
الأشجار تموت واقفة..!

في الذكرى الأربعينية لوفاة رشيد سكيرج
آراء أخرى
قبل عدة شهور، وبمناسبة التقديم الذي كتبته للعدد الخاص عن 23 مارس بجريدة الملتقى، استحضرت ذكرياتي مع رشيد سكيرج الذي ناضلت إلى جانبه بالخارج في منظمة 23 مارس، طوال عشر سنوات، واشتغلت معه في جريدة 23 مارس لمدة ست سنوات. وقلت عنه بأنه ترك لدي في البداية انطباعا بأنه شخص «يصعب الاقتراب منه» وأنه كان صعب المراس. كما كان يوحي به الظاهر، بطبيعة الحال تبدد هذا الانطباع مع مرور الأيام ومع الاحتكاك أكثر مع رشيد.
اليوم وأنا مدعو لإلقاء كلمة تأبين في حق الفقيد العزيز، أجدني أكثر تلعثما في الحديث، وأجده أكثر مهابة. قبل عدة شهور، كانت يحدوني شعور بضرورة تكريم جيل كامل من المناضلين خشية الإهمال والنسيان، ومنهم رشيد؛ بل وفي مقدمتهم رشيد. ولذلك ألمحت إلى اشتغال رشيد كمدير إداري باليوم السابع إلى جانب المرحوم محمد باهي وقلت بأنه من تقاعده المتواضع بعمله في اليوم السابع وفي وكالة الأنباء العراقية يعيش حاليا الشقيق الأكبر للبشير سكيرج حياة الكفاف والمعاناة من العزلة وتدهور الأحوال الصحية. كان ذلك ورشيد ما زال بين ظهرانينا. كنت أتحدث عن رشيد سكيرج الذي عرفته بباريس فقط، وكنت أنطلق من ذكريات شخصية. ومن هنا مصدر تهيبي في الحديث عن رشيد سكيرج وقد طُويتْ مرحلة باريس وعاد ليعانق الوطن بالمطلق، متحررا من الزمان والمكان ليستقر جثمانه في الأعالي بطنجة.
مصدر التهيب أني كنت ما زلت على مقاعد الدراسة وفي مرحلة الحبو السياسي والنضالي عندما كان رشيد يلعب في نادي الكبار. أتحدث عن رشيد سكيرج المناضل ضد المستعمر في عهد الحماية، والمنتمي لإحدى خلايا حزب الاستقلال تحت المسؤولية المباشرة للمهدي بنبركة ، وهو بعد تلميذ بثانوية مولاي يوسف بالرباط التي سيتعرف فيها على زميل دراسة اشتهر بين التلاميذ بالمعمش لرمد في عينيه، لكن اسمه الحقيقي أحمد الدليمي: شاب مندفع وميال الى العنف سيكون له معه ومع المهدي بنبركة على الخصوص قصة أغرب من الخيال. مع احتداد النضال ضد المستعمر بعد نفي محمد بن يوسف في غشت 1953، سيطرد رشيد من المدرسة مع تنويه من الجنرال جوان بأنه محرض خطير. وهو نفس التنويه الذي سبق أن حظي به المهدي بنبركة من الدوائر الاستعمارية وبناء عليه تم نفيه في 1951 إلى الصحراء لمدة ثلاث سنوات. سيضطر رشيد إلى العودة إلى مسقط رأسه بطنجة هناك حيث أسرته ذات المكانة العلمية والدينية المعروفة، وحيث الوضع الدولي للمدينة يسمح له بمتابعة الدراسة والنضال حتى الاستقلال. أما أحمد الدليمي فسيتبع مسارا مغايرا تماما يقوده بعد تخرجه من المدرسة العسكرية بمكناس وقضائه فترة تدريب بفرنسا، الى القوات المسلحة الملكية المنشأة حديثا، برتبة ملازم أول وبتوجه يحمل بصمات محيط غير الذي تربى فيه رشيد سكيرج والمهدي بنبركة.
استجابة لتوجيه المهدي بنبركة، سيلتحق سكيرج بوزارة الداخلية للعمل بسلك الأمن تحديدا. كان فكر المهدي مشدودا إلى ضرورة بناء المغرب المستقل على كل الأصعدة وفي كل الميادين لملء الفراغ الذي سيتركه الفرنسيون والاسبان بعد مغادرتهم. ولذلك يجب وضع الأطر الكفؤة في الأماكن المناسبة. وبالنسبة لجهاز الأمن، لم يكن المنظور القمعي الذي ساد لاحقا واردا على الاطلاق. بل التوجه الوطني والتقدمي لخدمة الشعب وبناء الوطن وحماية الاستقلال واستكمال التحرير. وفي هذا الاطار كان تعيين محمد الغزاوي المنتمي لحزب الاستقلال وأحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال على رأس هذا الجهاز.
نحن في بداية عهد الاستقلال. المغرب ورش كبير بعد استقلاله رسميا عن فرنسا واسبانيا. تنصيب المؤسسات والأجهزة المجسدة لهذا الاستقلال: حكومتا البكاي الأولى في ديسمبر 55، والثانية في 2 مارس 1956، إنشاء وزارة الخارجية في ابريل وبنائها لبنة لبنة من طرف أحمد بلافريج قبل أن يفككها من جاء بعده. تأسيس القوات المسلحة الملكية في 14 ماي. وفي 16 ماي تأسيس الأمن الوطني. إنشاء المجلس الوطني الاستشاري في 3 غشت وانتخاب المهدي بنبركة رئيسا له. سيلعب المجلس الاستشاري دور برلمان حقيقي، ولو لم يكن منتخبا، بما اتصف به من جدية ومسؤولية. فيه سيتم تبني مبدأ عدم التبعية باستعادة السيادة الوطنية وتوحيد التراب الوطني وجلاء الجيوش الأجنبية وضرورة استقلال الجزائر.. وعنه ستصدر توصية سيادية هامة أخرى تتعلق بصون العملة الوطنية والاستقلال الاقتصادي.. ماي 1958، تشكلت حكومة بلافريج التي لم تستمر أكثر من ثمانية أشهر. وفي ديسمبر من نفس السنة تشكلت حكومة عبد الله ابراهيم التي لم تعمر أكثر من سنة ونصف.
كانت الآفاق مشرعة على بناء المغرب الجديد.. كان الطموح والحماس والارادة.. كان الملك المحبوب وزعماء الحركة الوطنية يخوضون الجهاد الأكبر كل في مجاله. كان هناك علال الفاسي الزعيم وصاحب الكاريزما والوطنية الصادقة المستندة الى السلفية العالمة المالكية المنفتحة، أحمد بلافريج والوطنية المطبوعة ببعد النظر المتأثرة بالليبرالية المستنيرة، عبد الله ابراهيم والوطنية ذات البعد العربي واللصيقة بالنضال العمالي، عبد الرحيم بوعبيد وبرنامجه الاقتصادي التقدمي الرائد، المحجوب بن الصديق والنقابة أولا، قادة المقاومة محمد البصري، عبد الرحمن اليوسفي، عبد السلام الجبلي ومحمد بنسعيد بزخمهم الكفاحي التحريري… والمهدي بنبركة طبعا، دينامو المغرب بحق. منظم كل شيء ومقتحم لكل الميادين.. ابتداء بحشد الجماهير الغفيرة لاستقبال الملك العائد من منفاه على طول الطريق من مطار سلا الى القصر الملكي، في 17 نوفمبر 1955 ، مفخرة طريق الوحدة لاعادة اللحمة بين شمال المغرب وجنوبه، وإطلاق برنامج محاربة الأمية وجريدة منار المغرب الشهيرة، ومعلمة المجلس الوطني الاستشاري، وانتهاء بتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أراده أداة تقدمية لحشد أوسع الجماهير وتعبئة كل القوى الحية لبناء المغرب الجديد.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الحراك – كما يقال بلغة اليوم – كان يصطدم بالعراقيل ووضع العصا في العجلة من طرف من ليست لهم مصلحة في التحرر الكامل من الأمبريالية والاستعمار الجديد في وقت ما زال فيه الاحتلال الأجنبي جاثما على أجزاء من الوطن المغربي وما زالت هناك قواعد فرنسية وأمريكية وما زالت الادارة والاقتصاد بيد الأجانب… كان الذي يجسد هذا التيار ويمثل، مع فئة من أقرانه وحوارييه، الاتجاه المعاكس بموازاة مع النظام الرسمي وحكومتي بلافريج وعبد الله ابراهيم، وضدا على الميول الوطنية لمحمد الخامس، هو الأمير مولاي الحسن، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية والذي أصبح في 9 يويوز 1957 وليا للعهد، وهذا دون أن يولي الوطنيون لتحركات الأمير وميوله ونواياه أهمية تذكر اعتقادا منهم أن الوقت كان سيكون لصالحهم لو لم يمت محمد الخامس فجأة.
سيستقر رشيد في الجهاز الاستخباراتي ويحتل رتبة عميد شرطة. سيتلقى التداريب بلندن وسيشهد تحول الجهاز تدريجيا من سيطرة الفرنسيين عليه الى غاية 1958 ليحل محلهم الأمريكيون من المخابرات المركزية CIA بقيادة مسؤول أمريكي من أصل لبناني اسمه السيدناوي، وسيخضع لمختلف التداريب الاعتيادية في المجال الاستخباراتي ولكن أيضا الى «التثقيف» الايديولوجي كما تفهمه وكالة المخابرات المركزية من أن العدو الرئيسي للشعوب هو الاشتراكية والشيوعية وبالنسبة للوطن العربي، العداء، زيادة على ذلك، لتيارات القومية العربية وبشكل خاص لجمال عبد الناصر وأفكار حزب البعث. شهد رشيد سكيرج التحول الهيكلي لجهاز المخابرات المغربي من جهاز ملحق بإدارة الأمن الى جهاز مستقل يحمل اسم الكاب1 بهيكلة مستقلة وميزانية مستقلة ومقر خاص يقع في زنقة ادريس الأول رقم 8 و8 مكرر، عندما أصبح على رأسه أحمد الدليمي الذي جاء به محمد أوفقير عندما عين مديرا عاما للأمن الوطني في يوليوز 1960. لفت الدليمي اليه أنظار المسؤولين خاصة القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية ولي العهد الأمير مولاي الحسن أول الأمر في قمع تمرد عدي وبيهي حيث سيبدي الدليمي كفاءات ميدانية خاصة في الجانب الاستخباراتي المتعلق بهذه القضية. وسيتعرف عليه أوفقير في حرب الريف سنة 1958 وسيتعرف عنده على الكفاءات الاستخباراتية إياها، مع أن التيار لم يكن يمر دائما بينهما. أما رشيد فإنه سيكتشف جانبا آخر من شخصية الدليمي، زيادة على الاندفاع والعنف اللذين عرف بهما منذ كان تلميذا بثانوية مولاي يوسف، هو حبه الكبير للمال الذي سيتهافت على جمعه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة بالخصوص. وسيرى مع الجميع كيف أنه شرع مبكرا في تشييد فيلته الفخمة بأكدال بإمكانيات لا تتوفر لديه بهذه السرعة وانما بواسطة السطو على مواد البناء من أوراش البناء الخاصة أو العامة بالمدينة… وهي ممارسة سار العمل جاريا بها فيما بعد. وصار الأمر مفهوما عندما اطلع على تصرفاته في الميدان: مثال واحد يكفي لفهم الباقي: أعطى أوامره مرة لرجاله باقتحام مستودع تابع لجبهة التحرير الجزائرية ومصادرة محتوياته من أطنان الدقيق وغيرها. باع الطحين ووضع المال في جيبه بكل بساطة.
سيشهد رشيد التحول الذي سيطرأ على نشاط هذا الجهاز من جهاز لحماية الوطن وسيادته كما هو الشأن في جميع البلدان ذات السيادة، الى جهاز لرصد تحركات الوطنيين من قدماء المقاومة وجيش التحرير وحبك المؤامرات والدسائس وتدبير الاغتيالات ضد المعارضين، عندما سيحتد الصراع بين القصر والمعارضة الاتحادية بالخصوص.. استطاع رشيد سكيرج أن يطلع على التقارير السياسية التي كان يحررها مفتش شرطة مخلص لرؤسائه الجدد ومتحمس في تتبع نشاط التقدميين اسمه ادريس البصري.. فصار رشيد بدوره يمد المهدي بنبركة يوميا بتلك التقارير وبالأخبار والمعلومات التي من شأنها أن تساعده وتساعد أعضاء المقاومة وجيش التحرير في انجاح مساعيهم. ونظرا لأن أوفقير كان على ارتباط عضوي بالمخابرات الفرنسية التي كان يساعدها في تتبع نشاط جبهة التحرير الجزائرية بالخصوص، فقد كان رشيد بدوره يشتغل على هذا الصعيد بقدر ما يستطيع وبخاصة في مجال تزويد مسؤولي جبهة التحرير الجزائرية بما يحتاجون اليه من الوثائق الادارية كالجوازات وبطائق التعريف لتسهيل تحركهم على التراب المغربي. وبوجوده في هذا المركز الحساس كان يحدث لرشيد أن يطلع على وثائق تتعدى أهميتها الحدود الوطنية. فقد سلم للمهدي ببنركة وثيقة للمخابرات المركزية الأمريكية عن وجود محاولة لاغتيال الرئيس الغاني قوامي نكرومة الذي أخبر بدوره المعني بالأمر الذي نجا من الاغتيال وان كان قد أطيح فيما بعد سنة 1966. أما عن علاقة رشيد سكيرج بأعضاء المقاومة وجيش التحرير والمساعدات التي كان يقدمها لهم والمتمثلة في التزويد ببطائق التعريف مثلا بعد الحملة التطهيرية التي تعرض لها المنتمون منهم الى الأمن الوطني بالخصوص، فأترك الكلمة لأحد هؤلاء المقاومين للحديث عن رشيد سكيرج؛ ودوره في تلك المرحلة، وهو المناضل الحسين تراگا المعروف بالحسين الصغير المسؤول الأمني الآخر الذي كان على رأس جهاز الساتيام المشهور، وذلك في حديثه الى مجلة زمان في عددها لشهر ديسمبر الأخير.
يقول الحسين الصغير:
رشيد سكيرج؟.. «تدمع عيني عندما يذكر اسمه. وأتذكر اللحظات التي عشناها معا، والمحنة التي تعرض لها. كان رشيد سكيرج من الشباب المنخرطين في جهاز الأمن الوطني بعد الاستقلال. لكنه، خلافا للبعض، كان وطنيا. رأيته أول مرة في «الكاب1» بالادارة العامة للأمن الوطني، عندما كنت أزور الغزاوي. كان مكتبه قريبا من مكتب ادريس حصار، مدير ديوان الغزاوي. و«الكاب1»، قبل أن يصبح جهازا للقمع، كان في تلك الفترة يتكلف بالتنسيق بيتن إدارة الأمن والقصر الملكي. في أحد الأيام اتصل بي بنبركة ليطلب مني التنسيق معه، بعدما كان يأتي بنفسه الى المهدي ليطلعه على المعلومات السرية التي يتوصل بها وتكون لها أهمية سياسية، أو تخص العلاقات مع فرنسا واسبانيا… كان المهدي آنئذ رئيسا للمجلس الاستشاري؛ ومن شأن تردد سكيرج عليه أن يثير الشبهات ويجلب لهما المتاعب. هكذا صرت أتولى الاتصال مع سكيرج بشكل سري وفق قواعد أمنية اتفقنا عليها؛ فآتي من الدار البيضاء إلى الرباط رفقة عمر الفرشي، وآخذ منه الوثائق التي يخرجها من الادارة لأنسخها وأنقلها للاخوان في المقاومة، أو أنقلها بشكل شفوي أحيانا. ثم مدنا بآلة نسخ خاصة وضعناها في بيت بسلا بواسطة عبد الفتاح سباطة.
… استمر الأمر على هذا المنوال. وعندما غادرت «الساتيام»، بقي سكيرج يتصل برفيق آخر. عندما اعتقل محمد بنحمو الفاخري سنة 1960، عرفنا بفضل سكيرج، أنهم عثروا معه على وثائق وأسلحة هربت من جيش التحرير بالجنوب غداة حله، وعهد إليه بإخفائها في ضيعة بنواحي الدار البيضاء. بفضل سكيرج أيضا، عرفنا أن بنبراهيم هو الذي تكلف بترتيب ودراسة تلك الوثائق. فلجأت الى بنبراهيم، الذي لم يكن معنا في الحزب، لكنه كان يتعاطف مع المقاومة؛ لأحصل على مزيد من المعلومات. عندما اضطررت للجوء الى الخارج، سلمت الإخوان لائحة بأسماء العناصر التي كنت أتصل بها في جهاز الأمن، ومن ضمنهم رشيد سكيرج. تولى إخوان آخرون التواصل معه؛ منهم البشير الفيگيگي. تسلم منه الأخير وثيقة سرية على أن ينسخها ويعيدها إليه، لكنه لم يفعل. فوجئ سكيرج بأحمد الدليمي، الذي أصبح مسؤولا عن «الكاب1»، يسأله عن هاته الوثيقة بالذات. فهم أنه ربما يكون اكتُشِف؛ فدبر أمره ولجأ إلى الخارج. سكنت أسرتي وأسرته نفس الببيت في وهران، واشتغل في الصحافة، ربما في جريدة المجاهد عن طريق محمد باهي، ثم في وكالة الأنباء العراقية بباريس. كان شاهدا في محاكمة المهدي بنبركة كما هو معروف. استقر بعد ذلك في فرنسا وبقيت علاقاتنا مستمرة، وكنا ننوي كتابة مذكراتنا معا، دون أن تسعفنا الظروف مع الأسف…».
انتهى كلام الحسين الصغير.
سيختفي رشيد سكيرج عن الأنظار لمدة ثلاث سنوات تقريبا ويعيش في سرية تامة بين الجزائر وفرنسا إلى أن انفجرت قضية المهدي بنبركة يوم الجمعة 29 اكتوبر 1965، حين اقتاده من أمام مقهى ليب بشارع سان جيرمان بقلب باريس، في الساعة الثانية عشرة والربع، شرطيان فرنسيان بالزي الرسمي هما Luis Souchon وRoger Voitot الى سيارة بيجو 403 يوجد على متنها Antoine Lopez عميل المخابرات الفرنسية والموظف بمطار أورلي، وJulien le Ny أحد المجرمين الأربعة الذين التجأوا الى المغرب مباشرة بعد العملية، انطلقت السيارة توا نحو الضاحية الباريسية الجنوبية Fontenay-le-Vicomte حيث يقطن Georges Boucheseiche أحد قدماء الغيستابو يتواجد معه في الفيللا مجرمان آخران هما Jean Palisse و Pierre Dubail. هناك ينتظر الجميع وصول أوفقير والدليمي والممرض بوبكر الحسوني يوم السبت 30 اكتوبر. سيأتي الأول من فاس بعد استقباله فيها من طرف الحسن الثاني، وسيأتي الثاني من الجزائر حيث كان في زيارة عمل. هنا اذن نهاية السير بالنسبة للمهدي بنبركة.
بقية الأحداث صارت معروفة بفضل التحقيقات التي استمرت شهورا وشهورا، وبفضل شجاعة رشيد سكيرج الذي سيكون شاهد اثبات في هذه القضية. لن يقول كلاما كثيرا لكن حضوره وتبادل النظرات مع المتهمين قالا كل شيء. تم فضح كل شيء عن ممارسات وجرائم جهاز الكاب1، عن المتورطين من الجانبين المغربي والفرنسي: أوفقير والدليمي طبعا، أنطوان لوبيز الموظف بأورلي عميل رسمي بجهاز الـ DST. رشيد يعرف علاقته بأوفقير عندما كان يشتغل بمطار طنجة ويمد المخابرات الفرنسية بالمعلومات عن الثورة الجزائرية بتنسيق مع أوفقير ويعرف ارتباطه بأوساط المجرمين «المتقاعدين» من مختلف الأجهزة المنتهية صلاحيتها مثل الغيستابو وLe SAC الجهاز الديغولي المعروف. الغالي الماحي، منسق الاتصال مع الأطراف الفرنسية المنفذة للاختطاف، رجل أوفقير الذي يعتبره كابن له مكلف بكل المهام القذرة وغير القذرة بما فيها البيتية والعائلية. الشتوكي: لغز الألغاز لمدة طويلة في قضية المهدي بنبركة سيتضح أنه شخص لا وجود له بل اسم مستعار استعمله ضابطا مخابرات أحدهما تابع لأوفقير هو هابي الطيب الذي تحول بعد موت أوفقير الى ناشر صاحب Editions La porte ومكتبة les belles images أمام البرلمان قبل أن ينتقل الى عفو الله. ربما يكون هابي قد قام ببعض الاتصالات التمهيدية ولكنه ليس الشخص المسؤول عن تنظيم متابعة واختطاف بنبركة. الشتوكي الحقيقي هو ميلود التونزي رجل الدليمي المدبر الرئيسي للعملية من المتابعة في القاهرة وجنيف الى التنسيق مع الأطراف الفرنسية والحضور في عين المكان لمراقبة التنفيذ بل وتصوير المشهد حسب بعض الروايات.. ألم يكن المهدي بنبركة على موعد مع المخرج Georges Franju والصحفي الطعم Philippe Bernier والمثقف الصعلوك والجاسوس Georges Figon لانجاز فيلم باسطا؟ تجدر الاشارة الى أن ميلود التونزي هو المتهم المغربي الوحيد الباقي على قيد الحياة بعد موت الغالي الماحي وعبد الحق العشعاشي وبوبكر الحسوني الممرض الشهير وتصفية المجرمين الفرنسيين في المغرب بعد انتهاء صلاحيتهم.
انتهت محاكمة باريس لمختطفي المهدي بنبركة في 5 يونيو 1967. ومن وقتها اتخذت حياة رشيد سكيرج نمطا شبه اعتيادي وكأنما حررته شهادته أمام المحكمة من خوف طالما كبل خطاه، زال الخوف وإن لم يزل الاحتياط والاحتراس والتيقظ، سيما وأنه تعرض من طرف نفس الجهاز للاختطاف قبل المهدي بسنتين عندما جاءه الغالي الماحي نفسه مع عدد من الزبانية يريدون اقتياده الى الدليمي الذي كان يريده حيا أو ميتا وكما يحكي رشيد فإنه لم يتخلص من الأحبولة إلا بفضل أصدقاء جزائريين تواجدوا في عين المكان.
سيكشف رشيد سكيرج النقاب أيضا عن جريمة أخرى للجهاز المغربي السيء الذكر هي جريمة تصفية محمد الحريزي المشهور بميشال الحريزي وزوجته السويسرية إريكا وطفلتهما الصغيرة.. وذلك سنة 1962.
اشتغل رشيد بفرنسا مع ودادية الجزائريين يقوم بمحاربة الأمية وسط العمال وأنشطة أخرى مشابهة لكنه ما لبث أن فك ارتباطه بالجزائريين لأسباب تتعلق بأنفة الرجل فدبر له محمد باهي عملا الى جانبه في وكالة الأنباء العراقية التي كان مديرا لها أوائل السبعينات لكن العمل الذي سيستقر فيه أطول مدة هو عمله كمدير إداري في مجلة اليوم السابع التي أصدرها الفلسطيني بلال الحسن في الثمانينات الى جانب محمد باهي أيضا الذي شغل منصب رئيس التحرير. وبقي فيها الى أن تقاعد وكان معاش رشيد سكيرج عندما توفي لا يتعدى خمسة عشر ألف أورو يذهب نصفها ثمنا لكراء شقته في Saint-Mandé بالـ Val-de-Marne قرب باريس وكان ذلك المعاش مصدر عيشه الوحيد.
نشط رشيد في المجال الحقوقي في بعض جمعيات مناهضة القمع وظل على ارتباط ببعض الشخصيات التي كانت قريبة من المهدي بنبركة وعبد الرحمن اليوسفي ومنهم Albert-Paul Lentin الذي اشتغل مع المهدي على مستوى نضال القارات الثلاث. وساهم من الناحية السياسية في تأسيس تيار حلقة المهدي بنبركة كما شكل مع محمد بنسعيد وعبد السلام الجبلي وحميد برادة إطارا يساريا منسجما عرف في تاريخ اليسار المغربي السبعيني بالخارج بمجموعة ج والتي دخلت في نقاش توحيدي مع التيارين الآخرين في الخارج هما أ وب، أي الى الأمام و23 مارس. وهذا النقاش التوحيدي هو الذي أثمر عددا من المبادرات التاريخية كان على رأسها إصدار جريدة أنفاس في نسختها الجديدة باللغتين العربية والفرنسية وتأسيس لجنة مناهضة القمع بالمغرب بالتعاون مع بعض المناضلين الفرنسيين. وقد أسهم رشيد سكيرج في المجالين معا. أما النقاش التوحيدي الذي انطلق في صيف 1972 فقد أثمر التحاق الرفاق الأربعة والمناضلين المرتبطين بهم في فرنسا والجزائر على الخصوص، بمنظمة 23 مارس في ربيع 1973. سيشتغل رشيد بالقطاع العمالي لهذه المنظمة التي ستصدر في 15 نوفمبر 1975 جريدة تحمل نفس الاسم يعتبر رشيد سكيرج من مؤسسيها إلى جانب محمد بنسعيد ومحمد حبيب طالب ومحمد المريني قبل التحاقي بها من الجزائر التي كنت التجأت اليها نهاية ديسمبر 1971، والتحاق العربي مفضال من المغرب هروبا من القمع الذي ضرب المنظمة في 1974. سيساهم رشيد في جريدة 23 مارس بحماس الشباب تماما مثل محمد بنسعيد الذي كان يرقن الجريدة من أولها إلى آخرها على الآلة الكاتبة إضافة الى الكتابة في الوضع العربي وإلى التوزيع النضالي والارسال واللوجستيك.. تكلف رشيد بالاخراج وبالجانب الاداري والعلاقة مع المطبعة وشركة التوزيع ومع مدير النشر Albert-Paul Lentin… إضافة الى التحرير بكتابة المقالات حول الوضع الدولي. وتحمل نفس المهام في العدد الفرنسي الى جانب عيسى الورديغي وعبد اللطيف بوعسرية وبوشعيب حداج والمرحوم المنصوري الذي كان ينتمي تنظيميا لإلى الأمام. إننا، ونحن نتحدث عن رشيد سكيرج، نستحضر خصالا نادرة من الصعب الاحاطة بها بواسطة كلمات مثل الدقة، الاتقان، المثابرة، المواظبة، احترام الوقت، الانضباط، الاستماع للآخرين، التواضع، الأنفة، وما قل ودل من الكلام دائما حتى أننا الذين التقينا به في فرنسا واشتغلنا معه عشر سنوات لم يكن أغلبنا يعرف عن تاريخه أكثر من أنه مناضل اتحادي قديم، عرف عن رشيد احتياطه المبالغ فيه أحيانا.. وطبعا الأناقة في الهندام وهي أمور قلما كان أغلبنا يعتبرها من الضروريات..
شخصيا، التقيت برشيد مرات قليلة منذ رجوعنا النهائي الى المغرب. واتصلت به تلفونيا عندما فقد ابنته الصغرى هند منذ بضع سنوات. بدا محطما. بعد ذلك تدهورت حالته الصحية. منذ ثلاث سنوات ألححت على زوجتي أن تحاول زيارته عند مرورها بباريس قبل أن تستقل القطار الى رين. اغتبط كثيرا بهذه الزيارة وتجشم المجيء الى مطعم غير بعيد عن بيته للغذاء معها متوكئا على عصاه وظهره مقوس. قال إن حالته لا تسمح للأطباء بإجراء عملية على ظهره ويكتفي بأخذ المسكنات. في سبتمبر الفائت، قبل شهرين من وفاته، اتفقت مرة أخرى مع زوجتي أن تذهب لزيارته. هذه المرة كان من الضروري المرور عن طريق ماري أوديل، أم خليل الورديغي، وأحييها بالمناسبة باسمكم جميعا لعنايتها برشيد طوال الشهور الأخيرة من مرضه فقد كانت تزوره أسبوعيا ثم مرتين وثلاث مرات في الأسبوع لتدبير أحواله مع المستشفى والأطباء والممرضة والمساعدة الاجتماعية.. الخ. استشارته ماري أوديل أولا في أمر الزيارة لأنه لم يعد يسمح بالزيارته لأي كان، فقبل. لكن خاب ظن زوجتي وقد شعرت وكأنه لم يتعرف عليها فأعادت عليه بأنها فلانة زوجة فلان. لبث هنيهة لا يقول شيئا ثم أخذ يسألها عن الأحوال في غير ما حماس. وفجأة أبرقت عيناه ملتفتا إلى الشجيرة اليانعة في جانب من المكان ونادى زوجتي باسمها: فلانة، تعالي انظري هل تذكرين هذه الشجيرة؟ إنكما أنتما من أهداها لي عشية دخولكما النهائي الى المغرب…!
كان ذلك منذ ثلاثة وثلاثين سنة. وتلك الشجيرة ترعرعت أول مرة في بيت محمد المريني والسعدية السعدي وعند دخولهما الى المغرب بعد عفو 1980، استقرت في بيتنا إذ لم نكن قد قر قرارنا على الدخول النهائي بعد، مع اشتراط وطول إلحاح من السعدية بالاعتناء بالشجيرة إياها لتستقر أخيرا في بيت رشيد بعد دخولنا. لا شك أن تلك الشجيرة قد أصبحت يتيمة وستكون حزينة لأن الأشجار هي الأخرى بحاجة الى العناية كي تستمر على قيد الحياة لكنها إذا حدث وماتت فانها تموت واقفة.