يوظّف لتمرير وخدمة أجندات سياسية واقتصادية، عند “ميلاني كلاين”، في كتابها “عقيدة الصدمة”، وتسوق عن كبير منظري الرأسمالية المعاصرة “ميلتون فريدمان” قوله: “وحدها الأزمة، سواء أكانت الواقعة أم المنظورة، هي التي تحدث التغيير الحقيقيّ. فعند حدوث الأزمة، تكون الإجراءات المتخذة منوطة بالأفكار السائدة. وهنا تأتي، على حدّ اعتقاديّ، وظيفتنا الأساسيّة: وهي أن نطوّر بدائل للسياسات الموجودة، وأن نبقيها حيّة ومتوفّرة إلى حين يصبح المستحيل في السياسة حتمية سياسية”.

ورغم الحضور الكبير للتحليلات المؤامراتية في بلداننا إلا أنها تكون في كثير من الأحيان أكثر اختزالية في فهمها، ولا تجيبنا عن لماذا هذه الظاهرة منتشرة في أقطارنا العربية أو عند من لهم خلفية إسلامية في دول غربية، وغير منتشرة في أمريكا الجنوبية مثلا أو عند دول لها نفس تحدياتنا الخارجية؟

إن تركيب وتعدد أسباب الظاهرة وانفلات ملامحها عن التحديد والتعميم، يجعلنا نتلمس فهمها والاقتراب منها من خلال توطينها وتجسيدها على الأرض وتشريحها في حالات منفردة. وهنا نعود لنتساءل: لماذا يعدّ المغرب ثالث دولة مصدرة لمهاجري الموت؟ ولماذا يتركز هؤلاء في شماله؟

وفي سؤال مشابه لأحد مقدمي برامج التلفزيون المغربي: لماذا يقدم مغاربة الخارج للمشاركة في التنظيمات الإرهابية والهجرة إلى بؤر الصراع أكثر من الأتراك؟ رغم ما يعانونه من تحديات مشتركة في بلاد المهجر؟

سأقارب الإجابة عن هذه الأسئلة موظفا التحليلات الاقتصادية والثقافية والتآمرية في مدن منطقة شمال المغرب، كمنطقة مصدرة للمهاجرين ومهاجري الموت. 
المعروف أنه لفهم ظواهر معاصرة لابد من العودة للتاريخ، وعودتنا تحديدا “لجيل الإكس/Gen X” كما يسميه الديموغرافيون. ويشمل هذا المصطلح الأشخاص الذين ولدوا في أوائل الستينات حتى أوائل الثمانينات، وهو الجيل الذي عايش تهميشا سياسيا واقتصاديا في المنطقة، بعد حسم السلطة للقصر ونخبة فاس (حزب الاستقلال)، على حساب نخب الريف بقيادة “عبد الكريم الخطابي”، ونخبة تطوان (حزب الشورى والاستقلال) باعتبارها نخب عاصمة المنطقة الخليفية إبان الاستعمار الإسباني.

وبسبب هذا التهميش الاقتصادي والسياسي، أُنتجَ لنا في بداية الثمانينات حتى أواخر التسعينات، انتفاضات شعبية -انتفاضة 84- مطالبة بالرفاه الاقتصادي، وتنامى الوعي المعارض والثائر. وبرزت ظواهر الاقتصاد غير المهيكل، من تهريب – لوجود مناطق حدودية “سبتة” و”مليلية” المحتلتان – وتجارة للمخدرات، وكذا تهجير سياسي من خلال تشجيع السلطة -خاصة في منطقة الريف- للهجرة نحو أوروبا، حسب ما أورد عبد الله البارودي في كتابه: “المغرب، الإمبريالية والهجرة”، فيما يقصد الأقل حظا الهجرة السرية من خلال قوارب الموت.

يمكن القول إن رهان هذا الجيل كان يتجه للخلاص الفردي من خلال كفاحه للعيش الكريم -داخل المغرب أو خارجه-، والجماعي من خلال مشاركته السياسية- المسموحة والسرية- من أجل مجتمع الرفاه.

بيد أن “جيل الواي/Y” أو جيل الألفية، وهو الجيل الذي ولد في أوائل الثمانينات حتى بداية الألفية الثالثة، قد نشأ في ظل تحولات دولية كبرى -حرب الأفغان، وحرب الخليج الأولى، وسقوط جدار برلين، وبداية العولمة، وإطلاق خدمة الإنترنت، حتى أحداث الحادي من شتنبر-  ووطنية مهمة – نهج الدولة المغربية لتنزيل سياسة التقويم الهيكلي، وتخريب التعليم بجعله تعليما منافي لقيم العقلنة وروح العصر، السماح بصحون الستالايت وغزو قنوات الخليج، وفشل التناوب التوافقي-، ساهمت هذه التحولات إلى جانب عامل المدن الحدودية التي تشتهر بخطورتها بسبب انتقال وعيش المواطن فيها بين سيادتين، وسهولة التعبئة الخارجية فيها، ونزعة ساكنتها المحافظة، مع مباركة ودعم دول المركز الرأسمالي للأنظمة الاستبدادية بالعالم العربي والمغاربي في انتشار الفكر الديني المتطرف والعنيف.  

وبدأت المنطقة تسجل مشاركتها بتصدير مهاجري الموت من بداية الألفية، في كل من تفجيرات مدريد، والحرب في العراق، والحرب في سوريا وليبيا، ناهيك عن انتشار الذئاب المنفردة.

وكأن لعنة أصابت انتقالنا من “جيل الإكس” إلى “جيل الواي”، حيث سبق الماء والغرق فيه، الاحتراق بالنار والتحزم بها للانفجار.