من منا لم يحلم في 2011 بمغرب جديد يؤسس للانتقال النهائي نحو الديمقراطية. كنا نعتقد في البداية أن الدستور الجديد يؤسس لقطيعة قانونية و سياسية في تصور الدولة لذاتها  لمجالها الترابي. اعتقدنا، بل و آمنا بأن الدولة قد تصالحت مع امتدادها الترابي و بالتالي مع المواطنين في سياقاتهم الترابية البعيدة عن الرباط و إداراتها المركزية. هللنا و باركنا هذا الورش المؤسساتي الذي يسمى بالجهوية الموسعة، باعتباره لبنة نحو التقعيد الديمقراطي لدولة القانون و المؤسسات. ولعل ما رسخ إيماننا بهذا الورش هو ارتباطه الدستوري بمفهوم الديمقراطية التشاركية، الذي يسمح للمواطنين في مدنهم و قراهم بالمشاركة في تسيير شؤونهم المحلية و التخلص من عقدة “امشي نالرباط” و “باقي ما ردوشي علينا من الرباط”…

اكتشفنا فجأة مع حراك الريف أننا كنا نحلم، أو ربما لم نستوعب شيئا في طبيعة دولتنا اليعقوبية المريضة بالتمركز و التوحد لدرجة الكفر بتعدد محيطها المجالي و البشري. أي نعم اكتشفنا أنا دولتنا لم تتغير بعد في هندستها الشديدة التمركز، كما لم تغير من نظرتها الدونية لهوامشها المجالية.  نعم لقد أبان حراك الريف أن الدولة المركزية في المغرب لا تتعاطى مع مجالها الترابي إلا عبر وسطائها التقليديين مثل الأعيان و الأعوان الإداريين  و الأمن و بعض جمعيات المجتمع المدني الخاضعة لمنطق التشبيك مقابل التمويل  و بعض الأحزاب السياسية التي لا زالت تعيش على إيقاع المرجعيات التقليدية للحركة الوطنية.

ألا يمكن التأسيس لخطاب سياسي جديد يعتبر الحركات الاحتجاجية السلمية كآليات اجتماعية غير مؤسساتية للمشاركة السياسية للمواطنين؟

بيد أن ما يحز في النفس هو هذه الحملة الممنهجة لتشويه و تسفيه  هذا الحراك و رسالته النبيلة، التي تندرج في صيرورة الصراع نحو بناء دولة القانون و المؤسسات الديمقراطية التي يكون فيها المواطن شريكا و ليس خاضعا للسلطات العمومية. إذ تتعدد التحليلات و التفسيرات لهذا الحراك و لطبيعته و لقادته بشكل ينم في الغالب عن جهل مزدوج بتاريخ الريف و آلام و آمال أبنائه المتجددة و بالحد الأدنى من العمق النظري الذي يؤسس للسوسيولوجيا الحركات الاجتماعية عبر التاريخ.

فمن الناحية التاريخية المحضة يمكن القول أن منطقة الريف كانت و تزال منطقة “منكوبة” بتضاريسها الوعرة و بكثافة سكانها و بقلة مواردها الطبيعية. غير أن نكبتها الحقيقية تظل مرتبطة بعلاقاتها المتوترة مع السلطة المركزية منذ نهاية القرن التاسع عشر. و هي العلاقات التي زاد توترها إبان حرب التحيرر التي قادها المناضل عبدالكريم الخطابي. فالكل يعلم عنف الاستعمار الاسباني في المنطقة و الندوب التاريخية التي تركها بها. كما نعلم كيف تعاملت الدولة بازدراء تجاه  إرث عبدالكريم الخطابي مباشرة مع الاستقلال و كيف تخلصت تدريجيا من اللغة الاسبانية و كيف تعاملت مع من يتكلمون الريفية في نهاية الخمسينيات إلى نهاية التسعينيات من القرن الماضي. فقد كان يقال لأبناء الريف أن حقوقهم مرتبطة بتكلمهم اللغة العربية أولا. كما نعلم نحن أبناء الريف سواء في الداخل أو في الشتات عمق الجراح التي تركها عام “بوقبار” 1959 الذي تم فيه قمع انتفاضة الريف بشكل وحشي. فكل العائلات في الريف الأوسط أدت ثمن هذا القمع  بجسد أبنائها المعتقلين و المختطفين من جهة و بالتهميش الإداري و الاقتصادي و الثقافي الذي طال المنطقة منذ الاستقلال من جهة اخرى.

من الناحية العلمية، نحن نعلم أن الحركات الاجتماعية لا تخرج من فراغ، بل هي استجابة تنظيمية طبيعية لدى كل مجموعة لديها مطالب مادية أو رمزية ممتدة في الزمان لم يتم تحقيقها، و بالتالي يتوجب العمل على فرضها عبر الاحتجاج و احتلال المجال العمومي. من هذا المنطلق يعد الاحتجاج في الفضاء العمومي فرصة للمجموعة باستكشاف قوتها التأطيرية و التنظيمية الفعلية، مقارنة مع قوتها الافتراضية عبر وسائط الاتصال الاجتماعية من جهة، ثم فرصة لاستشراف نوافذ الفرص السياسية التي يتيحها النظام و النسق السياسي لتحقيق مطالبها و من ثم تجدرها في المجتمع.

بناءا على ذلك لا يخرج حراك الريف بمطالبه الاجتماعية و بطريقة تنظيمه السلمية و بامتداده الزمني عن هذا الاطار.  فهو حراك لا تأطره أي من التنظيمات السياسية أو النقابية أو المدنية التقليدية. كما لا يستقي مرجعيته من أي مرجعية سياسية معينة بقدر ما ينهل من كل المرجعيات السياسية الموجودة من اليسارية إلى الوطنية و الدينية. كما يمتح في احتجاجاته من سجلات احتجاجية جديدة لم تستعمل بعد في المغرب من قبيل العصيان المدني( الضرب على الطناجر و إشعال الشموع و عدم الاحتكاك مع القوت العمومية و التأكيد المشدد على الطابع السلمي للاحتجاج …) و هي تقنيات احتجاجية معروفة في الكثير من الدول التي عرفت انتقالا سلميا نحو الديمقراطية. و لعل هذه التقنيات الاحتجاجية السلمية تحمل في طياتها إشارة ضمنية إلى المراهنة على ضغط  الشارع لحمل الدولة المركزية على الاذعان لمطالبها و التعامل معها دون الوسطاء التقليديين،  كما توحي برغبة قادة الحراك في  الحفاظ على وقار و هيبة المؤسسات العمومية كشكل متقدم من الاحتجاج السلمي.

قد يجادل الكثيرون، عن حسن نية أو عن سوؤها، أن هذا لا ينفي وجود عناصر و شعارات و ربما تلميحات انفصالية تريد زج الحراك في دوامة احتجاجية يرتفع سقفها تدريجيا نحو المطالبة بانفصال الريف.  فعلا قد يكون ذلك ممكنا، لكنه إلى حدود الساعة لم نسمع بقيادات الحراك تؤكد هذا المنحى، بل على العكس فهي تؤكد و بإلحاح على طابعه الاجتماعي وعلى مطالبه السياسية المتقاطعة مع كل الحركات الاجتماعية ذات النفس السياسي، التي تركز على محاربة الفساد و الحكرة و الفوارق الاجتماعية وعلى تخليق و أنسنة تعامل اللإدارة مع المواطنين.

بذلك تكون تهمة الانفصال غير قائمة تجاه الحراك، كما تكون تهمة التآمر على وحدة الدولة ورموزها مجرد توجسات لدى الدولة المركزية، و هي توجسات تظل مشروعة بالنظر إلى تاريخ الدولة المغربية الذي يمكن اختزاله في تاريخ الصراع ضد التفتت و الانفصال.

بناءا على ذلك ألا يمكن التأسيس لخطاب سياسي جديد يعتبر الحركات الاحتجاجية السلمية كآليات اجتماعية غير مؤسساتية للمشاركة السياسية للمواطنين؟ ألا يمكن النظر إليها كفرصة للإصلاح السياسي و المؤسسي بدلا من اعتبارها مجرد مؤشر على أزمة ما ؟ ألا يمكن التعامل معها بشكل اندماجي باعتبارها أشكالا تعبيرية غير تقليدية و من ثم يتوجب الانصات لها بدلا من قمعها و شيطنتها؟ أليست الدولة في حاجة لإعادة النظر في طرق الوساطة بينها و مجالها الترابي؟ فإذا كان المغرب قد استطاع خلال الستين سنة التي تلت الاستقلال من بناء مؤسسات قوية و مستقرة، ألم يحن الوقت لبناء الثقة في هذه المؤسسات؟ ما الفائدة إذا من مؤسسات عمومية تفتقد إلى ثقة المواطنين و من ثم إلى المشروعية الاجتماعية الضرورية لدوامها و تجدرها؟