يستأثر موضوع السياسة والدين لدى الشباب باهتمام بالغ، وتختلف رؤية هذه الشريحة في مجتمعنا الراهن بتداخل المفهومين وتناقضهما، ما بين تيار يعيد صياغة نظرية العلمانية بالشكل المتداول المعروف، حيث يجعل من علامات التدبير السياسي المدني للدولة أمرا حقيقا بالمواكبة والامتداد تدريجيا، مع ما يحيق من توجس وعدم اندماج، دون قابلية لفهم أبعاد هذا الاتجاه ومراميه بخصوص علاقات المجتمع بالتشريعات القريبة من سلطة الدين عليها، كالقوانين المؤطرة للأسرة مثلا لا حصرا.

ويستدل هذا الاتجاه الشبابي بصعوبة اختراق مجتمعنا المحافظ المغلق، وانعدام الجاهزية لديه للتصديق على تحولات أنثروبولوجية واجتماعية غاية في التعقيد، فجزء من هذا المجتمع المعتزل عن العالم الخارجي، والغارق في بنى عميقة من الهشاشة المدنية ومن التهميش الاجتماعي، ويمثل نسبة خطيرة في سلم الأمية والجهل، لا يزال تحت قهر وقيود الأعراف والذاكرة الجمعية، ويرفض الانخراط كليا في عملية التحول من استغلال الدين الرمزية لتقدير بواعث تحولات الواقع ومقاصديته.

في حين يجد فريق شبابي آخر نفسه محاطا بأسئلة الماضي وعوائق الحاضر، بالتماس تحرير المكبوث التاريخي من عوادم الراهن. ذلك أن الحاضر بهزائمه وانتكاساته يذيب الفارق العقلي الشاسع لانتزاع فورة للحنين للانتصارات السابقة. ويثير هذا التحليل التقليداني لدى هذه الفئة جانبا استراتيجيا في الاستعادة القهرية للتاريخ الميثولوجي وموحياته النفسية والتاريخية، إذ القدوة في جانب منها يقدر السؤال البدهي الذي سبق طرحه إبان عصر النهضة، بلسان أغلب منظري الإصلاح الاسلامي الحداثوي : لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟

إن العائق الإبستمولوجي لفهم وتقريب الشعور بثنائية النقيض السياسة ـ الدين لدى المسلم الجديد هو السعة التي تعاكس انتقائية التأسيس للرفض العشوائي الذي يمارس على المتاهة والاجتزاء الموضوعاتي لإشكالية لا تبدو في الجانب النظري تقريبية ومشاعة. فالدين يبقى صلب الاعتقاد بالطهرانية والامتداد الروحي لدى المسلمين منذ أربعة عشر قرنا ونيف من ظهور الإسلام، وهو شرط إيماني يلزم المعتنقين بالاقتداء به والإيمان الأعمى بعناصره.

لكن السياسة في المقابل تنقض النظرية جملة وتفصيلا وتجعلها خارج سيطرة المتداول، حيث تنسف الإيديولوجيا الدينية وتحاربها استتباعا، غير آبهة بقيمها وأخلاقها، متعللة بالغايات الكبرى التي تبرر الوسائل البراغماتية المادية والجوهرية.

إن ما يخيف فعلا ليس اختلال الاختلاف بين الفئتين المتصارعتين، عمن يسبق الآخر الدين أم السياسة؟ لكن الخوف الحقيقي أن يصير هذا الصراع الفارغ مجالا للإقصاء والاستبداد والعدائية الاجتماعية

في مفهوم الأيديولوجيا للمؤرخ عبدالله العروي تأويل فكري مفتوح على انعقاد الأيديولوجيا اجتماعيا وتاريخيا، دون المس بأنساق الاجتماع والاقتصاد والنظريات السياسية. وهو اعتراف مسبق بالتصور الأيديولوجي لسلط الميثولوجيا وعلم السياسة وما بينهما!

كما أن الحديث عن الأيديولوجيا هو أيضا تبئير لمنجز الأفكار والمعتقدات وتحديد لها من منطلق قالبها وشموليتها في مقاربة تعني في ما تعنيه التحول والانتقال بحكم الزمن وسيرورة العقل وملاءمته للعصر والإنسان.

وفي جدل الاعتقاد الديني تحت قهر عالم السياسة وإدارة المجتمع يتبدى ميكانيزم السياسة والمجتمع المدني الحداثي كشكل من أشكال التحرر الذاتي للدولة والإنسان.

إن ما يخيف فعلا ليس اختلال الاختلاف بين الفئتين المتصارعتين، عمن يسبق الآخر الدين أم السياسة؟ لكن الخوف الحقيقي أن يصير هذا الصراع الفارغ مجالا للإقصاء والاستبداد والعدائية الاجتماعية، وهو ما يفجر احتمالات التطرف وتفريخ الأفكار المنغلقة والشاذة. والتجربة في المداشر والجبال القصية كفيلة بأخذ العبر واستكناهها، فقد كانت لهذه الشروخ المعتمة دورا غير مباشر لارتماء شباب في أحضان الجهادية التكفيرية وبزوغ جيل متعطش للدم والشهادة لأجل جنة واهية موعودة تحت موت الأحزمة الناسفة .

إن الانفتاح على أفكار الشباب في المنتديات والفضاءات الجامعية وفي المجتمعات المدنية والأحزاب السياسية هو أولى الخطوات العاجلة لإصلاح العبور لمعرفة عالم الشباب عقلا ونصا، وقد كان لزاما على كل مبادر بهذا الصدد أن يساهم في تنقية الشوائب وترميم المقابض لاستعادة فئة ظلت تئن عقودا تحت نير وقهر مخلفات أزمنة استبدادية ألغت كل مظاهر الديمقراطية وحرية التعبير وأولت الاهتمام الواسع لكبت العقل والوجدان الوطني، حتى نأمن شر الأوحال التي غلت في تأويل ما لا يؤول وجعلت من فائض الدين غربالا للحياة وأساسا لبنيانه، كما السياسة سفينة للنجاة وشطا للفكاك. مع أن لكل شراع ريح تحمل كنهها وتستوعب أدوارها …