“ما أكثر العبر واقل الاعتبار” هذه الكلمة التي تعود لقرون ، تنطبق اليوم على المغرب، فالنظام السياسي المغرب له ذاكرة سمك إذ سرعان ما يعود لنفس الأخطاء والممارسات ، فجميعا لازلنا نذكر ما يعرف في البلاد “بسنوات الرصاص” التي كلفت البلاد و العباد عقودا من التخلف و الفقر و الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، والصراع السياسي بين السلطة ومعارضيها، ولم تحسم نتيجة الصراع رغم ضخامة التضحيات لطرف دون الآخر بل النظام السياسي بقيادة الملك الحسن الثاني اضطر في نهاية فترة حكمه و حياته ، إلى تقديم تنازلات لفائدة المعارضين القدامى لحكمه وسياساته، و تم إفراز ما عرف في التاريخ السياسي المغربي المعاصر بحكومة “تناوب التوافقي” برئاسة السيد عبد الرحمان اليوسفي..

ومع انتقال الحكم لولي عهد الملك الحسن الثاني، كان من المتوقع أن تستمر الدولة في سياسات الانفتاح، و طي ملف انتهاكات “سنوات الرصاص”، وهو ما تم شكليا بتأسيس هيئة “الإنصاف و المصالحة” و تنظيم جلسات عمومية للحديث عن هذه الانتهاكات في إطار ما عرف بالعدالة الانتقالية و هذا التوجه كان أحد أوراش الجالس على العرش، و لطالما تم التسويق لهذا النموذج، وقد تم تخصيص اعتمادات مالية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك المتضررين من الحملات العسكرية التي استهدفت الريف فمابين 1957-1958 ..

و قد تعهدت الدولة بعدم الرجوع للممارسات المنتهكة لحقوقالإنسانو الالتزام بحقوق الإنسان وفق ما نصت عليه المواثيق الدولية، لكن سرعان ما تبين أن الدولة غير جادة فيما التزمت به، وقد تبين ذلك في تعاملها مع تفجيرات الدار البيضاء 2004، إذ تصاعدت وثيرة الاعتقالات التعسفية و الاختفاء القسري والعودة لأساليب العهد البائد..و كانت محطة حراك 2011 فرصة لتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الدولة وأجهزتهاالأمنية، وتم الالتزام مجددا باحترام حقوق الإنسان في دستور 2011..

و هاهي الدولة لا تخلف العهد، فقد عادت لنفس ممارساتها و ذلك في تعاملها من الاحتجاجات السلمية التي عرفتها البلاد بعد 2011 و لاسيما تعاملها مع حراك الريف بعد حادث طحن المواطن المغربي”محسن فكري” الذي كشف بموته عن سوداوية الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الحقوقي للبلاد..و على الرغم من أن بداية الحراك قد عرفت درجة من المد و الجزر في تبني الأسلوب القمعي ، إلا أن الدولة في الآونة الأخيرة اخترت العودة رسميا لسنوات الرصاص..

من المفروض في ظل هذه القلاقل الاجتماعية الناجمة بالأساس عن فساد الحكم وغياب الحكامة، وانعدام العدل و العدالة في توزيع عوائد الثروة الوطنية عموديا و أفقيا..ان تتعامل الدولة بحكمة و تبصر و ضبط نفس بدلا من تفجير الأوضاع و استفزاز مشاعر الشباب المغربي

فمواجهتها للحراك بمنطق العسكرة و متابعة نشطاء الحراك، و اعتقالهم بطرق مهينة للكرامة و في انتهاك صارخ للقانون و الدستور و المواثيق الدولية، فأن يتم تعصيب أعين المعتقلين السياسيين، و التنكيل بهم و تسريب صور لهم، ففي ذلك انتهاك لمبدأ”الأصل البراءة” و ” المتهم برئ حتى تتبث إدانته” ، والإدانة لا تتم إلا بعد محاكمة هؤلاء النشطاء محاكمة عادلة و شفافة و ضمان حقوق الدفاع لهم و مقارعة الحجة بالحجة و السماح لهم بالتواصل مع أهليهم..، بعد ذلك يمكن الإقرار بأنهم جناة أو غير ذلك، ومجرد اعتقالهم لا يعني بالضرورة أنهم جناة كما يتم توصيفهم، فهؤلاء معتقلي رأي و ينبغي أن يعاملوا على هذا الأساس …ولا يجوز تحث أي ذريعة اتهامهم  باتهامات جاهزة، و تشييج الإعلامالأصفر ضدهم، و التحريض على قتل نشطاء الريف و الخوض في خصوصياتهم هتك ستر أسرهم من داخل وسائل إعلام رسمية مملوكة للشعب المغربي، و ممولة من دافعي الضرائب.. و كل ذلك يعد انتهاك للمبادئ الكونية للحقوق الإنسان و التي التزم النظام المغربي بها أكثر من مرة…

أمام هذا السلوك العدواني للأجهزة الدولة لاسيما وزارة الداخلية والنيابة العامة، وسكوت القصر ومؤسسة رئاسة الحكومة عن ما يحدث، يقود البلاد إلى حقبة دموية و انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كان من السهل تطويق الأزمة لا سيما و أن جل المطالب هي اجتماعية واقتصادية وحقوقية،و لم يثبت إطلاقا أن الاحتجاجات دعت إلى الانفصال آو مست سلامة الدولة، فلم نسجل تفجيرا أو محاولة لتفجير أو تدمير للممتلكات العامة أو الخاصة أو المس بالسلامة البدنية للمواطنين ن بل يتم حماية سلامة رجال الأمن الموجودين بعين المكان..

ومن المفروض في ظل هذه القلاقل الاجتماعية الناجمة بالأساس عن فساد الحكم وغياب الحكامة، وانعدام العدل و العدالة في توزيع عوائد الثروة الوطنية عموديا و أفقيا..ان تتعامل الدولة بحكمة و تبصر و ضبط نفس بدلا من تفجير الأوضاع و استفزاز مشاعر الشباب المغربي..و الغريب،أن الدولة تتسامح مع الشغب الذي يعقب مباريات كرة القدم، و تتعامل بقسوة مع احتجاجات سلمية وحضارية هي إفراز لسياسات ظالمة و اختيارات عمومية جائرة،بل  وسائلالإعلام الرسمية سخرت مقاطع و مشاهد سمعية بصرية للشغب الرياضي و نسبته للحراك السلمي..

الدولة هي المسئول الأول عن تفجر الأوضاع ، فالحراك لشعبي أخد في الاتساع جغرافيا فالعديد من المدن المغربية خرجت للتضامن مع أهل الريف ،و أهل الريف عبروا بدورهم عن شكرهم و امتنانهم لباقي مناطق المغرب و من يتابع الأحداث بالحسيمة يفاجئ بدرجة الوعي السياسي و الحضاري لشباب الحراك فعبارة “طحن مو” أصبحت تردد مقرونة بكل جهات و مدن المملكة، وفي ذلك رد على سياسة فرق تسد الذي ينهجها النظام السياسي المغربي، و الذي أكد انه يفتقد للحكمة والتبصر و الانتماء الوطني الصادق..

فبدلا من متابعة ناهبي المال العام ومهربي الذهب و الثروات الوطنية لدبي و سويسرا وباناما، و محاسبة لصوص المال العام و معاقبتهم يتم الاستقواء و الاستعلاء و التنكيل بشباب فقراء، تم تهميشهم ونهب حقوقهم و افتراس ثرواتهم الوطنية، من قبل أوليغارشية لا ولاء لها إلا لمصالحها الضيقة الأفق،وهذه النخبة الحاكمة الفاسدة والمفسدة هي التي تهدد السلم والاستقرار بالبلاد ..

و مع ذلك،نود أن نقول لإخواننا و لمواطنينا في كل شبر من هذا الوطن حافظوا على السلمية، لا تنجروا للعنف، اتركوا المخزن يسفك الدماء و يعتقل الأحرار، فالوطن و طنكم و لا مفر من حمايته و صون وحدته و تماسكه بالغالي و النفيس ..الاستبداد سيزول حتما، وبناء مجتمع قائم على العدل و الحرية والكرامة سيتحقق لا محالة ..

لذلك، فأنتم نسل أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، التي تقابل القضاء بالرضاء و حسن الاحتمال، و تتصف بالحلم والعلم الذي يمدهما به الله جل و علا، و الحلم يمدها بالطمأنينة، والعلم يمدها بالهداية، فالحلم يضبطها و العلم يهديها، والعالم ينظر إلى الغايات و الجاهل يقف عند البدايات..و العاقل يعرف أن مع كل فرحة قرحة، وبعد كل محنة منحة..و منحتنا بناء وطن كريم حر للأجيال الصاعدة.. والله غالب على أمره..